فايز سارة
أكاد أجزم أن الكلام التركي حول عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم هو كلام يتصل بالانتخابات، التي يستعد الأتراك لدخولها العام المقبل، والتي من شأنها أن ترسم آفاقاً في مستقبل تركيا ودور الفاعلين الرئيسيين من نخبتها السياسية، وفي أحزابها أيضاً. الأمر الذي جعل القادة السياسيين والأحزاب يسارعون إلى التدخل في الموضوع، بعد أن جعلت بعض شخصيات وأحزاب المعارضة الموضوع شماعة، تعلق عليها كل مشكلات تركيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وتقديري أن ذلك جعل قادة السلطة في تركيا، وبينهم الرئيس رجب طيب إردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية، اللذان فتحا بوابات تركيا لدخول السوريين الكثيف، يدخلون بوابة الموضوع على نحو ما تضمنته خطة إردوغان بإعادة مليون لاجئ سوري «طوعاً» إلى بلادهم.
ورغم أن الحديث يتصل بالاستحقاق الانتخابي المقبل في تركيا، فإنه لا يمكن النظر إليه باعتبار أنه سيكون بدون تأثيرات على واقع السوريين ووجودهم في تركيا، ولعل الأقل في ذلك، أنه سيفرض رسم سياسات واتخاذ إجراءات حول وجود ومستقبل السوريين وحياتهم في تركيا، وقد بدأت حكومة إردوغان تنظيماً شاملاً في إقامات السوريين وتوزيعهم على الولايات وفي المدن وفق معايير محددة، ولا شك أن تنظيم العمالة السورية من بين النقاط العاجلة، التي ستعمل الحكومة التركية على إتمامها.
ولأن المعالجات السابقة بدت لا تتصل مباشرة بموضوع عودة السوريين إلى بلادهم، فإنها تقارب الموضوع، وتعالج بعض آثاره السلبية سواء لجهة السوريين أو لناحية الأتراك، وهو أقصى ما يمكن أن تقوم به تركيا في معالجة وضع السوريين المقيمين فيها، وقد تضاف إليه تفاصيل أخرى تتضمن إعادة جزئية لبعض اللاجئين، منها إعادة مخالفين أو أصحاب مشكلات إلى مناطق الشمال، على نحو ما جرى مرات ومرات في السنوات الماضية، وذلك لا يتعني إعادة اللاجئين، البالغ عددهم في تركيا نحو 4 ملايين سوري، ولا إعادة مليون واحد.
إن إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم أمر غير ممكن من جانب تركيا أو من جانب أي دولة فيها كم كبير منهم، وموانع عملية كهذه تتصل بأوضاع البلد المعنيّ من جهة، والأوضاع المحيطة بالقضية السورية والواقع السوري من جهة ثانية، وإذا كان الأمر يتعلق بتركيا مثلاً، فلا بد من ملاحظة نقاط، منها أن وجود السوريين في تركيا مضى عليه أكثر من 10 سنوات، وقد ترتب عليه واقع جديد بين معطياته؛ حيث قسم كبير حصل على الجنسية التركية، فماذا سيكون وضع هؤلاء وعائلاتهم، وثمة قسم من السوريين افتتح بشكل قانوني أو بشكل عملي مؤسسات وشركات واستثمارات وأعمالاً، صارت جزءاً من البنية الاقتصادية في قطاعي الخدمات والإنتاج التركي، كما أن نحو مليون ونصف مليون سوري صاروا في تعداد قوة العمل التركية، وهناك نحو مليون منزل، وما يقارب نصفها على الأقل من محال تجارية وعقارات استثمارية يستأجرها سوريون، وتدرّ دخولاً على مواطنين ومؤسسات تركية.
لعل الأهم مما سبق كله أن الأتراك والسوريين جيران على طول خط حدود يصل نحو 1000 كيلومتر، وبينهما تاريخ وإرث ثقافي وديني وعلاقات تمتد إلى 1000 عام مضى، وبينهم مستقبل مشترك بين تحدياته 3 موضوعات مهمة؛ تداخل سكاني له أبعاد سياسية وأمنية على جانبي الحدود، ومياه مشتركة، وإرث من ممتلكات ملتبسة تحتاج حلولاً ومعالجات، إضافة إلى ما يفرضه المستقبل من تعاون وتشارك اقتصادي، في وقت يتجه العالم إلى تعزيز العلاقات بين الدول المتجاورة، وحاجة سوريا في مرحلة إعادة الإعمار لما يملكه الأتراك من قدرات وخبرات، وكلها معطيات تجعل العلاقات التركية – السورية في المستويين الشعبي والرسمي قضية استراتيجية، بل هي قضية أمن قومي تركي، تتجاوز فكرة التعامل معها، باعتبارها قضية انتخابية، على نحو ما تظهر اليوم، وأحد موضوعات الاستهلاك الإعلامي.
أما ما يمنع إعادة اللاجئين السوريين من الناحية الواقعية، سواء من جانب تركيا أو غيرها، فإنه لا يقل أهمية عما سبق. إذ للموضوع أبعاد سياسية وقانونية وأخلاقية، لا يمكن تجاوزها أو اللعب بها، وحالة لبنان مثالاً؛ حيث تخيل البعض أن لبنان بإمكانه القيام بذلك، وسط مجموعة معطيات «مساعدة». في مقدمتها أنه محكوم بسلطة موالية لنظام الأسد، وأن الوجود السوري محدود وهشّ، وأن السوريين فيه بفعل معاناتهم الحياتية وظروفهم الاقتصادية والأمنية، يميلون أكثر للعودة إلى بلادهم، مع وجود بنية ميليشياوية شاركت في المقتلة السورية وبنية سكانية معادية ترتبط بـ«حزب الله» (إيران)، إضافة إلى وجود ضغوط روسية، هدفها دفع لبنان لإعادة اللاجئين إلى سوريا.
إن الموانع الواقعية لإعادة اللاجئين على نحو ما يظهر في الحالة التركية بالنسبة للاجئين السوريين، يمكن أن تكون كافية لمنع إعادتهم إلى بلادهم؛ حيث سوريا ما زالت وسط البيئة السياسية والأمنية الطاردة، والأوضاع الحالية تواصل تردياتها وتدهورها السياسي والأمني في سوريا، بالتزامن مع غياب أي أفق لحل سياسي، وكلها تدفع إلى مزيد من السوريين للمغادرة، لولا ما هو قائم من شبه إغلاق لحدود دول الجوار. وعليه فإن من البديهي استمرار بقاء السوريين في تركيا وغيرها من بلدان اللجوء، سواء أكانت تطبق نظام الإقامة المؤقتة الـ«كملك» التركي الذي يوفر قدراً محدوداً من الحماية والرعاية للمقيمين أو في البلدان الأخرى، التي تطبق قوانين لجوء توفر حماية ورعاية بالاستناد إلى إرث عالمي، يمنح اللاجئين حق الإقامة في البلد المضيف، ويمنع إعادتهم إلى بلدهم الأصلي في حالات الخطر، ويوفر لهم خدمات التعليم والرعاية الصحية والسكن والعمل وغيرها، ويمنحهم وثائق سفر، وصولاً إلى منح الإقامة الدائمة، ثم الجنسية، التي تجعل اللاجئ مواطناً كامل الحقوق في بلد اللجوء، وكله يشير إلى أن الدول التي تقبل اللجوء، وتعطي اللاجئين حقوقاً تؤهلهم للمواطنة، لا يمكن أن تفكر بإعادة هؤلاء إلا إذا رغبوا، أو أن خللاً حدث في عملية لجوئهم، أو في حال ارتكبوا مشكلات خطيرة، وكله محكوم بأطر قانونية، تجري إجراءات الإبعاد استناداً إليها.
خلاصة القول، في موضوع عودة اللاجئين إلى بلادهم، ولو كانت طوعية، إنها ستظل محكومة بالمعطيات الواقعية، وخاضعة لظروف سياسية وقانونية وأخلاقية، وبالتالي فإن القيام بها من جانب دولة ما، هو بين أصعب ما يمكن القيام به، وأعتقد أنه لا يمكن لدولة، مهما كان وضعها ودوافعها، أن تقوم بمثل هذه العملية.
المصدر: الشرق الأوسط