إيلي عبدو
مفهوم الوطني في الكتابات السياسية السورية، واسع جداً يمتد من «محاربة الاستعمار» مروراً بالموقف «النضالي» من قضايا العرب وصولاً إلى احتكار النظام للوطنية، وتوظيفها لصالحه كأداة من أدوات تعميم السلطوية. وإن كان، ثمة ارتباط بين تحولات المفهوم وتوظيف النظام لناحية استثمار الأخير لأفكار وعقائد طالما أثرت بوعي السوريين، فإن هناك مشتركا بين التحولات تلك، هو تحديد الوطني انطلاقا من الخارج، سواء كان استعمارا أو قضايا عربية، وليس من الداخل، يرتبط بسوريا نفسها.
والتحديد هذا، رتّب تصورا لسوريا بوصفها كتلة واحدة، تحارب الاستعمار كلها وتنحاز لقضايا العرب كلها، من دون الالتفات، إلى أن البلد حارب الفرنسيين، انطلاقا من انقساماته وتفتته، وليس انطلاقا من وحدته وانسجام جماعاته، حتى لو أخذنا أبهى قصص النضال السوري ضد الفرنسيين، سيظهر بسهولة أن هذا النضال قوامه أهلي مناطقي فرعي، وليس وطنيا عاما وشاملا، إذ أن هذا الأخير غير متاح في بلد غير متشكل أصلاً، وهويته ضائعة، ويعاند بعض أبنائه قبول حدوده الجديدة. كذلك، الانحياز لقضايا العرب، فقد خرج من التصعيد الشعبوي، للأحزاب «التقدمية» التي تتبنى عقائد فوق سوريا، فلم يجر مرة استفتاء أو استطلاع رأي، حول موقف السوريين من قضية ما. غالبا ما انجرف الشعب، عاطفيا وشعوريا وراء أحزاب ترى سوريا بلدا مؤقتا، ولا بد من استيعابه بكيان أكبر. والأحزاب، التي ضمت، بعثا وقوميين وشيوعيين وعروبيين وناصريين وحورانيين، صعدت من خلال تناقض، تطور لاحقا ليشكل رافعة لاستبداد طويل. إذ نقلت التناقضات الاجتماعية والطائفية في المجتمع، إلى، الأيديولوجي، بدون أن يكون لهذا الأيديولوجي، بنى تتصارع داخله.. فلا طبقات في المجتمع، ولا قومية تشبه تلك التي نشأت في الغرب، ولا عروبة واضحة تقبل جميع الفئات بالانضواء تحتها. هكذا أصبح المنتمي لطائفة أو منطقة أو عشيرة، منتميا أيضاً إلى أيديولوجيا لا توجد إمكانية أصلاً للانتماء إليها، الأمر التي عمّق الانتماءات الأهلية، وجعل الأيديولوجيات، البيئات المثلى لقيام النظم الأمنية والمخابراتية، والاستبدادية لاحقا. ما يعني، أن انتماء السوري لقضايا العرب، متصل بمناخ أحزاب الستينيات والسبعينيات، وفشلها في تجاوز الانقسام الأهلي، والاستعاضة عن ذلك بتزييف أيديولوجي يضع سوريا في موقع يتجاوز ذلك التي حددته اتفاقية سايكس بيكو، أي أن هذا الانتماء يمر بانقسام مجتمعي مغلّف بتزييف أيديولوجي.
وعليه، فإن عنصري، تعريف الوطني السوري، محاربة الاستعمار والموقع من قضايا العرب، ليسا بريئين من الانقسام والتفتت، ومعايير تحديد الوطني هي ذاتها معايير تحديد الطائفي والمناطقي والعشائري. من هنا، يصبح من الطبيعي، أن تحتكر، سلطة متهمة بالتطييف، مفهوم الوطنية، وتصنف الناس «خونة» و»وطنيين» وحين ينطلق، حراك معارض ضد هذه السلطة، يصير الحراك نفسه لمجرد أنه حراك، معيارا للوطنية، ويتقلص المفهوم إلى معارض وموالٍ.
اختلاط المعايير، وتحديدها للوطني وللطائفي أو للعشائري، معاً، ليس مفارقة بقدر ما هو نتيجة للفوات الذي حصل في التاريخ السوري، فبدل الانطلاق مما نحن عليه، جرى القفز إلى ما نتمنى أن نكون، فلم تعالج البنى التقليدية، ولا انتقلنا إلى بنى حديثة. وفي المراوحة هذه، زيّف الأيديولوجي تصورنا لذاتنا، وتوهمنا موقعا في قضايا العرب واخترعنا سردية نضالية مبالغة بها، حيال المستعمر.
وبالنتيجة، الوطني السوري، غير موجود حالياً وجارٍ البحث عنه، لأن سوريا نفسها عبارة عن سؤال لم يجب عليه السوريون عقب استقلالهم، انطلاقا من تكويناتهم وتراكيبهم الاجتماعية، بحيث تحدد كل جماعة علاقتها بهذا البلد، وتطور هذه العلاقة ضمن تصورات الجماعات الأخرى، مع مراعاة حيز للأفراد المستقلين. بمعنى آخر، الاشتغال على الوطنية بوصفها معادلات وتنازلات وتوافقات، بين الجماعات والأفراد في سوريا، وليست وعاء نظريا يتم تحميله بأي مضمون عابر للبلد. وطنية، تنطلق من شروط سورية، بدل التلهي باختراع أوهام، هي امتداد لمعايير ترتبط بالأجنبي أو المحيط العربي، وتعرّف الوطنية بالضد من آخر وليس انطلاقا من حاجة الذات.
المصدر: القدس العربي