على مدرج مطار “إسن بوغا” في العاصمة التركية أنقرة، هبطت طائرتان إحداهما روسية والأخرى أميركية، وبحضور عناصر استخبارات من الدول الثلاث، تبادل الجانبان الأميركي والروسي سجينين، هما الجندي السابق في مشاة البحرية الأميركية تريفور ريد، والطيار الروسي كونستانتين ياروشينك.
وما إن شاع الخبر في الولايات المتحدة الأميركية مع وصول السجين المحرر إلى أراضي بلاده في أواخر نيسان الماضي، حتى عاد ملف تحرير المحتجزين الأميركيين في الخارج إلى الواجهة من جديد، بضغط من العائلات التي عاودها الأمل. وبرز بشكل خاص في موجة الضغط هذه اسم أوستن تايس، المفقود في سوريا منذ عام 2012.
في هذا التقرير يراجع موقع تلفزيون سوريا سياسة الإدارات الأميركية في التعامل مع ملف الأميركيين المحتجزين في الخارج، وما قد يعنيه ذلك في المستقبل المرتقب على السوريين، من خلال تسليط الضوء على القرارات التي اتخذتها واشنطن في التعاطي مع قضية معتقليها لدى أنظمة ثلاث دول بشكل خاص، سوريا وإيران وروسيا.
الرهائن في سوريا
خارج دمشق، وعلى حاجز تابع لقوات النظام السوري بالقرب من داريا، اختفى شاب أميركي بعمر 31 سنة، يوم الثلاثاء 14 آب 2012. كان هذا أوستن تايس، وهو طالب في كلية القانون بجامعة “جورج تاون” في تكساس، وجندي سابق في البحرية الأميركية، وصل إلى سوريا في محاولة لنقل بعض القصص الإخبارية إلى وسائل الإعلام الأميركية، عن الحرب الدائرة رحاها في البلاد منذ قرابة عام ونصف حينها.
تعتبر قضية أوستن تايس منذ ذلك الحين، أحد أهم الملفات التي حاول نظام الأسد استغلالها للضغط على الإدارة الأميركية من أجل تحقيق مكاسب، رغم نفي نائب وزير خارجية النظام حينها، فيصل المقداد، وجود أي علاقة للنظام بقضية تايس: “أوستن ليس موجودًا لدى السلطات السورية، ولا توجد أدنى معلومات تتعلق به”. قال المقداد.
وكان فيديو بعنوان “أوستن تايس على قيد الحياة”، مدته 43 ثانية، قد نشر على موقع “يوتيوب” بعد خمسة أسابيع من اختفاء تايس، يظهر فيه الأخير معصوب العينين، ومحاطاً بعناصر ملثمين يرددون شعارات دينية إسلامية، لكن الحكومة الأميركية قالت إنها تعتقد بأن الفيديو مفبرك لاتهام الميليشيات المسلحة باختطافه، في حين أن النظام السوري هو المسؤول عن اختفائه.
رسالة شخصية وعرض للعلاج من السرطان
بذلت واشنطن منذ ذلك الحين جهودا دبلوماسية عديدة لاستعادة تايس، أبرزها:
محاولة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إقناع نظام الأسد بالتعاون من أجل إطلاق سراح تايس، مذكراً بالخدمات التي بذلتها الولايات المتحدة من أجل التخلص من خلافة داعش في سوريا، خلال مؤتمر صحفي في 19 آذار 2020.
إرسال ترامب رسالة شخصية إلى بشار الأسد، كشف عنها وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في آب 2020، اقترح فيها فتح حوار مباشر حول قضية تايس.
زيارة كاش باتيل، المسؤول في البيت الأبيض ونائب أحد مساعدي الرئيس دونالد ترامب وأكبر مسؤول عن مكافحة الإرهاب، إلى دمشق في فترة لم تحدد بالضبط خلال عام 2020، للتباحث مع نظام الأسد حول مصير بعض الأميركيين المحتجزين لديه، وهي أول زيارة تجمع مسؤولا أميركيا كبيرا بمسؤولين من النظام السوري خلال أكثر من عشر سنوات.
عرض واشنطن استعدادها للمساعدة في علاج زوجة رئيس النظام السوري، أسماء الأسد، من مرض السرطان، عن طريق دولة حليفة في المنطقة، مقابل مرونة أكبر من قبل النظام في المفاوضات حول مصير الرهائن الأميركيين في سوريا، بحسب تقرير منشور لوكالة “أسوشيتد برس”، بتاريخ 8 نيسان 2021.
شروط النظام للتفاوض
النظام السوري الذي نفى مسؤوليته سابقاً، وافق على إجراء مفاوضات سرية حول مصير الشاب، لكنه وضع عدة مطالب رئيسية للتعاون في الملف:
رفع العقوبات عن سوريا
انسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية
عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين
نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأميركية، حسم الرد الأميركي على طلبات من هذا النوع، في كانون الأول الماضي، بأن بلاده قد تتفاوض مع بعض الأنظمة التي لديها علاقات سيئة معها، من دون إجراء أي تحول دبلوماسي في العلاقة بين البلدين.
إدارة بايدن تستعين بوساطة جديدة
مع زيادة الضغط الآن على إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تستعين واشنطن بمدير جهاز الأمن العام في لبنان، اللواء عباس إبراهيم، للتوسط في المفاوضات مع النظام السوري، وهو مسؤول ذو تاريخ من النجاحات في التوسط لتحرير مختطفين سواء لدى النظام أو لدى المعارضة، بل وحتى لدى تنظيمات إرهابية مثل “القاعدة”.
وإلى جانب تايس يوجد خمسة أميركيين آخرين تعتقد الولايات المتحدة أن النظام السوري يحتجزهم، أحدهم الطبيب النفسي ماجد كم الماز، الذي يحمل الجنسيتين السورية والأميركية، وقد اعتقل على حاجز للنظام في دمشق في شباط 2017. أما الأربعة الآخرون فتفضل عائلاتهم التستر على هوياتهم خوفاً على حياتهم.
الرهائن في إيران
تاريخياً استخدمت إيران أسلوب الخطف والاعتقال أداة للضغط السياسي على خصومها، منذ اقتحام أنصار لـ”الثورة الإسلامية” السفارة الأميركية في طهران، في الرابع من تشرين الثاني عام 1979، أي بعد أقل من تسعة أشهر على سقوط الشاه محمد رضا بهلوي، واختطفوا منها 52 دبلوماسياً أميركياً، فيما يعرف باسم “أزمة الرهائن”.
واشترط الخاطفون تسليم الشاه الذي كان يخضع للعلاج في الولايات المتحدة في أثناء الإطاحة بحكمه، إلى إيران لمحاكمته، مقابل الإفراج عن الدبلوماسيين المختطفين، وهو ما تسبب بأزمة دبلوماسية بين البلدين.
المعتقلون والاتفاق النووي
اليوم، وبالتزامن مع المحادثات الجارية في العاصمة النمساوية فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية، ارتفعت وتيرة اعتقالات النظام الإيراني بحق الأوروبيين والأميركيين مؤخراً، مع تعثر المحادثات النووية.
يمكن الربط بسهولة بين سعي إيران لكسب المزيد من النفوذ خلال المفاوضات، وبين اعتقال المواطنين الغربيين أو مزدوجي الجنسية على أراضيها، كون المحادثات النووية غير المباشرة بين الطرفين، قد جلبت معها مفاوضات لتبادل سجناء بين البلدين.
وخلال مؤتمر صحفي في 24 كانون الثاني الماضي، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، إن بلاده يمكن أن تتوصل لاتفاقيات “دائمة” بخصوص المعتقلين والقضايا النووية في وقت قصير، في حال كان هناك رغبة من جانب واشنطن. رابطاً بذلك بين الموضوعين (النووي والمعتقلين) بشكل صريح.
وبحسب موقع إذاعة “صوت أميركا”، وهو الإذاعة الرسمية للولايات المتحدة، فإن مصادر مطلعة على المفاوضات الدبلوماسية أكدت أن إيران لا تسعى لإطلاق سراح مواطنيها، بل للحصول على مزيد من الأموال عن طريق إلغاء تجميد أصولها في الخارج، بحسب جيسون برودسكي، مدير السياسات في منظمة “الاتحاد ضد إيران النووية”.
سوف يؤمن إلغاء تجميد الأصول الإيرانية في الخارج التمويل لاستمرار النظام، وأذرعه العسكرية في الخارج، ولا سيما الحرس الثوري الإيراني، بالتزامن مع مطالب إيرانية بشطب الحرس من قائمة الإرهاب ضمن الجهود الرامية لإنقاذ الاتفاق النووي.
هل تدفع واشنطن؟
تاريخياً شهدت السياسة الأميركية عدة أشكال لنهاية التفاوض على المعتقلين أو الرهائن مع طهران، أبرزها:
ردت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، على “أزمة الرهائن” عام 1979، بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إيران، وتجميد أصولها في الخارج. ولم يفرج عن الرهائن إلا بعد وفاة الشاه في مصر، وانتهاء ولاية كارتر. لكن العلاقات الدبلوماسية بقيت متأزمة بين البلدين.
في كانون الثاني عام 2016، أطلقت واشنطن سراح 7 معتقلين إيرانيين في سجونها، وكذلك فعلت طهران مع 4 معتقلين أميركيين. لكن تقريرا لصحيفة “وول ستريت جورنال” اتهم إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، بدفع فدية قد تصل إلى 400 مليون دولار للنظام الإيراني، وهو ما نفاه البيت الأبيض حينها.
خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، تبادل البلدان سجناء في حزيران عام 2020، وفي كانون الأول 2019، نتج عنه تحرير مواطنين أميركيين اثنين، مقابل مواطنين إيرانيين اثنين، بحسب موقع إذاعة “صوت أميركا””.
لكن إيران تفاوض الآن على شروط تتجاوز مصيرها وحدها إلى مصير المنطقة برمتها، فأذرعها العسكرية شريك رئيسي في جميع الحروب تقريباً، من سوريا إلى اليمن.
الرهائن في روسيا
“توقّفت الطائرة الأميركية بجانب الطائرة الروسية وتم إطلاق السجينين بشكل متزامن على غرار ما يحصل في الأفلام”. بهذه الكلمات وصف والد الجندي الأميركي تريفور ريد، مشهد تبادل ابنه مع الطيار الروسي كونستانتين ياروشنكو، وهي العملية التي أعادت الزخم لملف المحتجزين الأميركيين.
ولا يبدو هذا الوصف مجانبا للصواب، فمشهد التبادل في المطار التركي أعاد إلى الأذهان صورة جسر غلينيك في برلين خلال فترة الحرب الباردة، والمعروف باسم “جسر الجواسيس”، الذي شهد العديد من عمليات تبادل الأسرى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
ومنذ عقود طويلة، بدت عمليات التبادل هذه مقتصرة على تحرير سجناء ورهائن من كلا الطرفين، من دون تنازلات سياسية كبيرة تذكر، أو هذا ما يمكن رصده من تصريحات المسؤولين.
القرار الصعب
لكن الرئيس الأميركي، جو بايدن، أثار القلق حين قال، إن “المفاوضات التي سمحت بإعادة تريفور ريد إلى الوطن تطلبت قرارت صعبة لا أستخف بها”، لا سيما أن تبادل السجناء جاء مع تصاعد التوتر بين واشنطن وموسكو، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا.
لكن مسؤولين أميركيين آخرين نفوا أي تحسن في العلاقات بين البلدين، أو وجود أي تغير بما يتعلق بموقف واشنطن من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وأكدت على ذلك المتحدثة باسم البيض الأبيض، جينيفر ساكي، نافيةً علمها بوجود أي تنازلات أخرى انتزعتها موسكو من واشنطن بخلاف تبادل السجناء فقط.
اتضح لاحقاً أن الصعوبة التي كان يشعر بها بايدن، تتعلق بتخفيض عقوبة الروسي كونستانتين ياروشنكو، المدان بتهريب الكوكايين، في مقابل إطلاق صراح الأميركي تريفور ريد، المدان بالاعتداء على شرطي روسي تحت تأثير الكحول، الذي يعاني من ظروف صحية مقلقة، وفق ما نقل موقع “سي إن إن”، عن مسؤول أميركي كبير في الإدارة الأميركية لم تسمه.
وما يزال في سجون الروس أميركيان، هما بول ويلان المعتقل بتهمة التجسس، والذي طالب بايدن صراحةً بترتيب عملية تبادل أسرى لإطلاق سراحه، مؤكداً أنه ضحية “دبلوماسية الرهائن”. ونجمة كرة السلة الأميركية بريتني جرينير المعتقلة بتهمة تهريب مواد مخدرة.
ثمن “المجاملة”
تخبرنا هذه الجولة السريعة في تاريخ المفاوضات الأميركية مع الأسد وحلفائه، أنه ليس من السهل إطلاقاً معرفة ما قد تنتهي إليه جهود الدبلوماسية الأميركية من أجل دفع النظام السوري لإطلاق سراح أوستن تايس وماجد كم الماز، ورفاقهما.
وفي الوقت الذي تعلن فيه واشنطن أنها لن تتعامل مع نظام الأسد بشكل مباشر، يصرّ النظام السوري على رفض التفاوض حول قضية تايس عبر الوسطاء.
لماذا؟ ربما من أجل إضفاء طابع من الشرعية على النظام، على غرار ما فعل المجلس العسكري المنقلب على الحكومة المنتخبة في مينامار، الذي نشر صوراً تجمع قائد المجلس مع الدبلوماسي الأميركي بيل ريتشاردسون، خلال التفاوض على إطلاق سراح الصحفي الأميركي داني فينستر، في تشرين الثاني عام 2021.
“قد يـكون موجــوداً وقد لا يكون”. بهذه الكلمات التي قالها مؤخراً عمر رحمون، المتحدث الرسمي باسم “المصالحة الوطنية” التابعة للنظام السوري، يمعن الأسد في تعذيب عائلة أوستن تايس. مدعياً أن “الحديث عن تواصل (بين أميركا والنظام) من أجل معتقل هو من باب مجاملة عائلة تايس”. وليس استثماراً في حرية إنسان وخوف عائلته، لتحقيق مزيد من المكاسب، تمكنه من الاستمرار في استثمار خوف مئات العائلات الرهينة تحت حكمه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا