محمود الوهب
يغالبنا الحنين إلى الأهل والمنازل في سورية، الوطن الذي ألفناه وعشنا في جنباته وفق حدودٍ لم تكن مرضية لنا، ولا للتاريخ الذي عاشه أجدادنا. لكننا اعتدنا عليها، فمنذ 24 يوليو/ تموز 1920، واستشهاد البطل يوسف العظمة في معركة غير متكافئة، لم يستكن السوريون، إذ نهض في شمال البلاد وغربها، كما في جنوبها وشرقها، أبطال استطاعوا استعادة ذلك الوطن وإجلاء الفرنسيين عنه في 17 إبريل/ نيسان عام 1946. وهكذا صار لنا، نحن السوريين، وطن ودولة لها جيش وعلم ومجلس نيابي منتخب وفق مبدأ ديمقراطي فعلي.
بعيْد الاستقلال، دارت معارك سياسية واجتماعية بين أهل الوطن الواحد على أرضية إيديولوجيات متباينة، تراوحت بين ما هو قومي عربي، وقومي سوري، وشيوعي، وإسلامي. واستمرّت ودياً طوال سنوات سادتها أجواء ديمقراطية أرسى دعائمها من خاض نضال الاستقلال الوطني، فنما خلالها الاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة والإعلام الحر، وانتعش المجتمع، وأخذ يرتقي شيئاً فشيئاً ريفاً ومدينةً، لكن حزب البعث الذي لم تكن له يد في استقلال سورية، استطاع ضبّاطه الذين تناموا في الجيش بعد الاستقلال أن يعلنوا الوحدة مع مصر عام 1958، على أمل أن يحكموا سورية منفردين، سيَّما وأنَّ الشيوعيين منافسيهم، آنذاك، اشترطوا بنوداً على الوحدة، رافضين حلَّ حزبهم، وأن السوريين القوميين كانوا يعانون عقدة اغتيال العقيد البعثي عدنان المالكي عام 1955، بينما كان خلاف الإخوان المسلمين مع جمال عبد الناصر على أشدّه في مصر، وهكذا قُطِع التطور الطبيعي الذي كان صاعداً في سورية.
لم تدم الوحدة طويلاً، ولا حكم الانفصال، ليعود ضباط “البعث” بانقلاب ثانٍ في 8 مارس/ آذار 1963 إلى الحكم، بعد إبعاد الضباط الوحدويين، وليؤول الحكم إلى حافظ الأسد بعد صراع مع رفاقه، وترتيب مجيئه مع السوفييت والأميركان وبعض الأوساط العربية، ولدى تجّار دمشق الذين وُعِدُوا بانفراج ما! وهكذا أسّس لدولة الاستبداد التي كانت السبب فيما آلت إليه سورية.
ولكنَّ هذه الدولة متأزمة اليوم، كما أنّ المعارضة التي تصدَّرت المشهد السياسي بعد أن هتف الشباب السوري للحرية أواسط مارس/ آذار عام 2011 متأزمة أيضاً. ولأن النظام تصدّى للشعب بالرصاص الحي، وبالاعتقال والسجون، ورفض أي حل سلمي ينقل البلاد إلى نوع من الديمقراطية، تنهي حالات التمييز بين المواطنين، وتقصّ جذور القمع والفساد في أنحاء البلاد، أدخل سورية في نفق العسكرة والتدخل الخارجي، ما قاد إلى تدميرها كلياً، وقتل من أهلها ستمئة ألف إنسان، جلّهم من المدنيين، وهجِّر ما يزيد على ثمانية ملايين، وتوزّع اقتصادها بين الروس والإيرانيين وفق اتفاقيات مجحفة، إضافة إلى سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد)، يقودها حزب العمال الكردستاني تحت رعاية الأميركان وحمايتهم، على ثروات الشمال الشرقي من سورية، إضافة إلى أنَّ البلاد كلَّها مهدّدة بالتقسيم، لا بفعل الاحتلالات المتعدّدة التي تشمل سورية بكاملها فقط، بل أيضاً بفعل ما سبّبته الحرب من كراهية وضغائن أنتجتها حقبة الصراع خلال إحدى عشرة سنة.
سورية اليوم، ومن خلال الواقع المرئي، تتسرّب أمام أعين السوريين أرضاً ووحدة شعب، وكلما طال الزمن يتعمّق تمزّقها وابتعادها، ولا أحد قادراً على فعل شيء، فالشعب السوري محيِّد تماماً، ولعلَّ هذا الأمر هو الأسوأ والأخطر فيما حدث للسوريين، سواء ما تعلق بمن أبعد عن وطنه أم بمن ابتعد إلى حيث وجد الحماية والأمن. ويعاني من عزَّ عليهم فراق الوطن أو لم يجدوا سبيلاً للخروج مرارة العيش، مؤيدين كانوا للنظام أم معارضين صامتين أم رماديين، كما يعانون القمع والإرهاب بسبب الحرب التي أرادها النظام غطاءً لبقائه في الحكم.
سورية اليوم، نظاماً ومعارضة، في حال أسوأ بكثير مما كانت على زمن الاحتلال الفرنسي. ولكل منهما ظروفه، وأسبابه ومبرّراته، بينما الشعب وحده يتلظّى بنيران الفقد والقهر والتهجير، وذل العيش، سواء في المخيمات أم عند النظام، إضافة إلى تحكُّم ألوان المحتلين ومليشياتهم في شؤون سورية والسوريين عموماً. وتتعمق هذه الحال كلما طال الزمن، فقد علمتنا التجربة الفلسطينية أن لا فائدة تُرجى من قرارات الأمم المتحدة التي تأتي وفق توازنات مصالح الدول الكبرى، ويخضع تطبيقها، فيما إذا طبقت، للمصالح ذاتها، وخصوصاً حين يكون طرفا النزاع غير قادرين على التعاطي السياسي بحكمة ووعي، وعلى أرضية الحرص الوطني، ووحدة الشعب.
طرفا النزاع اليوم متأزّمان، فالمعارضة لا تملك زمام نفسها، وعقدتها، كما أسلفت، البعد عن الأرض. حدث في ثوراتٍ كثيرة أن ابتعدت بعض قياداتها، لكن أن تبتعد القيادة مع غالبية من يؤيدها من الشعب فهذه ربما خاصية تميَّز بها النظام السوري القمعي. وأقصى ما تقدر عليه المعارضة هو سعي باهت، ومحاولة لإقناع بعض الدول العظمى بإيجاد حلول للقضية السورية، وأقول سعياً باهتاً لأن المعارضة السورية الرسمية لم تستطع صياغة خطابٍ يفهمه العالم، ولم تستطع إدانة التطرّف، ولا أن تنسل يدها منه، وبقيت في أحسن حالاتها صامتة عنه. ولعلها في البداية عوَّلت على بعض فصائله. ولم تقدِّم أسساً لدولة الحرية، دولة المواطنة المصونة بمبادئ الديمقراطية والقوانين الناظمة لها. ربما فعلت ذلك بعض الجاليات السورية في بلدان اغترابها.
أما النظام فهو مأزوم بما ارتكبه من جرائم بحقّ السوريين أجمعين، وبما استدعاه من جيوش ومليشيات متطرّفة، ارتكبت كل ألوان الموبقات، فضلاً عن أمور التعذيب في المعتقلات حتى الموت، وبخراب المدن الكبرى، مثل حلب وحمص والرقّة وريف دمشق وسوى ذلك، وهو مأزومٌ حتى الآن باستعصاء عودة السوريين إلى وطنهم، وهو مأزوم بالفساد وبنهب الشعب وبتردّي أخلاق المجتمع، إضافة إلى تعثّر خطوات عودته إلى جامعة الدول العربية، وفشل محاولاته إعادة الإعمار.. ولا أحد ينكر اليوم أن سورية محتلة من عدة جيوش، ومهدّدة بالتقسيم، بل ربما بأسوأ من ذلك، وكلَّما طال أمد هذه الحال، فإن سورية التي يعرفها السوريون تتسرّب أو تتبخّر أمام أعينهم.
تحتاج سورية مبادرة وطنية تعلو فوق عمق الجراح، تنهض من ركام الدمار، ودماء الأبرياء، وآلام المشرّدين وأحزان اليتامى والأرامل! ومؤكّد أن من فرَّق لا يمكن له أن يوحِّد، وعرقلة مسار اللجنة الدستورية خير دليل.. لكن هل افتقد السوريون في الداخل والخارج روحهم الوطنية التي أخرجت الفرنسيين؟ لا أعتقد ذلك مطلقاً.. وعلى المعارضة التي تقوم بإصلاح ما أن تعمل على توحيد طاقات الشعب السوري داخلاً وخارجاً، وأن تتعاطى مع الدول الفاعلة وفق مطالب تعكس معاناة السوريين، ويقبلها المجتمع الدولي، ولا بد من أن تدرك المعارضة أن لا حلّ بوجود فصائل متطرّفة، سواء في شمال غرب البلاد أم في شمالها الشرقي. ولا بد من الفصل بين عقلية التطرّف وإدارة المجتمع وحرياته، ولعلَّ ذلك يقرّب السوريين إلى الحل وفق قرار مجلس الأمن 2254 الذي يؤكّد هيئة حكم انتقالي تعمل على إصدار عفو عام، وتحرّر المعتقلين، وتهيئ البلاد لانتخابات حرّة في أقرب فرصة.
المصدر: العربي الجديد