عبد الباسط حمودة
لكل الشعوب أعيادها: دينية، وطنية، اجتماعية؛ فعيد الفطر يعقب شهر رمضان ويرتبط بفرائض دينية إسلامية، كما عيد الأضحى الذي يعقب يوم عرفة ختاماً لشعيرة الحج، ثم باقي الأعياد الأخرى: المولد النبوي- عاشوراء- ولادة- ختان- خطوبة- زواج- عيد الميلاد- رأس السنة الميلادية- رأس السنة الهجرية- الحج- النجاح في الامتحانات- صوم الأطفال لأول مرة… إلخ، وما يميز هذا النمط من الأعياد الدينية- كما كل الأديان- بأنها أعياد محبة وتكافل، ومساعدة للمحتاجين؛ وما زكاة الفطر قُبيل صلاة عيد الفطر، وتوزيع الأضاحي في عيد الأضحى إلا تعبيراً معيارياً وغير وحيد عن هذه المساعـدة.
إنها أعيادٌ اجتماعية أيضاً باجتماع الناس للتزاور والمعايدة واللقاءات الأسرية؛ فمنذ عقود كان العيدُ بسيطاً جداً، فمعظم الناس- خاصة الأطفال- لا يلبسون الجديد إلا فيه، لقلة ذات اليد، واجتماعهم للمعايدة في الجامع غالباً، أو في الهواء الطلق لأداء بعض الرقصات الشعبية وللمعايدة العامة أيضاً؛ والتجمع على مائدة الإفطار يوم العيد، أو في أوقات أخرى، والتجمع للذهاب لمعايدة أقاربهم وكبارهم بمنازلهم كخصيصة اجتماعية. بينما في زماننا هذا تحول العيد، وإلى حدٍ كبير، لحالة فردية بدل الحالة الجماعية، حيث لكل فردٍ، أو عائلة شكلُ العيد المختلف عن غيره، وتحول لمشكلة أسرية، كجزءٍ يسير من مشاكل خطيرة فرضها التشرد والحاجة واللجوء، فضلاً عن القتل والاعتقال والحرق والفاقة وانتهاك الحقوق الفردية والوطنية، فكل فردٍ في الأسرة يريد قضاء العيد حسب رغبته، والطامة الكبرى التي أفقدت العيد بريقه- فضلاً عن أنها ميزة بمثل ظروف التباعد واللجوء للسوريين وغيرهم- هي وسائل التواصل الاجتماعي؛ أما الأطفال فلم تعد تُفرحُهم الملابس الجديدة كما كانت تفرحنا منذ عقود!، فمهما كان الحزن شديداً، والقتل والاعتقالُ سائداً في سورية وفلسطين والعراق واليمن.. إلخ، فليكن العيد حالةُ تحدٍ وفرح ورقص وطرب، فالفرحُ في العيد واجبٌ ديني نجدد به أنفسنا، لنعود أقوى مما كنا، وإلا سيستبد بنا الحزن من كثرة المآسي، وستضعف هممنا عن أداء أمور دنيانا «فإن القلوب إذا كَلتْ عَمِيتْ».
يعتبر الاحتفال بالأعياد من القيم الثابتة للحياة الاجتماعية، فللعيد نكهة خاصة، يدفعُ الناس إلى التوقف عن العمل والقيام بأعمال غير مجدية على الصعيد المادي؛ إنه يدفع الناس إلى التمتع بالحياة والاحتفال بالعلاقات الاجتماعية خارج إطار العلاقات الاقتصادية، لذلك فالشحنة المعنوية التي يتمتع بها العيد حاجة إنسانية يشعر الناس عفوياً بضرورة التمسك بها، وأن ظاهرة الاحتفال بالأعياد وتخليدها، تعد محطة اجتماعية ونفسية وثقافية ضرورية في حياة العائلة التي تعلن من خلالها انتماءها الديني العقائدي، لأن أغلب هذه الأعياد طبعت العائلة نفسها بطابع ديني مقدس، وأن محافظة العائلة على الظاهرة الاحتفالية بالأعياد- ماضياً وحاضراً والإصرار عليها- مرتبطة في أبعادها الاجتماعية والثقافية بمرجعية دينية وذلك لما يصاحب هذه الممارسة من أعمال خيرية اجتماعية جماعية، فالاحتفالية فرصة إلى اللقاء والتقارب والتماسك الاجتماعي من جهة، وفرصة لإثبات الذات الجماعية وإثبات الهوية الثقافية من جهةٍ أخـرى.
الحديث عن العائلة والظاهرة الاحتفالية بالعيد، يتعدى في حقيقة الأمر الجرد الإحصائي لكل الأعياد وما يصاحب كل عيد من تحضيرات مادية ومعنوية كالطبخ الخاص، أي كل عيد تخصص له مأكولات وأطباق خاصة، وكذا اللباس التقليدي حيث أنه لكل مناسبة لباس خاص بها، وكذلك الطقوس والمعتقدات ذات الصلة بكل عيد ومناسبة، وصولاً لذلك السر الروحي والثقافي والاجتماعي الذي جعل العائلة تصر وتؤكد على هذه الاحتفالية وهذا التعلق بها على مر السنين وصمودها رغم الصعوبات المادية ورغم دخول ممارسات احتفالية جديدة في ثقافتها؛ فلقد ظلت العائلة تمارس احتفاليتها وتكيف ماضيها بحاضرها، بكل ما يحمله من دلالات دينية واجتماعية وثقافية ونفسية، لأن العيد يصبح مناسبة اجتماعية ومرآة تنعكس فيها طموحات وأماني المجتمع ويبقى الاعتبار الديني قائماً، ولكن أهمية العيد للمحتفلين به يتبلور حول قضايا اجتماعية وليس حول قضايا روحانية وحسب؛ هنا يصبح لكل عيد معنىً اجتماعياً مميزاً، وكأني بالأعياد تأتي لتشد أواصر هذه المؤسسة الأُسَريّة، ففي العيد تجتمع العائلة، تشرب وتأكل، تجمع صغارها بكبارها في إطار بروتوكول معين من الزيارات، وللعيد كذلك معانٍ اجتماعية كتضامن عـام.
والكشف عما تغطيه بنية العائلة الداخلية من رموز وعلامات ذات صلة بهويتها الثقافية والاجتماعية كجزء من التركيبة الشاملة للمجتمع الذي تنتمي إليه، يتجلى بمدى تعلق احتفال العائلة بالأعياد واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من كيانها الروحي والثقافي والاجتماعي والعقائدي. فهل ظلت العائلة محافظة على العادات والتقاليد الموروثة؟ وهل فقدت عاداتها وتقاليدها الموروثة معوّضةً إياها بعادات وتقاليد جديدة؟ لماذا؟ وكيف؟ وهل وُفقت العائلة بالمحافظة على موروثها بالرغم من اكتساب عادات وتقاليد جديدة؟ وكيف؟
إن العائلة قد تعرضت لتطورات اجتماعية وثقافية واقتصادية عميقة أكسبتها عادات وتقاليد جديدة، مع زمنٍ وطرحٍ سياسيٍ واجتماعي وثقافي واقتصاديٍ جديد، غير أن هذه التطورات والتغيرات ظلت عاجزة في أن تصيب- بعدُ- مظاهر الثقافة المتمثلة في بعض العادات والتقاليد اللصيقة للذات، حيث ظلت العائلة محتفظة ومحافظة عليها معتبرةً إياها جزءاً من كيانها الروحي والعقائدي الأمر الذي أدى بها إلى تقديسها واعتبار عدم الاحتفاء بها أمرٌ سيء ومرفوض اجتماعياً وثقافياً وحتى عقـائدياً.
إن التركيبات الاجتماعية عديدة ومتنوعة ومتفاوتة الدرجة والمستوى في علاقاتها بالمجتمع ككل، غير أن العائلة (الأسرة) تعتبر من أهم هذه التركيبات والتي تشكل المنبع لكثيرٍ منها كـ(المدرسة- المؤسسة… إلخ)، وذلك لطابعها المميز بشرياً وثقافياً واجتماعياً وبيولوجياً، ولدورها الأساسي والحساس في الحراك المجتمعي وتغيير اتجاهه، باعتبار أن العائلة- بكل ما تحمله من دلالات مختلفة- هي الخلية القاعدية والنواة المنتجة للمجتمع ولكيانه الروحي والمـادي.
ففي هذا العصر، الفائق التطور بالعلم والتكنولوجيا، لا يمكن أن يُعفى المسلم المخاطب دائماً بكلام الله وآياته المسطورة والمنثورة في الكون، من مسؤولية تحمل عبء أعماله، ونقـد ذاتهِ، ومحيطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بهدف التغيير للأفضل. فنحن في عصر الفضائيات والألواح المحفوظة والقنوات الأثيرية والسيبرانية التي لا تتوقف عن كل أنواع التخاطب والتراسل، بل وتكشف أيضاً المستور والمتواري وما تُخفي النفوس وما يجول في الضمائر وما يخطر على البـال.
المصدر: اشراق