أندري كوليسنيكوف
جرى في مطلع شهر إبريل (نيسان) نقل نعش في داخله جثمان السياسي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي الذي توفي عن عمر ناهز 75 سنة – وهو قومي متطرف وشعبوي كان يشكل أحد الأعمدة الأساسية للدولة الروسية على مدى عقدين من الزمن – إلى “قاعة الأعمدة” في وسط موسكو، كي يلقي الناس عليه نظرة الوداع تكريماً له. وكان قبل نحو تسعة وستين عاماً قد سُجي في المكان نفسه جثمان (جوزيف) ستالين الذي تسبب في القضاء على موجة أخيرة من الروس الذين سُحقوا حتى الموت، نتيجة تدافع حشود ضخمة تجمعت لتوديع الديكتاتور السوفياتي الراحل.
مع جيرنوفسكي، لم يكن هناك تدافع لرؤية جثمانه، على الرغم من أن مراسم جنازته استرجعت في الذاكرة لحظةً مختلفة عن الحقبة السوفياتية. فقد تم إحضار الجثمان إلى “قاعة الأعمدة” في عربة “أوروس لافيت” Aurus Lafet – وهي نموذج محدود جداً من سيارات نقل الموتى التي تصنعها شركة “أوروس موتورز” Aurus Motors، الأكثر رواجاً في مجال تصنيع السيارات الفاخرة الجديدة في روسيا. وكلمة “لافيت” تعني باللغة الروسية “عربة جنازات”، وبالنسبة إلى أفراد روس مثلي، الذين بلغوا من العمر ما يكفي لتذكر أوائل فترة الثمانينيات، فإن اسم هذه السيارة يستحضر إحدى النكات، فعندما توفي على التوالي ثلاثة قادة سوفيايت هم: ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف وكونستانتين تشيرنينكو، في تعاقب سريع، أطلقت على سلسلة الوفيات التسمية المازحة “سباق الـ “لافيتات” أو الجنازات” Race of the Lafets.
هل يمكن أن تكون الحلقة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن أمام “سباق لافيتات” جديد؟ هناك بالتأكيد عدد من كبار شخصيات الكرملين الذين بلغوا العمر نفسه الذي كان نظراؤهم قد وصلوا إليه في أواخر حقبة الاتحاد السوفياتي. فبوتين سيبلغ سن السبعين في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، كما ألكسندر بورتنيكوف، رئيس “جهاز الأمن الفيدرالي” Federal Security Service (FSB) (ينفذ سياسة الحكومة في مجال الأمن القومي للاتحاد الروسي، ومكافحة الإرهاب، وحماية حدود الدولة)، ونيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن الروسي، اللذين بلغا الآن 70 سنة. أما سيرغي لافروف، وزير خارجية بوتين، فيبلغ من العمر 72 سنة. وعلى غرار السن المتقدمة لـ “المكتب السياسي” Politburo الذي كان يترأسه الزعيم بريجنيف عندما قرر غزو أفغانستان، متسبباً بالتالي في انهيار ما تبقى من أسس أخلاقية للإمبراطورية السوفياتية، فإن قرار هؤلاء المسنين في موسكو شن حرب في أوكرانيا سرعان ما تحول إلى كارثة لروسيا – لا سيما بالنسبة إلى شبابها.
النظام ما زال يحتفظ حتى الساعة بولاء الرأي العام الروسي الذي يقف إلى جانبه، وقد يواصل خداع نفسه، تماماً كما يخدع الناس، بأنه يمكن أن يحول البلاد إلى دولة ذات اكتفاء ذاتي، معزولة ذاتياً، وتوسعية خارج إطار القانون، قائمة على فكرة التفوق الروسي على الدول الأخرى. لكن على المديين المتوسط والطويل، يبدو أن “العملية العسكرية الخاصة” (في أوكرانيا)، كما يصر بوتين على تسميتها، متجهة نحو تقويض جميع الأسس السياسية والاقتصادية والأخلاقية لروسيا.
هم في حرب مع أنفسهم
يبدو أن نظام بوتين ينظر إلى الشعب الروسي، بالطريقة نفسها إلى حد ما، التي يراها نظراؤه الأوكرانيون. وتكفي، في دليل على ذلك، ملاحظة الضغوط التي تُمارسها الآن الشرطة على أي شخص في روسيا يجرؤ على التفكير بشكل مختلف، إلى جانب إقفال أو تطهير أي وسيلة إعلامية مستقلة أو مؤسسة أبحاث تقريباً، واضطهاد أي شخص يحتج على هذه الهستيريا الوطنية أو حتى لا يوافق على ما يحصل. ويُصور النظام الروسي الأوكرانيين على أنهم كتلة متجانسة تفتقر للهوية، ويتعين بالتالي إخضاعها للكرملين من خلال سياسة استئصال النازية، وهي عملية تعني في الواقع نزع الهوية الأوكرانية، كما يجاهر بذلك علناً الآن مروجو دعاية بوتين. لكن الروس في المقابل يُعَدون أيضاً في نظر قادتهم كتلةً لا تفكر، ويتوجب تالياً أن تتبع زعيمها بشكل أعمى. وبخلاف ذلك، فإنهم سيواجهون تهماً إدارية أو جنائية، وحالة نبذ اجتماعي. أما الجنود الروس – وهي مجموعة لا تضم فقط عسكريين متشددين، بل أيضاً عشرات الآلاف من المجندين اليافعين للغاية الذين يؤدون الخدمة الوطنية الإلزامية – فقد أصبحوا ذخيرة للمدافع، بعدما تم إرسالهم من دون تحضير للذبح. وتسببت أفكار بوتين الحمقاء في فقدان فتيان روس حياتهم.
وقد أعلن بوتين في أحد خطاباته القليلة في الأسابيع الأخيرة، عن افتتاح فصل من عمليات الاستهداف للذين سماهم “خونة وطنيين” أو “طابوراً خامساً”، يُزعم أنهم يعملون على تقويض وحدة الأمة. ولاجتثاث هؤلاء المجرمين، حض على إجراء “تطهير ذاتي للمجتمع”. وسرعان ما استجاب الروس للنداء، فانطلقت بعد الخطاب موجة من الاستنكار، قام خلالها الطلاب بإدانة معلميهم – والعكس صحيح – فيما أخذ زملاء يشون ويبلغ بعضهم عن البعض الآخر. وشجع الرئيس الروسي ممارسة أعمال وحشية ضد منتقديه.
أحد هؤلاء هو أليكسي فينيديكتوف، رئيس تحرير راديو “صدى موسكو” Echo of Moscow، المحطة الإذاعية المستقلة التي أغلقتها حكومة بوتين، بعد وقت قصير من بدء الحرب. وقد وُضع رأس خنزير أمام باب منزله، إلى جانب كتابات معادية للسامية. وعلى متن أحد القطارات المغادرة للعاصمة موسكو، هاجم أحد الأشخاص الصحافي ديمتري موراتوف رئيس تحرير صحيفة “نوفايا غازيتا” Novaya Gazeta الحائز جائزة نوبل للسلام العام الماضي، عبر صب طلاء أحمر عليه، ممزوج بمادة الأسيتون الكيماوية السامة.
قام فلاديمير بوتين بتقسيم البلاد. وأصبح كل من المعارضين للزعيم الروسي والمؤيدين له أكثر تطرفاً. لا شك في أن أغلب الذين يعارضون الحرب هم من منتقدي بوتين وفئة الشباب. فقد رفض بعض الجنود القتال في أوكرانيا، وتبدو بعض عائلات القتلى غاضبةً من بوتين. ونزل في المقابل شبان بشجاعة إلى الشوارع للاحتجاج على الحرب، على الرغم من تعرضهم فوراً للاعتقال، مع احتمال فقدانهم وظائفهم أو مقاعدهم في الجامعات. ومع ذلك، تحلقت حتى الآن غالبية واضحة من الروس حول بوتين، على الرغم من أن معظم المواطنين، كانوا وفقاً لاستطلاع مستقل للرأي أجري العام الماضي، خائفين من الحرب، ولم يصدقوا أنها يمكن أن تقع بالفعل. لكن يبدو الناس اليوم، أو على الأقل الجمهور العريض من عامة الشعب الروسي، في مزاج الحرب.
بطبيعة الحال قد يكون من الصعب قياس اتجاه الرأي العام في نظام له قائد واحد، ولأسباب عملية مختلفة فقد أي وسائل إعلام حرة. لكن من الواضح أن الروس يشعرون بأنهم محاصرون، وغالباً ما يشعرون بمرارة كما بوتين نفسه. ويكفي في هذا الإطار النظر إلى بيانات آخر استطلاع أجراه “مركز ليفادا” Levada Center المستقل. فعلى نقيض ما يدعيه النقاد، لم يرفض المشاركون في الاستجواب الرد على الأسئلة تماماً كما في استطلاعات سابقة، وقد أجريت الدراسة نفسها كالعادة، من خلال مقابلات شخصية مباشرة، وليس عبر الهاتف. وجاءت النتائج معبرة، بحيث أعرب نحو 81 في المئة من المستجيبين عن تأييدهم “العملية الخاصة” (في أوكرانيا)، مع دعم نحو 53 في المئة “بالتأكيد” لها، فيما قال 28 في المئة إنهم “بالأحرى” يدعمونها. تجدر الإشارة أيضاً إلى رقم آخر، ففي ما يتعلق بـ “العملية الخاصة”، أعربت أغلبية طفيفة – 51 في المئة – من المشاركين في الاستطلاع عن شعور أفرادها “بالفخر بروسيا”. أما الذين لم يشاطروا هؤلاء هذا الشعور – وكثير منهم هم من فئة الشباب – فعزوا السبب إلى شعورهم بـ “القلق أو الخوف أو الرعب”، أو ببساطة “الصدمة”.
واستناداً مرةً أخرى إلى استطلاع “ليفادا”، فقد ارتفعت نسبة التأييد لبوتين إلى نحو 83 في المئة في مارس (آذار)، بزيادة 12 في المئة عن الشهر الذي سبقه. وفيما تتابع موجة الدعم الشعبي المتزايد بشكل وثيق ما حدث بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، فقد كان المناخ أكثر اعتدالا في ذلك الوقتً، والأفراد الذين عارضوا تصرفات بوتين لم يواجهوا إذلالاً من جانب مواطنيهم. (مع ذلك، وصف بوتين في خطاب ألقاه في ذلك الوقت، أي شخص جاهر برفض سياساته، بأنه “خائن وطني”). يُضاف إلى ذلك أنه، على عكس الإجراءات الروسية في أوكرانيا الحاصلة الآن، تم ضم تلك المنطقة من دون إراقة دم، واعتبر كثيرون أن “إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا”، كما سماها الكرملين، كانت بمثابة استعادة لعظمة البلاد وتعزيز لها.
أما رد الفعل الطاغي الصادر عن المواطنين الروس العاديين فهو يُختصر بالعدوان. وكأنه في الأساس ناجم عن جهد جماعي يقوم ضمناً في حال من شبه اللاوعي، باستبعاد أي أخبار سيئة، وأي شعور بأن البلاد قد تكون على خطأ. الخوف من السلطة لا يمنع الناس فقط من الاحتجاج على حرب بربرية، بل يجعلهم غير قادرين على الاعتراف حتى لأنفسهم بأن روسيا بوتين قد ارتكبت فعلاً مروعاً. إنه لأمر مرعب أن يكون الفرد مؤيداً للشر. ومن المخيف أيضاً أن ننظر إلى الصور الفظيعة ولقطات الفيديو الآتية من أوكرانيا – باستخدام شبكة افتراضية خاصة للتحايل على ضوابط الكرملين على الإنترنت – واكتشاف مدى خطورة الحقيقة القائمة. ويبدو بالنسبة إلى كثيرين، أن من الأسهل تجرع الدعاية الرسمية ومعرفة أنك تقف في الجانب الجيد، فالأوكرانيون يهاجموننا، وما قمنا به للتو هو الرد بضربة وقائية. إننا نحرر شعباً شقيقاً من نظام نازي يدعمه الغرب. وجميع التقارير عن الفظائع التي يُفترض أن جيشنا ارتكبها هي مزورة. وكما قالت امرأة في إحدى مجموعات النقاشات المركزة في “مركز ليفادا”: “لو كنتُ أتابع “بي بي سي”، ربما كنت سأفكر بشكل مختلف، لكنني لن أشاهد تلك المحطة على الإطلاق، لأن ما أشاهده يكفي بالنسبة إلي”.
“متلازمة موسكو”
لقد تم حشر فلاديمير بوتين في الزاوية، ومعه الأمة بأكملها. ويختبر الروس بشكلٍ جماعي نسخة من “متلازمة ستوكهولم” Stockholm Syndrome لجهة التعاطف مع آسرهم أكثر من تعاطفهم مع ضحاياه الآخرين. وفي المقابل، فإن السياسيين – المفترض أنهم هم أيضاً من المتعاطفين مع الكرملين – هم منقسمون حول ما يجب القيام به بعد ذلك. ويقول بعضهم ككبير مفاوضي بوتين فلاديمير ميدينسكي، والمتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، إنهم يفضلون عقد اتفاق سلام (مع أوكرانيا). في حين يدافع آخرون، مثل الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، عن “نظرية المضي قدماً في الحرب حتى النهاية” – ولكن نحو أي نهاية؟ – ويعتبرون أي مفاوضات شكلاً من أشكال الخيانة. وتنعكس بالطبع هذه المجموعة المختلفة من الآراء في المجتمع ككل: ففيما يتمثل الانتصار بالنسبة إلى البعض في عقد اتفاق سلام يمنح روسيا أراضي جديدةً مهمة، فإن النصر بالنسبة إلى آخرين، يتطلب سلوك الطريق كله وقهر أوكرانيا بمجملها، وهو ما يعني بطبيعة الأمر خوض حرب دائمة.
مؤيدو بوتين الذين يظنون على نحو مضلل بأن ما يحدث هو نابع من حب الوطن، لا يتوانون عن مهاجمة أي شخص ينتقد الحرب، ويزعمون أنهم لا يفهمون سبب احتجاج بعض الناس عليها. فقد تبين من استطلاع آخر للرأي أجراه “مركز ليفادا”، أن 32 في المئة من المشاركين فيه يرون أن المحتجين قد تلقوا أموالاً للقيام بذلك. وإلا كيف يمكن تفسير نزول آلاف الأشخاص إلى الشوارع لمعارضة تحرير أوكرانيا من النازيين؟ ولا يبدو مهماً عدم تمكنهم من شرح كيف ومَن هي الجهة التي دفعت بآلاف من الناس للمخاطرة بحريتهم ومعيشتهم للاحتجاج على المذبحة. لكن مثل هذه التأكيدات غير المنطقية ليست بالأمر الجديد، فقد قال هذا الكلام في الآونة الأخيرة، قسم من التيار السائد في روسيا، عن المتظاهرين السياسيين.
ولطالما شكل مصطلح “الفاشية” توصيفاً مناسباً يلجأ إليه الروس لتبرير أي شيء سيئ تقريباً. فخلال الحقبة السوفياتية، كان من الشائع أن نقول إن “الفاشيين” أو “المنتقمين” قد “أطلوا برؤوسهم” في أنحاء مختلفة من العالم، من الولايات المتحدة إلى ألمانيا. وتم في بعض الأحيان استخدام مصطلح أشد قسوة هو “النازيون”. ولسخافة القدر، استخدمت الدعاية السوفياتية المصطلح لأول مرة في إشارة إلى إسرائيل، وذلك بعد “حرب الأيام الستة” في عام 1967، عندما قطع الاتحاد السوفياتي علاقاته الديبلوماسية مع الدولة العبرية، وتم وسم الإسرائيليين بأنهم نازيون. وبالنسبة إلى بوتين، أمن له شبح النازيين عقيدةً يلقنها للأمة عبر الإصرار على أن أوكرانيا ليس لها الحق في الوجود. وفيما استعان بوتين بتاريخ الحرب العالمية الثانية لإضفاء الشرعية على نظامه، إلا أن الروس لم يدركوا بعد أنه عبر قيامه بذلك فقد دمر أيضاً أسس دولة ما بعد الاتحاد السوفياتي. فكل شيء بني على أساس هزيمة الفاشية في “الحرب الوطنية العظمى” Great Patriotic War كما يسمي الروس الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، ففي نظر الأوكرانيين – وكثير من دول العالم – فإن الروس أنفسهم يتصرفون الآن مثل الفاشيين. ويبدو صعباً عليهم الاستعانة بتجربة بلادهم في محاربة (الزعيم النازي أدولف) هتلر، لتبرير نزعتهم العسكرية الوحشية. وعلى نقيض ذلك، فإنهم يقولبون أنفسهم على صورة الألمان نفسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذا ما قام به: لم تعد روسيا في الجانب المنتصر في “الحرب الوطنية العظمى”، ولم تعد تالياً على الجانب الصحيح من التاريخ.
ولا تدرك في الواقع غالبية الشعب الروسي هذا الأمر. ومما لا شك فيه أنه خلال احتفالات “يوم النصر” المرتقبة في التاسع من مايو (أيار) هذه السنة – وهو أحد أهم الأعياد الرسمية في روسيا، إحياءً لذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية – سيشبه بوتين الانتصار السوفياتي في عام 1945 بتغلبه على قوى المنطق والعقل. ومع حلول التاسع من مايو، سيتعين على الرئيس الروسي العثور على الكلمات المناسبة لوصف المعايير المحددة للانتصار الجديد في أوكرانيا. ويجب أن يكون كلامه مقنعاً ما يكفي لجعل الانتصار شبيهاً بذلك الذي حصل في عام 1945. لكن يبدو أن كثيراً من الروس ينظرون الآن إلى ما تقوم به روسيا في الوقت الراهن على أنه يوازي هزيمة هتلر، وغالباً ما يتم تصوير الحرف Z، رمز “العملية الخاصة” في أوكرانيا، على أنه شريط القديس جورج المطوي على شكل قوس، الذي يمثل رمز الانتصار على الفاشية.
ومع ذلك، يشعر معظم الناس في الواقع بأنهم محاصرون، فالغرب بات أكثر من أي وقت مضى عدائياً تجاههم، فيما لم يتبقَ لهم شيء في روسيا. إنهم يدعمون بوتين باعتباره القائد الأعلى لجيشهم الأسطوري، لكنهم بدأوا يدركون في أعماق أنفسهم أن الرئيس قادهم إلى مكان قد يكون الهروب منه مستحيلاً. وبالنسبة إلى الروس، يمثل ذلك شعوراً قديماً. فقد كتب المفكر الثوري اللامع ألكسندر هيرزن من إيطاليا في عام 1863، تحديده للتوتر قائلاً: “لقد أصبح موقف الروس صعباً للغاية. وباتوا يشعرون أكثر فأكثر بالغربة في الغرب، في حين أن كراهيتهم لما يحدث في داخل بلادهم تتعمق أكثر فأكثر”. وكانت هذه الكراهية في ذلك الوقت، كما هي عليه الآن، مكبوتةً أكثر منها علنية. والروس لا يمكنهم الاعتراف بذلك في قرارة أنفسهم.
هروب من الواقع
كثير من الروس من ذوي الضمائر الحية وممن يتمتعون بوعي ذاتي ويتولون منصباً ما – ولديهم الوسائل للقيام بذلك – باتوا يصوتون بأقدامهم ويغادرون البلاد. وفيما يبدو صعباً الحصول على أرقام دقيقة لعدد المغادرين، ففي الغالبية العظمى من الحالات يقول أولئك الذين يسافرون إلى الخارج، إنهم يقدمون على هذه الخطوة بشكل موقت. إنهم يبتعدون عن الحرب وينتظرون التغيير أن يأتي إلى روسيا، لكن ليست لديهم نية البدء بحياة جديدة دائمة في دولة أخرى. فهم لا يحركهم الخوف من الاضطهاد بمقدار ما يحركهم عدم الإيمان بآفاق روسيا، والاشمئزاز مما آل إليه النظام. ونتيجة لذلك، أصبحت روسيا تعاني من هجرة الأدمغة وأصحاب الكفاءات المهنية، الذين لطالما استندت إليهم تطلعاتها في بناء اقتصاد حديث ومتنوع. وإذا ما تحول هذا المنحى إلى مسار طويل الأجل، فإن الهجرة ستلحق ضرراً جوهرياً برأس المال البشري للبلاد. وربما يكون السكان الذين تخلفوا عن الركب، أقل انفتاحاً على القيم الغربية والأفكار الليبرالية.
ويُرجح أمام كارثة اقتصادية تلوح في الأفق، أن تركز الدولة على المواطنين الروس الذين يمكن الاعتماد عليهم لدعم النظام، شرط أن يُعرض عليهم ما يكفي من المال والمكافآت الأساسية الأخرى للقيام بذلك. وهؤلاء هم الجماهير العريضة التي يتعين شراء ولائها من خلال مخصصات اجتماعية ورواتب في القطاعات التابعة للدولة، التي يجب أن يتم تلقينها عبر نظام دعائي منتظم من أجل ضبط الناس وإحكام السيطرة عليهم. لكن على الرغم من ذلك، فقد أصبح هذا المشروع، مع ظهور الآثار المتزايدة للعقوبات، أكثر كلفةً بكثير، وقد تبدأ الموارد المخصصة لدعم هؤلاء الأشخاص في النضوب. وهذا الأمر قد يصبح واقعاً بشكل خاص، إذا ما فقدت روسيا قدرتها على بيع النفط والغاز.
ويمكن مع مرور الوقت أن تتسبب الآثار المتراكمة للحرب في زعزعة ثقة الناس في بوتين. ومع استمرار الحملة العسكرية وآلة الدعاية الهائلة التي رافقتها في المضي قدماً بأقصى مستوياتها، سيبدأ تماسك النسيج الاجتماعي في التصدع، فيما ستؤول حركة القوى التي دعمت الاقتصاد تقليدياً إلى الشلل. لكن في الوقت الراهن، يبدو أن الروس راضون في إلقاء استيائهم على العدو. وعندما يُسألون على من يقع اللوم؟ يجيبون: على الولايات المتحدة وأوروبا.
لقد وصل بوتين إلى طريق مسدود، ونتيجةً لذلك تعاني أوكرانيا ومعها بقية العالم. لكن الوضع يشكل على المدى الطويل كارثةً أيضاً بالنسبة إلى الشعب الروسي. فهذه الأمة التي أسهمت كثيراً في رفد الثقافة العالمية – وأنتجت عدداً من الروائيين والمفكرين العظماء و3 فائزين بجائزة نوبل للسلام – ستظل أيضاً لفترة طويلة مرتبطة بفلاديمير بوتين. ويتعين على الغرب أن يعي أنه، بمقدار ما قد يبدو ذلك مبتذلاً، فإن نظام بوتين والأمة الروسية ليسا متماثلين. وسيكون هذا الفهم حاسماً لبناء روسيا ما بعد بوتين. وبخلاف ذلك، سيستمر اعتبار روسيا جيباً سياسياً معادياً يجب على العالم أن يتجنبه. لكن في النهاية، سيكون على الروس أنفسهم أن يثبتوا بأفعالهم أن بلدهم هو أكثر من شخص بوتين وما تسببت به أفعاله.
أندري كوليسنيكوف هو زميل رئيسي في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي” Carnegie Endowment for International Peace
مترجم عن فورين آفيرز، أبريل (نيسان) 2022
المصدر: اندبندنت عربية