محمود الوهب
قبل عدة أيام مرت الذكرى السادسة والسبعون لجلاء المستعمر الفرنسي عن الأرض السورية، وإعلان سورية دولة مستقلة.. ولم يأت الجلاء هكذا تكرمة من أحد، بل بفضل كفاح الشعب السوري بأطيافه كافة.. إذ اشتعلت الثورات في أنحاء سورية شمالاً وجنوباً غرباً وشرقًا، واستمر النضال الوطني ضد الفرنسيين متناوبًا بين سلاح وسياسة إلى أن تكلل بالاستقلال التام يوم 17 نيسان 1946، بعد ذلك أخذت سورية تنمو نموًا لافتًا على الصعد كافة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وإعلاميًا في ظل حكم غالبيته من رجال الكتلة الوطنية الذين ناضلوا ضد الاستعمار الفرنسي، والمفارقة اللافتة أن حزب البعث لم يكن موجودًا، ولم يشارك بأية معركة ضد المستعمر. فقد تأسس عام 1947 وكان قد نما مع غيره من الأحزاب السياسية في ظل نظام ديمقراطي ساهم في تنمية المجتمع على غير صعيد، وكانت غاية البعث هي حيازة السلطة، ولذلك اتهم رجال ذلك العهد بالرجعية والإقطاعية، وسلَّم سوريةَ عام 1958 إلى مصر عبد الناصر الذي برز آنذاك بطلًا قوميًا بعد انتصاره على العدوان الثلاثي عام 1956 وجاءت الوحدة وسيلة البعث لحكم سورية، لكنه سرعان ما اختلف مع القيادة المصرية ولما وقع الانفصال كانت قيادة البعث أول من وقَّع على وثيقة الانفصال، ثم أتى انقلاب 8 آذار 1963 بعد ثمانية عشر شهرًا من خلال تعاون بين ضباطه وضباط وحدويين ومستقلين.
انقلب البعث على شركائه ليدخل في صراع داخلي أوصل حافظ الأسد إلى السلطة بغدره رفاقه ومساومته على الجولان بقبوله القرار242 ومؤمّنًا بذلك تأييد الغرب والشرق اللذين كانا يتصارعان على سورية، وتقرَّب من تجار دمشق، ومن دول عربية أخرى.. ثم ليعمل على بناء دولته العميقة متكئًا على حزب البعث الذي غدا أمينه العام يعيِّن قيادته القطرية ولجنته المركزية وحكومة الدولة والمحافظين، إلخ.. واستند بذلك إلى مجموعة من كبار الضباط، كان قد كسب ودهم بالمخادعة، والنميمة، وبإطلاق يدهم في مراكز وظيفية منحهم إياها، وقد اختار من بينهم أكثرهم ولاء، وشراسة، ليكونوا رؤساء للأفرع الأمنية المتعددة وليمارسوا دورهم ضد الشعب!
وهكذا أرهب المجتمع، وجعله يعيش في قلق ورعب دائمين، دونما أحزاب ولا معارضة، ولا إعلام حر. حتى الجبهة التي شكلها جعلها واجهة لديمقراطية مزيفة، واكتفى أغلب قياداتها بالسيارة والراتب ووظائف تافهة لبعض المقربين من أمنائها العامين.. وهكذا عمَّ الفسادُ البلادَ وتوقفت التنمية، وازدادت البطالة، ومُيِّعت الشعارات، فإذا الوحدة العربية صراع بين الأشقاء، وقطيعة بين بَعْثَيْ سورية والعراق، وأما تحرير فلسطين فقد اختُصِر باحتلال لبنان، وتحويل مخيم تل الزعتر إلى أشلاء وبقايا، ثمّ ساهم في ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية خوفًا من إسرائيل التي هددت نظامه وكرسي حكمه.. وطبقت الاشتراكية على أنها استحواذ للمال من قِبَل قلة من الأهل والموالاة.. وأتت أحداث حماة لتُرتكب الجرائم، وليُمنح المرتكبون امتيازات، وليحْكُم البوط العسكري على نحو فاضح، وليعمَّ التجاوز المجتمع بكامله، ثم أتى الوريث، بعدئذ، ورغم وعوده بالإصلاح، والتطوير والتحديث، زاد في الطين بلة، فغدت المحاصصة علنية، تدعمها تعليمات شفهية تتجاوز القوانين، وليصبح ابن الخال “جابيًا” عند “السيد الرئيس” وحارسًا لأمواله المنهوبة من الدولة والمجتمع.. (تكشّف ذلك فيما بعد). وكان عيد الجلاء قد غُيِّبَ وصانعوه، ومصانعهم المؤممة..
على تلك الأرضية قامت هبّة شباب سورية عام 2011 مطالبة بالحرية ولذلك كان علم الثورة هو علم سورية منذ الثلاثينات بألوانه المستمدة من تاريخ سورية! ولكن ما يهمنا اليوم هو واقع سورية، فهي أسوأ مما كانت عليه أيام الفرنسيين، فلا أحد يملك قراراً سورياً مستقلاً.. بل لا أحد يسيطر على الأرض السورية كاملة.. فثمة جيوش وميليشيات وضباط سوريون أو قادة فصائل يأتمرون بأمر الأجنبي غير مكترثين برؤسائهم الرسميين الذين لم يعد لهم أي احترام، ويستوي في ذلك النظام والمعارضة.. فكلاهما مأزوم بما ارتكب من أخطاء ترتقي إلى درجة الجريمة بحق الوطن وأهله! وكلاهما عاجز عن فعل أيِّ شيء يخرج البلاد المهددة بالضياع، بعد أن ضُيِّع استقلالها..
لا شك بأنّ سورية تحتاج إلى مبادرة وطنية ترتقي فوق عمق الجراح، وركام الدمار.. مبادرة تنظر إلى الشعب السوري الواحد بأطيافه كافة.. فالشعب وحده المكلوم والأكثر معاناة.. فمن القادر اليوم على لأم جراحه؟! وهل تفتقد سورية إلى رجال حقيقيين؟! بل هل يمكن لشعب أن يستكين على الظلم والمهانة مهما بلغ من الضعف، وإن سُدّت في وجهه السبل؟! إن العمل السياسي متاح، وثمة سوريون قادرون على العمل، وإن كانت العقدة المستعصية لديهم تكمن في وجودهم خارج البلاد، وهذا ما سعى إليه النظام.. ولكن لا بد من تجاوز هذه العقبة..
وثمة قرارات صدرت عن الأمم المتحدة، قرارات تنصف الشعب السوري، وواجب التمسك بها ضرورة قائمة بذاتها، والعمل الجدي لرؤيتها مطبقةً على أرض الواقع دونما ميل لهذه الدولة أو تلك إذ لا بد أن تعلو المصلحة الوطنية السورية فوق أية جزئية أخرى، والمفترض أن تكون المعارضة قد استفادت من تجربتها خلال إحدى عشرة سنة.. وإذا كانت تقوم اليوم بإصلاح ما، فعليها أن تدرك أن قوتها بالالتفات إلى أطياف الشعب السوري كلها داخلًا وخارجًا وفق مبادئ مصوغة من مفهوم كلمة “الحرية” التي صدحت بها حناجر الشباب السوري.. شعارات جوهرها تعددية سياسية على أرض واحدة، وشعب متآلف، متماسك.. مبادئ تتعاطى مع الدول الفاعلة وفق مطالب تعكس معاناة السوريين، ولا تتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة، وعلى المعارضة أن تدرك أن لا حل بوجود فصائل متطرفة سواء في شمال غرب البلاد أم في شمالها الشرقي! وأن تفصل التطرف عن إدارة المجتمع لصالح حرية المواطن!
وإذا كان الالتفاف قد جرى على القرار2254 تحت ما يسمى بمساري سوتشي وأستانا، ثم بإطالة أمد اللجنة الدستورية، فالوقت لم يذهب، وبالإمكان العودة إلى جوهر القرار، أو صياغة قرار جديد. وللعلم فإن حال النظام ليس بأفضل، فالشعب هناك يئن ويستجير، ولا بد أن تتحول معاناته إلى فعل سياسي إيجابي عندئذ لا بد من إيجاد سبيل لملاقاته جديًا وإن لم يكن فسورية التي نعرفها وأحببناها مهددة بالفقد والضياع.
المصدر: أورينت