عبدالرحيم خليفة
عامٌ مضى على رحيلك …سنةٌ مضت على غيابك جسداً، وفي كل يوم مما انقضى تزدادُ حضوراً بيننا بروحك ومواقفك … أستعيدُ ذكرياتِنا معاً… لياليَنا وأمسياتِنا… صباحاتِنا الجميلةَ والحزينة… أيامَنا ومشاويرَنا ورحلاتِنا…نبلَك اللامحدود وطهرَك، وأنت تفكر بغيرك دوماً…!!
في ليالي السنة الماضية كنتُ أتابع ما انقطع بيننا من حوارات… ما اتفقنا حوله وما اختلفنا… وأراجع نفسي ومسيرتَنا الخاصةَ والعامة، أستعيد مشاهداً وصوراً لا تفارق خيالي، كأنها بالأمس أو اليوم أو للتو…
أستذكر العواصم والمدن التي جمعتنا وباعدتنا… ضمتنا وفرقتنا…
البدايات في حلبَ ودمشق، والمنتهى في استوكهولم وبوخارست وما بينهما… بيروت والقاهرة وعمان وأثينا وبرلين وكولن وباريس. وأسألُ لماذا كلُّ هذا الترحالِ… ألم يكن ممكناً اختصارُ كلِّ تلك المسافات…ألم تكن هناك طرقٌ أخرى تختزل هذه الأحلامَ العصيةَ والعنيدة، لِمَ ضاقتْ علينا الأرضُ بما رحبت؟!
أعود إلى ليالٍ بعيدةٍ…بعيدةٍ، أتذكرُ غناءَك لنجاة الصغيرة، التي عشقْتَ صوتَها، في ليلة صيفٍ طويلٍ… وحارٍ… بين حلبَ ودمشقَ، في مشوار سينتهي بك إلى بيروت، عروسِ العواصم وعشقِك الدائم، وتنتهي بي أقفل عائداً إلى حلب، أُخفي سرَّك عن الوالد والوالدة، ذلك في عنفوان شبابِك وطموحاتِك، وأنت دون الثلاثين… محباً للحياة منطلقاً بكل إيجابية وحيوية وصخب…
يحضرني مشهدُ أمي تمازحُك، بعد ساعات من جلوسك في غرفتك، وحيداً لا يُسمَعُ لك صوتٌ تقرأ وتكتب… وتدخن، متسائلةً ألسْتَ خائفاً أن تموت من سُمِّ دخانك، وقد أغلقت الباب والنوافذ على نفسك… ألم تجعْ… ألم تعطشْ… ألستَ بحاجة إلى الذهاب إلى الحمام…؟! وأنت تقول لها: معكِ حقٌّ، أحتاج إلى فنجان قهوة فقط… فتغضب أُمُّنا… وأنت تضحك، وهي تقول كان الله في عون من ستبتلى بك…!!
لا يغيب عن ذهني أبداً ما دونْتَه عن أول قصةِ حبٍّ عاصفة مررتَ بها، وعشتَها، وكادت تنتهي بزواجك مبكراً، لولا بعضُ الأسباب الاجتماعية القاهرة، خصوصاً عندما أتذكرها، هي، في أول زيارة لها إلى منزلنا، بعد هجرتِك الأولى إلى بيروت، وقد تزوجَتْ، وباعدتْ بينكما العاداتُ والتقاليد البالية، وطلبَها أن تدخلَ غرفتك وقراءاتِها لما كتبْتَه عن قصتكما، التي أعددْتَها للطباعة والنشر، ولكنك لم تفعلْ، وبقيت حبيسة الأدراج وصدرك، وهي تبكي حرقة وشوقاً إليك.
القصة التي انتهت بوعد منها، كما كتبتَ أنت، على لسانها: (إن فاز بجسدي، والمقصود زوجها، فلن يفوز بقلبي).
يحضرني ألمك وخيبتك… لوعتك وقصائدك الجميلة في الحب والعشق.
أتذكر يوم أنبتَني في إجازة صيف؛ لأني ألهو وألعب وأبدد وقتي، ولا أنكب على القراءة والمطالعة، وأنا ابن الثانيةَ عشرةَ فقط…!!
أتذكر صرامتَك وجديتك، وأنا أضحك بملء فمي، عند قولِك لي أيها المناضلُ والمثقفُ: لا تسرفْ باستخدام الماء، فالحروبُ قادمةٌ في المنطقة؛ لأجل قطرة ماء… وأنا أضحك وأضحك… وأضحك…!!
أسترجعُ معنى ما كنتَ تقوله لي: (دع مسافة بينك وبين أي إغراء)، وعدم رضاك عن قبولي هديةً متواضعة من سفير عربي أصحبتني معك في زيارته في مقر سفارة تلك الدولة، في أثينا، أثناء زيارتي الطويلة حينها لك .
أقف طويلاً عند ما كتبتَه لي في دفتر ذكرياتي (أوتغراف)، على عادة الشباب والصبايا في تلك الأيام وتلك المرحلة من أعمارنا: (كتبتَ في الأدب والسياسة، وتجرأتَ حتى على الفلسفة، ولكني أجدُني عاجزاً عن التعبير عن مشاعري نحوك) … بقيَتْ كلماتُك محفورة في وجداني وعقلي أتهجَّاها من حين إلى حين…!!
أتذكرُك فرحاً…حائراً حين قررت تسمية ابنِك، خالد، بعد أن أبصرت عيناه الحياة، وأنت تقول لي: هل سيحزن أبونا إن لم أُسَمِّ ابني باسمه؟ وأنا أكبركم! وما كان ذلك إلا تحولًا في شخصيتك من الشاعر (أبي فراس) كما كنتَ تُكنَّى بالمناضل والثائر (أبا خالد) حبَّا بخالد جمال عبد الناصر، الذي لازمتَه في تجربته المثيرة، وترك لك وديعة كلَّ أسرارِ تلك التجربة العظيمة، التي استهدفت الصهاينة والأمريكان في شوارع مصر الكنانة من خلال (تنظيم ثورة مصر).
ليس ذلك الا تمردك الدائم والمشاكس، بمعنى ما، وتغيير العالم الذي يبدأ من محيطك.!
لا أفهم معنى أو سرَّ أن يُصابَ بيتي وتُدمَّرَ أجزاءٌ منه، ويُسرَقَ كلُّ أثاثِه، وما فيه، بما في ذلك مكتبتي، وجزءٌ منها مكتبتُك، وأشيائي الحميمة، صوري وذكرياتي، وينجو فقط كتابٌ واحد، مُهدى منك إليَّ بخط يدك (مذكرات محمود رياض وزير خارجية مصر الأسبق وأمين عام الجامعة العربية فيما بعد) وجاء في الإهداء على الصفحة الأولى: أقلُّ من هدية وأكثرُ من رمز.
حقا في المسألة رمزاً ما سيلاحقني ويتعبُني ربما لسنوات طوال…!!
أفكر حائراً بما جرى معك، وأتذكر اتصالك في تلك الليلة، في الأسبوع الأول لمرضك، بعد أن شعرت بالتحسن، لتقول لي: متفائلاً لقد تمكنت من التواصل مع الأستاذ ميشيل كيلو، وكتبتَ له مشجعاً (لقد تجاوزتُ إصابتي بالكورونا، فقاوِمْ هذا الفيروسَ ونحن بانتظارك) لكنه غدر بكما، وكُتِبَ لكما الرحيلُ واحداً بعد الآخر، وكان قد سبقك الحبيبُ، حبيبُ عيسى، بالفيروس ذاتِه وفي حالة مشابهة… وفي التوقيت نفسِه وبفاصل زمني قصير رحل الأخ العزيز تيسير حاج حسين، بعد معاناة مع مرض عضال، ما زاد ألمنا ودموعنا… وقهرنا. إنها مصادفاتُ القدر ومفاجآتُه.. هزمكم الفيروسُ الذي كان أشدَّ فتكاً من كل وسائل وأساليب نظام الأسد وآلته القمعية…
الآن وقد رحلت… ماذا عساني أقول لك، وعن ماذا أحدثك، وفي فمي ماء كثير… ؟؟
لم أعدْ قادراً على أن أشكوَ إليك، ولم يعدْ بوسعك أن تسمعني… أُسِرُّك بأدق تفاصيل حياتي، وتُسِرُّني بما فعلته بك الأيام، وكيف خذلتك الحياة، وأنت الذي اختار المواجهة دوما، واعتاد أن يكون الظلَّ العالي لقاماتٍ وشخصياتٍ أثرَت حياتنا، وكانت قبلتَنا ونموذجنا الأولَ والأخير… وأنت الذي لم يترك حدثاً عربياً إلا وكنت فيه وتفاعلت معه وكتبت عنه، ببساطة لغتُك وعمقُ معانيها، ووضوح رؤيتك، التي أحدثت لك الكثير من المتاعب، وفي أرقى الصحف والمجلات وعلى الشاشات. !!
أنت الذي انتشلتك الثورة السورية العظيمة من انكسار روحك وابتعادك وعزلتك كمحارب، أو فارس، آخذ استراحة قصيرة، أو بعد كبوة جواد.!!
لم يعد من الممكن أن تكون أولَ المهنئين لي في مناسبات الحياة أو تشاركَني في أفراحي… وأحزاني…تشجعني وتنصحني وتأخذ بيدي حتى بعد أن أصبحْتُ في منتصف العقد الخامس من العمر… لم يعدْ كلُّ ذلك ممكناً أو متاحاً… وقد غبتَ وأخلفتَ وعدك الأخير بزيارتي في بوخارست، بعد أن ضجرت من إجراءات وحصار كورونا التي ألزمتك بيتك في السويد/ استوكهولم لعام ونيف، قبل أن تغدر بك، وأنت الذي اعتاد السفر والترحال…
عن ماذا أحدثُك عن وفاء الكثيرين من الأخوة والأصدقاء وجحود بعضِهم، الذين خذلوك حيَّاً وميتاً… عن حالنا ومأساتنا… عمَّن رحلوا ولحقوا بك، وآخرُهن وإحداهن شقيقتُك… عن أولادك… عن بكاء الليالي وأنصاف المواقف… عن خذلان الحياة والعالم… عن حالنا كسوريين… عن حال أمتنا… عن…عن… ؟؟؟!!!
في ما مرَّ من أحداث في العام الماضي، لبرهة كدتُ أن أتصلَ بك لأسمعَ رأيك، وللحظة كدتُ أفتحُ صفحتك على الفيس بوك لأقرأ تعليقك السريع على الأحداث، أو أنتظرَ شيئا منك على الإيميل، مقالاً أو دراسةً عن هذا الحدث أو ذاك، لكني سرعان ما أتذكر أنك رحلتَ عن دنيانا فأتحسر وتخنقني العبرة…!
ما مرَّ، يا أبا خالد، خلال عامٍ كاملٍ مُحبِطٌ ومؤلم، ولكني أزفُّ لك البشارة والأمل بفتية آمنوا بعدالة قضيتهم في قلب فلسطين المحتلة أوجعوا الاحتلال باستشهادهم، ورجالٍ لم تَهنْ عزيمتُهم في مواجهة نظام الإجرامِ الكوني القابع في دمشق، ولا في مواجهة المحتلين…
كما أني عند حسنِ ظنِّك بي، وفياً لك، مخلصاً لما تعلمته منك، أحاول أن أوفيَك بعضَ حقِّك عليّ، أجمع ما استطعت من أرشيفك وكتاباتك، على أنها ذاكرةٌ وطنيةٌ تستحق الحفظ والنشر… كلُّ ذلك بما مكنني ربي وساعدتني به الظروف…
يبقى لي أن أقولَ لك:
أمَا وقد رحلت وتركت كلَّ هذا الوجعِ والألم الذي لا يُطاقُ، فإني قادمٌ إليك… انتظرني…!