حسن النيفي
لقد أخفقت قوى الثورة والمعارضة في سورية – سياسياً وإعلامياً – على مدى أحد عشر عاماً في إظهار الفحوى الجوهري لقضية السوريين، كما أخفقت في جعل القضية السورية تحظى بدرجة من الأولوية على أجندات المجتمع الدولي، ولا يعود هذا الإخفاق إلى ندرة في المُنجَز الثوري السوري، ولا إلى شحّ في التضحيات، وليس كذلك إلى وعيٍ مجتمعي متخلف كما يزعم آخرون، بل غالباً ما يأتي الإخفاق من أحد جانبين، أو كليهما معاً، فإمّا أن يكون من جعل نفسه وصيّاً أو وكيلاً عن القضية كان جاهلاً – بالأصل – بماهيّة تلك القضية وأبعادها الحقيقية، أو أنه يعرف ماهيتها ولكنه يجهل السبل والوسائل السليمة التي تمكّنه من الدفاع عنها بنجاح، ولكن في كلتا الحالتين النتيجة واحدة، إذ إن الضحية هم أصحاب القضية دائماً، وليس الوكلاء.
لعل ما يسوّغ لنا الإقرار بهذه الحقيقة الموجعة هو المفارقة التي أحدثها الفيديو الذي نشرته صحيفة الغارديان أواخر نيسان الماضي، والذي يبيّن وقائع المجزرة التي ارتكبها نظام الإبادة الأسدي في حي التضامن بدمشق في شهر نيسان من العام 2013 ، ولعل هذه المفارقة لا تنطوي على مزيد من التعقيد، إذ تؤكد ببساطة: إن صوت الضحية كان أكثر مصداقيةً وبلاغة من صوت السياسي، ذلك أن صوت الضحية يستند إلى قوّة الحق، بينما صوت السياسي استند إلى قوة السياسة التي افتقد الساسة السوريون أكثر مقوّماتها، فضلاً عن أن نجاح السياسة مرهون بما يملكه السياسي من أوراق قوّة على الأرض، واليوم لعل السوريين قد فقدوا معظم أوراقهم، إن لم نقل لقد جعلوها رهينة بيد الآخرين. وبطبيعة الحال لا يمكن التنكّر لمجمل العوامل التي جعلت من فيديو مجزرة التضامن يحظى بهذا التأثير والانتشار، ولعل في طليعة تلك العوامل هو الموقف البريطاني الحازم من الحرب الروسية على أوكرانيا، علماً أن الأوربيين جميعاً، بل العالم أجمع، يدرك أن الداعم الأكبر لجرائم الطغمة الأسدية هم الروس، وحين يتحدث العالم – اليوم – عن جرائم بوتين في أوكرانيا لا بدّ ان يكون الحديث مقروناً بجرائمه في سورية، وهكذا بات فضح جرائم الأسد في سورية يأتي في سياق تسليط الضوء على الإجرام الروسي وملحقاته في جميع أنحاء العالم. ولكن السؤال الذي يبقى يردده الكثيرون بعفوية : لماذا التركيز على مجزرة التضامن فقط؟ علماً أن ثمة مجازر أسدية أخرى لا تقل فظاعة عن مجزرة التضامن، إن لم تكن أشدّ منها فظاعة بكثير، فما قامت به الميليشيات الإيرانية في ريف حلب الجنوبي هو أشدّ إيلاماً ووحشيةً، إذ إن إلقاء المواطنين في الآبار، وقيام الجرافات بردم التراب والحجارة فوقهم وهم أحياء، لهي ميتةٌ أشدّ وحشية من إطلاق الرصاص، وكذلك اقتحام الشبيحة الطائفيين لقرى بانياس، وتحديداً لقرية البيضا، وذبح الأطفال والشيوخ بالسكاكين لهو أشدّ ترويعاً مما حصل في مجزرة التضامن، بل هناك العشرات وربما المئات من المجازر التي ارتكبتها قوات الأسد بحق السوريين، وكل واحدة منها تحمل أبلغ الدلالات عن طبيعة الإجرام الأسدي ودمويته، وعلى الرغم من كل ذلك، لم تكن هذه المجازر موضع اهتمام المعارضة الرسمية السورية، بينما فيديو مجزرة التضامن كان نتاج جهد توثيقي إستثنائي قام به ناشطون من خارج فضاء الكيانات الرسمية للمعارضة، وبالطبع لا يمكن تفسير سلوك المعارضة الرسمية بعدم الاكتراث بالجانب الحقوقي والإنساني واعتماده منطلقاً للدفاع عن القضية السورية، على أنه نقص معرفي أو ندرة في المعلومات أو الافتقار إلى التوثيق فحسب، بل لعل الأهم من ذلك كله هو المفهوم الخاطئ الذي يتحكّم بتفكير تلك المعارضة في مواجهتها لنظام الأسد، ذلك أن الذين تدافعوا إلى كيانات المعارضة ذات التأسيس المستعار من الخارج، كذلك سارعوا إلى تبنّي فهمٍ ( مُستعار) أيضاً فيما يخص ماهيّة نظام الأسد، ولم يعتمدوا على فهم نابع من معرفة السوريين ومعايشتهم ومعاناتهم في ظل نظام الأسد طيلة نصف قرن،فحين وصف المجتمع الدولي حكم آل الأسد بأنه نظام إستبدادي لا ديمقراطي قمعي متفرّد بالسلطة، وبناء على ذلك، لا بدّ من إيجاد السبل المؤدية إلى إصلاح نظام الحكم وتحويله إلى نظام ديمقراطي يتأسس على سيادة القانون ومبدأ تداول السلطة، وانطلاقاً من هذا التشخيص جاءت القرارات الأممية ( جنيف1 – 2118 – 2254 ) لتؤكّد جميعها على ضرورة إنشاء هيئة حكم إنتقالي تتشارك فيها السلطة والمعارضة، ثم كتابة دستور جديد، ثم انتخابات بإشراف أممي، ولعله من الطبيعي أن تأتي وصفة العلاج الأممية منسجمةً مع التشخيص المنقوص أو القاصر لماهيّة المشكلة، ولكن المؤسف والمؤلم معاً أن المعارضة ذهبت إلى ما دون تلك الوصفة المنقوصة أو المشوّهة، فتخلّت عن فكرة ( هيئة الحكم الإنتقالي) وذهبت إلى مسار أستانا الذي أفضى بدوره إلى سوتشي، ثم مسار اللجنة الدستورية العبثي.
لعل اختزال المشكلة الأسدية بفكرة ( الاستبداد السياسي)، و من ثم القناعة بجدوى إصلاح النظام سياسياً ودستورياً، هو ما جعل المعارضة أكثر تماهياً مع الفهم ( المُستعار) لأصل المشكلة، وبالتالي أكثر تماهياً – أيضاً – مع المسارات التفاوضية التي باتت تنزاح شيئاً فشيئاً عن أيدي السوريين، بل ربما باتت بالمطلق بأيدي أطراف خارجية، إقليمية ودولية، ولم يبق للسوريين إلّا الدور الوظيفي الذي يحدّده ويرسم معالمه الآخر الخارجي. في حين أن ما يؤكده فيديو مجزرة التضامن، وكذلك المجازر الأخرى، وبنصاعة لا تقبل أي لبس، أن جذر المشكلة السورية لا يتجسّد بنظام حكم إستبدادي يمكن للديمقراطية أن تتسلل إلى أركانه عبر الإصلاح، ولا يتجسّد أيضاً بوجود حاكم يعشق السلطة فقط، ويسعى للبقاء في الحكم تلبيةً لنزوعه السلطوي فحسب، بل يمكن التأكيد على أن ما تؤكّده مجازر آل الأسد بحق الشعب السوري هو أن السوريين ليسوا في مواجهة نظام مستبد سياسياً بل في مواجهة نظام إبادة توحّشي إستئصالي، وليسوا كذلك في مواجهة حاكم يريد الاستمرار في حكم البلاد، بل في مواجهة طغمة لا ترى في سورية سوى عقار أو مزرعة تملكها هي، وجميع من في المزرعة من مخلوقات ليسوا سوى قطيع يدين بوجوده إلى مالكه، بل ربما كانت دموية الأسد أو توحّشه نابعاً في الأصل من اعتقاده بأنه يدافع عن ملك عضود يخصه وحده و لا حق للسوريين فيه، وبناء على هذا التصوّر فلا يمكن أن تكون معركة آل الأسد مع السوريين سوى معركة وجودية، معركة مصير، فسورية لا تحتمل وجود نقيضين ( آل الأسد – الشعب ) بل لا بدّ من استئصال أحدهما.
جانب كبير من معضلة المعارضة الرسمية السورية تكمن في توهّمها بأن ( الإبادة الأسدية) ذات منشأ يعود تاريخه إلى آذار 2011 ، في حين تشير الحقائق إلى أن علائم الإبادة كانت جزءًا من بنية الطغمة الأسدية منذ اعتصابها للسلطة عام 1970 ، فالنسخة الأولى من مجزرة حي التضامن قد حصلت في نهاية سبعينيات القرن الماضي في حي المشارقة بحلب، ثم تتالت النسخ الأكثر إبادةً في سجن تدمر (حزيران1980 )، ثم في حماة ( شباط 1982 )، فما الذي يجعل أشكال الإبادة قبل 2011 يختلف عما بعدها؟ أليس القاتل واحداً ومنهج الإجرام واحداً؟ أليس الضحايا في كلتا الحقبتين هم من السوريين أنفسهم؟
على امتداد نصف قرن، لم تتوان الطغمة الأسدية في التعبير عن ماهيتها بأبلغ الوسائل وأشدّها وضوحاً، وفيديو مجزرة التضامن لم يكن أكثرها بلاغةً، ولعل هذه الحقيقة لم تعد خافية على معظم السوريين، بل ربما كانت الباعث الحقيقي لانطلاق ثورتهم ( سورية لينا وما هي لبيت الأسد)، باستثناء من قفز وادّعى قيادتهم، فاستمرأ الوهم، ثم اتخذه وسيلة للاعتياش.
المصدر: موقع المجلس العسكري