بشير البكر
المشهد السوري يتصل بنظيره الأوكراني، ويجد اللاعبون الرئيسيون في سورية فرصاً جديدة لتبادل الرسائل التي تخص التطورات في أوكرانيا. وجاء قرار روسيا سحب بعض قواتها من بعض القواعد على الأراضي السورية ونقلها إلى أوكرانيا، ليحرك النار المشتعلة تحت الرماد في أكثر من جبهة في الشرق والشمال والجنوب السوري.
وبات هذا القرار حديث أوساط دبلوماسية ووسائل إعلام مهتمة بالتداعيات التي ستترتب على هذا التحول في المشهد الميداني على مستوى الجغرافيا السورية ككل، ولا سيما تموضع القوات الأجنبية، وتبادل النفوذ بين الأطراف الرئيسية: إسرائيل، إيران، تركيا، وأميركا.
سورية… ملء فراغ الانسحابات الروسية
بدأت أولى عمليات الانسحاب الروسية بعد مرور شهر على الحرب الروسية على أوكرانيا، بعدما فشلت خطة موسكو للسيطرة على العاصمة كييف والخسائر التي تكبدتها روسيا بالأرواح والعتاد.
وجرت عمليات الانسحاب من قواعد ومناطق انتشار في الشرق والوسط والجنوب، بما في ذلك مطار كويرس على بعد 35 كيلومتراً شرق مدينة حلب. والهدف منها تعزيز القوات الروسية التي تتعرض لحرب استنزاف في أوكرانيا.
وتقوم بملء الفراغ الذي تتركه القوات الروسية مليشيات تتبع لإيران، منها عراقية كـ”عصائب أهل الحق” التي حلّت في القاعدة الرئيسية في البوكمال، وأخرى باكستانية وأفغانية، لواءا زينبيون وفاطميون، والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وأصبحت تشكيلاً قتالياً يشرف عليه الحرس الثوري الإيراني، وهي تنتشر في حلب وريفي حماة وحمص والجنوب ومحافظتي القنيطرة ودرعا. وأسّس “حزب الله” اللبناني في منتصف إبريل/ نيسان الماضي عدة نقاط مراقبة في ريفي القنيطرة والسويداء.
تترتب على الانسحابات الروسية نتائج ميدانية مهمة، في إطار صراع النفوذ والمصالح بين إسرائيل، إيران، تركيا، أميركا، وروسيا. ولم يتأخر التناقض الإسرائيلي الإيراني في الظهور، ومن ثم تلاه إعلان تركيا عن عملية عسكرية على حدودها الجنوبية مع سورية.
ويهم إسرائيل السلاح الإيراني الثقيل الذي يتموضع منذ سنوات عدة في سورية، والذي يترافق مع بناء ما يقال إنها مصانع صواريخ ومراكز أبحاث نووية وكيمائية، وكذلك نقل أسلحة صاروخية نوعية إلى “حزب الله” في لبنان.
وكان هذا الوضع تحت السيطرة حتى حرب روسيا على أوكرانيا، ومنذ ذلك الوقت تغيرت المعطيات بسرعة، نتيجة لاهتزاز التفاهمات الإسرائيلية الروسية، تبعاً لموقف تل أبيب من الحرب في أوكرانيا.
وحاولت إسرائيل أن تلعب على الحبلين، لكن روسيا ضغطت عليها لجرّها إلى صفها، وأخذت ترسل لها رسائل تحذير من الأرض السورية، منها توجيه صواريخ سام 3 ضد الطيران الإسرائيلي أثناء قصف مصياف في شهر مايو/ أيار الماضي، وهذا أمر حصل للمرة الأولى. ويظهر أن هذا الملف على درجة من السخونة، ويهدد بانسحاب موسكو من ضبط إيران بتصعيد المواجهة بين إيران وإسرائيل.
صفحة جديدة بين موسكو وطهران
كلما قرّرت موسكو سحب مزيد من القوات، فإن نظام بشار الأسد سوف يعتمد بشكل أكبر على إيران، من أجل الاحتفاظ بالأراضي التي يسيطر عليها، وتنتشر فيها قواته والقوات الروسية من جهة، ومن جهة ثانية من أجل الدفاع عن نفسه في وجه ما يشكله وجود قوات مسلحة للمعارضة في شمال غربي سورية.
ويبدو حتى الآن أن الانسحاب الروسي منسق ومدروس مع إيران، وحتى زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران في أوائل مايو الماضي، واللقاءات التي عقدها مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، جرى ترتبيها في إطار التفاهم مع موسكو، وذلك من أجل ملء الفراغ الذي سيتركه الروس. وهذا الأمر يتطلب قراراً على أعلى المستويات من السلطات الإيرانية، لأنه قد يترتب عليه تصعيد غير مسبوق مع إسرائيل.
هذا التحول يفتح صفحة جديدة في علاقات موسكو مع طهران، والتي اتسمت بالشد والجذب منذ بداية الثورة السورية، وغالباً ما كان الطرفان يتصارعان من أجل السيطرة التكتيكية في بعض المناطق، ويختلفان حول إعادة الإعمار بعد الحرب، والسياسات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، ومع ذلك يتمكنان من التنسيق عند الضرورة.
وهنا يحضر روسيا موقف إيران كواحدة من الدول القليلة التي أعربت عن دعمها وتضامنها مع حرب روسيا على أوكرانيا، ومعارضة توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو). وعلى خلاف ما هو شائع، فإن العلاقات بين البلدين لم تتأثر باحتمال توقيع الاتفاق النووي.
ويلتقي الطرفان على مسألة أساسية وهي الحفاظ على نظام بشار الأسد، ولذا لا تجد موسكو حرجاً في نقل بعض مهامها القتالية إلى الحرس الثوري الإيراني والجماعات الأخرى الموالية لإيران. ولذا يبدو أن طلب الدعم الإيراني هو السبب المحتمل لزيارة الأسد لطهران. ولم يعد سرّاً أن القوات الإيرانية انتشرت بالفعل لملء الفراغ الذي خلفته القوات الروسية المتوجهة إلى أوكرانيا.
حسابات أوكرانية – سورية بين موسكو وأنقرة
الأمر ذاته يسري على تركيا وروسيا، حيث دخلت سورية في الحسابات الأوكرانية للطرفين. فأنقرة أوقفت تجديد اتفاقية عبور الأجواء للطيران الروسي العسكري باتجاه سورية، وطبقت “اتفاقية مونترو” التي أغلقت بموجبها المضائق البحرية بوجه نقل قوات روسية نحو البحر الأسود، وفي الوقت ذاته أشهرت معارضة لانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو.
وأدت هذه المواقف إلى فتح صفحة جديدة على أساس إعادة النظر بالتفاهمات السابقة، مع الأخذ في الاعتبار أن عين أنقرة باتت مفتوحة على اتساعها نحو هامش مناورة أوسع في سورية ضمن مناطق النفوذ الروسية، وخصوصاً الحدودية منها التي تتمركز فيها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد).
من المعروف أن هذا الطموح التركي مثار خلاف مع الولايات المتحدة، لأن واشنطن توفر حتى الآن مظلة سياسية وأمنية لـ”قسد”. وبرز في الأسبوع الماضي أن احتمال المقايضة بين تركيا وأميركا أقرب من الصدام، على الرغم مما يبدو من نبرة عالية في لهجة الطرفين، وذلك بأن تغض واشنطن النظر عن المنطقة الآمنة التي تنوي تركيا إنشاءها داخل سورية، مقابل تخلي أنقرة عن ممارسة الفيتو على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الأطلسي.
وفي هذا الصدد، برزت مفاجأة إبقاء روسيا لقواتها المنتشرة في مناطق سيطرة “قسد”، بل تعزيز بعض مواقعها في مطار القامشلي، الذي يعد قاعدة رئيسية روسية في شمال شرقي سورية.
وعمدت القوات الروسية إلى تسيير دوريات مشتركة مع قوات النظام و”قسد” على الحدود الشمالية لسورية، انطلقت من القامشلي وجابت منطقة الدرباسية، وصولاً إلى عامودا في شمالي الحسكة، بتغطية من المروحيات الروسية.
وهذا أمر يحصل للمرة الأولى على صعيد التنسيق بين النظام و”قسد”. ويتضح هنا أن هدف روسيا الأساسي قطع الطريق على العملية العسكرية التركية في تل رفعت ومنبج وعين عيسى، وعرقلة المسعى التركي لإنشاء المنطقة الآمنة.
وتنبع المعارضة الروسية للمنطقة الآمنة من أسباب عدة. السبب الأول هو أن موسكو تعتبر المنطقة الآمنة مشروعاً تركياً لتعزيز النفوذ داخل سورية، وهو ما يحد من نفوذ روسيا على مساحة كبيرة من الجغرافيا السورية، ويصعّب السيطرة عليه في المستقبل من قبل أي نظام سياسي في دمشق.
والسبب الثاني هو عودة قسم من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا وبعض بلدان أوروبا، بما يتجاوز مليون لاجئ، وهذا أمر يتناقض مع مشروع روسيا لإعادة اللاجئين وإعادة الإعمار، الذي تعول عليه كثيراً من أجل الحصول على تمويل ودعم سياسي غربي للنظام. والسبب الثالث هو أن هناك مخاوف روسية من أن تكون المنطقة الآمنة مشروعاً تركياً يحظى بدعم أميركي، ما يشكل خطراً على النظام ومصالح روسيا في سورية.
ومن هنا، فإن موسكو تطالب بثمن مرتفع لإسقاط شروطها، وهذا ما جرى بحثه في المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان يوم الثلاثين من مايو، وأكد فيه أردوغان أن “المنطقة الآمنة باتت ضرورة ملحة”.
استثمرت روسيا بكثافة في سورية، وليس مرجحاً أن تنسحب بالكامل من هذا الصراع على المدى القريب. لكن أوكرانيا تتفوق على سورية في سلّم الأولويات الاستراتيجية لروسيا، وفي غياب تعبئة عسكرية روسية عامة واسعة النطاق، وهو ما يبدو غير مرجح في الوقت الحالي، ستكون موسكو مضطرة أكثر فأكثر إلى سحب مقاتلين من سورية لمعالجة الأهداف ذات الأولوية في أوكرانيا.
ومن هنا فإن الانسحاب الروسي لن يكون مؤقتاً في جميع الأحوال، لأن الحرب في أوكرانيا لا تسير لصالح روسيا ويبدو أنها ستطول. وتحتاج موسكو إلى مزيد من القوات، بما في ذلك تجنيد مرتزقة سوريين كي يقاتلوا إلى جانبها، وقد بدأ بعض هؤلاء الانخراط في المعارك في جبهات إقليم دونباس. ولذا فإن هذه المعادلة مرشحة لأن تصبح ركيزة المشهد السوري الجديد، ما يولد خطراً كبيراً من تصعيد الصراع في سورية، ويزعزع الوضع الراهن غير المستقر.
وما هو شبه مؤكد على المدى المنظور ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني، والتطور الذي قد يستجد هو إعادة تنشيط جبهة الجنوب وتحريكها ضد “حزب الله” والفرقة الرابعة، وهذا يظهر من خلال عودة الاغتيالات لضباط النظام، واشتعال خطوط المواجهة بين قوات الجيش الوطني والمليشيات الإيرانية في مناطق شمال غربي سورية.
المصدر: العربي الجديد