عبدالحليم قنديل
إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا ، تظل الأمة فى هوانها، وانقلاب معايير حكامها، الذين يقف أغلبهم سندًا لكيان الاحتلال الإسرائيلى، ويواصلون سيرة التطبيع والاستخذاء الفاجر، الذى تتدافع أماراته بلون الفجيعة المقبضة ، كلما قامت قوات العدو باقتحام باحات المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، وعاثوا فسادا واعتقالا وضربا بالرصاص وتنكيلا همجيا بالمصلين والمصليات شيوخا وشبابا وأطفالا ، وقادوا قطعان المستوطنين وجماعات “الهيكل” لتدنيس المسجد بصلوات البغى ، وهو ما صار يحدث كل صباح تقريبا منذ عام 2014 ، وتحت عنوان “التقسيم الزمانى” للحرم القدسى ، وسعيا لتقسيم مكانى ، تجرى بعده إعادة بناء ما يسمى “هيكل سليمان” ، الذى لم تثبت كل الحفريات وجود أثر له ، اللهم إلا فى مرويات منسوبة للتوراة ، لا يؤمن بها حتى كثير من حاخامات اليهود أنفسهم ، وإن كانت “إسرائيل” تتخفى بها ، وتريد استخدام الأساطير المكذوبة كتكئة لهدم المسجد الأقصى و”قبة الصخرة” بالذات ، وفرض تقسيم “المسجد الأقصى” بين المسلمين واليهود ، وعلى نحو ما فعلوا قبلها فى “الحرم الإبراهيمى” بمدينة “الخليل” ، ومنح مساحة 60% من المسجد لليهود ، ومنع رفع الأذان فيه .
وقد لا نريد هنا الاستطراد فى مناقشات دينية ، أو فى تاريخ تعاقب الأديان والأنبياء ، فليس لدى أحد من المسلمين أدنى رغبة فى التنكر لدين سماوى ، وهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا ، لا يفرقون بين أحد منهم ، وليست القصة فى ديانة اليهود ، وقصة فلسطين ليست نزاعا دينيا ، ولا مباريات فى رفع الصلوات ، بل قضية احتلال واستعمار استيطانى إحلالى ، وأيا ما كانت الهوية الدينية للمحتلين الغاصبين ، وقد أتوا فى غالبهم من بلدان أوروبا الشرقية بالذات ، ومن دون أدنى رابطة تجمعهم سلاليا مع اليهود الأولين من “بنى إسرائيل” ، وكان مؤسس الكيان “بن جوريون” بولنديا وملحدا ، لا تعنيه اليهودية وأساطير التوراة ، إلا بقدر ما تنفع فى دعم الحركة الصهيونية ، التى نزعت عن اليهودية كونها دينا ، واصطنعت دعوى القومية اليهودية بدلا عن الدين اليهودى ، وقامت على أكتاف أحفاد يهود “مملكة الخزر” مكان وبالقرب من “أوكرانيا” الحالية ، وهم “متهودون” بأمر ملكى وليسوا يهودا ، فى ديانة ليس فيها دعوة ولا تبشيرولا إضافة ، وهو ما يفسر قدوم أغلب قادة إسرائيل الأوائل من “بولندا” و”أوكرانيا” ، واستخدامهم النفعى تماما لأساطير التوراة وأرض الميعاد ، بينما الهدف كان مرتبطا تماما بالإمبريالية الاستعمارية ، وبدعم عواصم الغرب الكبرى حتى اليوم ، وبادعاء أن فلسطين خالية وأرض بلا شعب ، وأن قضية فلسطين ستذوى من تلقاء نفسها ، وبأقوال “جولدا مائير” الأوكرانية الأصل ، فإن طرد الفلسطينيين من أراضيهم سيكون بلا عواقب ، وأن الكبار سيموتون والصغار سينسون ، وهو ما حدث عكسه بالضبط ، فقد جرى بعث الفلسطينيين من عوالم النسيان الموهوم ، برغم طرد ثلثى الشعب الفلسطينى من أرضه فى نكبة 1948 ، وبرغم مرور نحو 75 سنة إلى اليوم ، وموت وتعاقب أجيال ، وتوالى جولات الذبح والنفى والتهجير ، فإن المنسيين عادوا بهويتهم الأصلية إلى منصات الحضور الباهر ، وصار الفلسطينيون أكثرية فى بلادهم المحتلة بكاملها ، وبعزم أشد على استعادة أرضهم المغتصبة بكاملها ، وتحرير 27 ألف كيلومتر مربع هى كل مساحة فلسطين التاريخية ، وليس فقط الستة آلاف كيلومتر مربع فى غزة والضفة والقدس ، وبدت “القدس” المحتلة بكاملها فى قلب تيار العودة ، وتواصلت قيامات “القدس” فى السنوات الأخيرة بالذات ، وخصوصا فى المدينة القديمة ، التى تقل مساحتها عن كيلومتر مربع واحد ، يجمع رموز التوهج الفلسطينى الكبرى ، وفى قلبها “المسجد الأقصى” ، الذى ترفع الصلوات فيه ، وفى “كنيسة القيامة” القريبة ، وعلى رجاء استعادة الوطن الفلسطينى ، وليس لمجرد أداء طقوس فى طاعة الله ، فلسنا بصدد ضمان حرية عبادة فحسب ، بل بكون حرية العبادة طريقا لكسب حرية الوطن الأسير .
ليست القصة ـ إذن ـ فى حرية العبادة وحدها ، ولا فى تأكيد حرية المصلين المسلمين بالوصول إلى مسجدهم المقدس ، ولا فى الحفاظ على ما يسمونه “الوضع القائم” فى الحرم القدسى الشريف ، واستمرار “الوصاية الأردنية” التى اتفق عليها كيان الاحتلال نفسه ، ولا فى وجود صورى منتهك لهيئة الأوقاف الفلسطينية ، ولا فى الحصار الإسرائيلى المسلح لجماعات المرابطين والمرابطات فى المسجد المبارك ، ولا حتى فى تحرير المدينة المقدسة ذات الكيلومتر الواحد وأقل ، بل فى المغزى الوطنى المقدس لحركة المقدسيين من حول المسجد ، فالقدس عاصمة الروح هى عاصمة الوطن الفلسطينى فى الوقت ذاته ، وترمومتر حرارة الحوادث من حول الحرم المقدس ، هو ذاته ترمومتر حرارة الكفاح الفلسطينى لاستعادة الوطن من محتليه ، والمرابطون دفاعا عن الأقصى يأتون من شتى نواحى الجغرافيا الفلسطينية ، والصوت الذى ينطلق من باحات المسجد العتيق ، يتردد صداه فى مدن الضفة وغزة ، وفى مدن وقرى الداخل المحتل منذ عام 1948 ، فى تطور بات ملموسا متصلا فى السنوات الأخيرة ، فقبل أكثر من عشرين سنة ، كانت فلسطين تتقدم إلى انتفاضتها الكبرى الحديثة الثانية ، على وقع اقتحامات “شارون” لأبواب المسجد الأقصى ، وكانت معارك الانتفاضة المسلحة تتوالى ، من “غزة” إلى معركة “جنين” عام 2002 ، ومع كل اقتحام إسرائيلى تكرر ، كان صوت القدس ومسجدها يوقظ الهمم ، من المواجهة الدامية عند أبواب الأقصى عام 2017 ، وإلى التطورات الساخنة فى عام 2021 ، حين قاد صوت وبسالة المقدسيين حركة قيامة فلسطينية شاملة ، ودارت حرب “سيف القدس” ، التى عجزت فيها إسرائيل عن إحراز أى نصر ، برغم التفاوت الهائل فى قدرات السلاح لصالح كيان الاحتلال ، وزحفت المواجهات بأكثر من أى وقت مضى إلى وراء ما يسمونه “الخط الأخضر” وجدار الفصل العنصرى ، وصارت “حيفا” و”يافا” و”اللد” و”أم الفحم” على خط الجبهة الأمامى ، تماما كغزة ونابلس ورام الله وجنين ، وكان وحى القدس وقيامتها ، هو الذى وحد حركة الشعب الفلسطينى على كامل أرضه التاريخية ، كانت لذلك مقدمات وتباشير سبقت فى الانتفاضة الثانية ، التى تداعت حوادثها فى الخمس سنوات الأولى من القرن الجارى ، وارتقى فيها شهداء من الداخل الفلسطينى ، وعلى ذات خطوط المواجهة فى غزة والضفة ، لكن جرى الذهاب إلى أفق مختلف فى العام الأخير بالذات ، فلم تعد “غزة” تحارب وحدها ، كما فى مواجهات 2008 و2009 و2012 و2014 ، بل صارت “غزة” مددا مباشرا لحروب المجموع الفلسطينى ، وهو ما فرض إيقاعا جديدا ، لم تصنعه صواريخ غزة وحدها ، بقدر ما صنعته قيامة القدس ورمزيتها الجامعة ، فالنور الذى ينبعث من كيلومتر واحد فى المدينة المقدسة ، راح يضئ قضية المصير الفلسطينى فى عموم السبعة والعشرين كيلومترا ، وعلى نحو ما أنبأتنا به ملاحم توالت بعد “سيف القدس” ، من هروب الأسرى من “جلبوع” أكثر سجون الاحتلال تحصينا ، وحتى عمليات المقاومة الفردية الجريئة فى قلب أكبر مدن الكيان ، من عملية “بئر السبع” إلى “الخضيرة” إلى “بنى براك” إلى “شارع ديزنجوف” فى قلب “تل أبيب” ، وقبلها فى صحوة بدو منطقة “النقب” ، التى تشكل أكثر من نصف مساحة فلسطين ، وبعدها فى عودة ملاحم “جنين” ، أقرب مناطق الضفة إلى مدن وقرى ومروج الداخل ، وإلى حد جعل “جنين” ولادة الأبطال ، كما لو كانت عاصمة ميدان للمقاومة الفلسطينية الموحدة الجديدة ، وجعل قادة الكيان لا ينامون فزعا من “جنين” وأهلها وشبابها ، ودفعهم لحصار “جنين” ، وبأقسى مما تحاصر به “غزة” ، وبرغم تواتر إشارات على دور لفصائل “فتح” و”الجهاد” وغيرها فى “جنين” ، إلا أن الطابع الشعبى المباشر للمقاومة الجديدة ، يبدو فى الصدارة ، فإلهام المقاومة الجديدة ، لا يبدو بأوامر تنظيم بعينه ، بقدر ما يبدو انتقالا للقدوة والشعلة من مكان إلى مكان ، صمود شبان وشابات القدس يظل فى مركز دائرة الإلهام ، ومبادرات شباب “النقب” و”أم الفحم” يجرى تداولها وتكريسها عند أبطال “جنين” ، و”غزة” المنفصلة البعيدة مكانيا عن القدس ، تبدو كدرع جاهز لحماية الأسوار وصون المقدسات ، فلا يعبأ قادة كيان الاحتلال بشئ ، قدر ما يحسبون الحساب لكل تهديد بالرد يصدر من غزة ، وتظن أن هذه المعادلة الجديدة ، سوف تلقى بظلالها على تطورات الوضع الفلسطينى فى قابل الأيام والسنوات ، برغم اتصال التشتت المهلك فى الصف الأمامى الظاهر لحركة السياسة الفلسطينية ، وضياعها فى دوائر انقسام مفرغة ، وطلبها لمدد لا يجئ من خذلان دولى وعربى وإسلامى ، بينما تبدو حركة الشعب الفلسطينى فى مدار آخر ، يحتفل بقداسة وشجاعة وبطولة ووحدة العائدين من النسيان .
المصدر: القدس العربي