مالك داغستاني
ومن هو هذا الذي سيجيء معتذراً؟ الحقيقة، هو مجرد سؤال مُتخيل عن سوريا والمجتمع الدولي. بمعنى، ماذا لو شاء الظرف الدولي أن يكون مواتياً، لتعترف الدول الفاعلة بأنها أهملت الجريمة السورية، وأنه حان وقت حساب المجرمين، وقيام دولة يحكمها القانون والانتخابات وغيرها من تلك القيم التي هي محل حرص ذاك المجتمع، حين لا يكون للكلام ثمن. أطرح هذا السؤال هنا، لأبحث قليلاً في حالنا، وإن كنا جاهزين؟ وما الذي هيأناه لمثل تلك اللحظة فيما لو جاءت؟ أخمن أنكم اعتقدتم أنني أحضّر لجوابٍ كوميدي عن حال السوريين الذي لا يسرّ؟ لا، إطلاقاً، ولو أن حالنا يحتمل شيئاً من هذا.
بدايةً، لنلاحظ الكارثة التي نوغل فيها كل يوم أكثر في قطاعين فقط، الأطفال والشباب. مليونان ومئة ألف طفل، خارج مقاعد الدراسة في سوريا، بحسب منظمة اليونيسيف، وأما باقي الأطفال في المدارس، فهم يتلقّون تعليماً سيئاً، بحسب شكاوى السوريين غير الرسمية، في مناطق سوريا الأربع. ملايين بأمّيّةٍ مقنّعة، يضافون لمليونين بأمّيةٍ كاملة. جيشٌ من الأميين لن يعجزَ حتماً عن قتل وطنٍ تتصارعُ فيه القوى التي يفترض أنها تمثله.
أكبرُ من الأطفال الأميين سناً، سنجد شريحة شباب تمت عسكَرتُهُ بعيداً عن الانتماء الوطني. يبلغُ عددُ هؤلاء ما يزيد على النصف مليون. يتوزعون على عشرات الفصائل. فبحسب العديد من المصادر يبلغُ تعدادُ الجيش الوطني 110000 مقاتل، ثم تأتي بعده قوات سوريا الديمقراطية البالغ تعدادها 100000 مقاتل، فهيئة تحرير الشام 31000 مقاتل تعود جذورهم إلى 7 فصائل قبل التوحيد. أما قوات نظام الأسد الرسمية فقد انخفض عددها ليبلغ 228000، بالإضافة لما يُسمى القوات الرديفة وعدد مقاتليها 80000 ينتمون إلى 19 فصيلاً سورياً وغير سوري.
كم نحتاج كشعب ومؤسسات من السنوات، كي نتدارك الخطر المحتمل الناجم عن هذه الأرقام. نصف مليون شاب ينتمون لكيانات عسكرية، تشكلت وفق معايير مناطقية ومذهبية وعصبوية وعرقية. حضرت فيها كل الانتماءات وغابت الوطنية السورية. كثير من هؤلاء المنتسبين مستعدون أن يفدوا قائدهم بأرواحهم، وما أكثر قادتهم. فكم يحتاجون من عمل لأجل فطامهم عن السلاح؟
من الواضح أن معالم الاصطفافات الدولية تتغير بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وأن هناك تحوّلات دولية وإقليمية حادّة، قد ترسمُ خطوطاً جديدةً ضمن خارطة التحالفات الحالية. حسبما يرى خبراء ومحللون دوليون، هذا الواقعُ المستجدُّ سيفرزُ محاصصةً جديدةً، بما فيها مصالح الدول الممسكة بالملفّ السوريّ. يطعن محللون بزخم التحولات المحتملة، وأنّ سقفَ المآلاتِ واقعٌ مختلف شكلاً، متطابقٌ مع سابقه مضموناً، تزدادُ فيه حصةُ دولةٍ ما، ربما، على حساب دولة أخرى. هذا التفاوتُ بالرؤى بين وجهتي النظر، سيتقارب عند ذكر الملف السوري، بإجماع كلا الفريقين على أن قضية السوريين، عادت إلى الطاولة، ولو على استحياء، لنسمع بعد غياب، عبارة “الحل السياسي في سوريا”.
بمعزلٍ عن جدّية الأمر وأوان الشروع به، لا بد من طرح الأسئلة الكبرى التي تهمّنا نحن. هل سيكون الحلُّ السياسيُّ، إلّا بما يتوافقُ مع مصالح الدول العظمى، وبما يراعي التنوّع السوري المربك؟ لكن كم بقي من مشتَركاتٍ بيننا كسوريين؟ وما هي مقوماتنا لخوض خيارات بديلة عن الحل السياسي، الذي يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي؟ وأخيراً ما هي كلفة، وتبعات الاستمرارِ بالجمود السوري، من دون وجودِ بدائلَ قابلةٍ للتنفيذ؟ كثرةُ المحاذير في بلادنا، تجعلُ المرء خائفاً من مغبّة تناول هذا الأمر، بل ومرتبكاً بعض الشيء.
لعلَّ مشهداً من الدراما المُتخيلة يسعفني، فأحاول من خلاله، اختصار شروحاتٍ طويلة، وأستعين ببعض الفانتازيا لعبور التابوهات الكثيرة. لنعد إلى تخيل أن المجتمع الدولي عاد إليناً تائباً اليوم، وأراد محاورة السوريين حول مستقبلهم. منتظراً منا الاتفاق على الأمور الأساسية، مثل شكل الحكم وطبيعته، ومصير القوات العسكرية متعددة الانتماء، طبعاً مع مراعاة التنوع السوري عرقياً ودينياً وسياسياً، عند وضْع الملامح الأساسية للدولة المقبلة. بالتأكيد لن يفوت المجتمع الدولي تذكيرنا بالبديهيات، فهم لن يدعموا أي تغيير يمكن أن يؤدي إلى مخاطر على فئات من السوريين أو على المحيط الإقليمي.
تصوروا أن كل هذا سوف يعيدنا إلى الدولة كما كنا نريدها عام 2011، إن كان هناك من ما زال يذكر. هل تستطيعون معي، كوميدياً، هذه المرة، تقدير كم ممثلاً نحتاج عن الشعب السوري لنقدم للمجتمع الدولي تصوراتنا المتباينة والمتناقضة والمتعاكسة. وكم عدد من سيرفضون الطرح من أساسه باعتبارهم ما خرجوا من أجل هذا؟ ليس لدي أي شك بأن السوريين بالعمق ما زالوا يريدون بلداً ديمقراطياً تسوده قيم المواطنة وحقوق الإنسان والقانون. ولكن بالمقابل هناك مئات الآلاف سيصرون على أن الديمقراطية شرك، وهي دين الغرب الكافر، ويريدون حكم الشريعة كمبدأ “فوق تفاوضي”، ولكم أن تتخيلوا الطروحات ما بعد ذلك. هناك من سيطرح الفيدرالية وبمقابله من يريد حكماً مركزياً يجهض تآمر الانفصاليين. هناك من يتحدث أن لا حرية ولا مساواة بلا علمانية الدولة. ومن يعتقد أن الإسلام هو الحل، ولن يفوتنا أن هناك من يريد إبادة طرف آخر أو طائفة أخرى حتى تستقيم أمور البلد. عدا بالتأكيد من لن يحضر، ولم يكن ممثلاً، معتبراً أن كل من حضر ارتكب جريمة خيانة دم الشهداء والحق عموماً.
تصوروا معي أن نكون نحن هذه المرة من خيّب المجتمع الدولي، بعد أن تعودنا تكرار جملة أن المجتمع الدولي هو من خذل السوريين طوال سنوات. هل لهذا السبب مازلنا في مرحلة تجميد الملف، علّ الزمنَ يتكفّلُ بإنضاج الجميع؟ ربما، وحينها قد يتمُّ الأمرُ، خلال بضع سنوات. لنعد للواقع، فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، تقريراً عن المخدرات في سوريا، رصدت من خلاله كثيراً من الأرقام، لتعلنَ في ختام تقريرها: “سوريا بلد مخدرات”.
لا تطعنُ أي من الحقائق المنشورة في أقسام سوريا الأربعة، بصحة نتائج الغارديان، فبحسب تصريح حكومي، لصحيفة الشرق الأوسط، وبناء على معلوماتٍ رسمية، بلغ عدد القضايا المتعلقة بالمخدرات 1700 قضية خلال عام 2021، في محافظة درعا وحدها. أتحتمل المحافظةُ الصغيرةُ هذا الرقم، وكم هو عدد من لم يصلوا للقضاء بعد؟ وجميعنا يعلم أن مافيات فوق القانون، مرتبطة بالنظام تدير هذه التجارة.
بحسب مديرية صحة حكومة الإنقاذ، ففي مدينة إدلب، يقصدُ مركز مكافحة الإدمان من 30 إلى 40 حالة شهرياً، بعد الحملة التي شنتها تحرير الشام منذ شهرين مستعينةً بخطباء المساجد، الذين أكدوا أنّ ظاهرة تعاطي المخدرات بلغت عتباتٍ خطيرة. حالُ اعزاز ليس أفضل من درعا وإدلب، ففي شهر أيار الماضي أعلن المجلس المحلي في اعزاز، أنّ الجرائم المرتكبة بسبب تعاطي المخدرات زادت بنسبٍ كبيرة، وهذه المعلوماتُ مبنيةٌ على بيانات مديرية صحة اعزاز التابعة للحكومة المؤقتة، وبيانات قسم مكافحة المخدرات. شمال شرقي سوريا ليس بحال أفضل، فوحدات حماية الشعب “أسايش” تعلن كل فترة، ضبطها لكميات كبيرة من المخدرات. وهناك من يؤكد وجود معامل للكبتاغون في منبج والحسكة.
ألا يجدر بهذا الجيش من المدمنين أن يتعافى؟ وكم هو غير أخلاقيّ إطلاق مصطلح “تجميد الملف” السوري، حين نرصدُ كل هذه الحرائق، التي تنال من ملايين السوريين، جهلاً وإدماناً وتطرفاً. والأهم، أنه بات معلوماً وبديهياً، أن النظام الدولي لن يتخلى عن بشار الأسد لصالح مشاريع قروسطية، ولن يترك سوريا إلى أي حالة فوضى غير مضبوطة. فهل نحن نساهم، وحالنا هذا الحال، في دعم استمرارية بقاء الأسد، بحكم المعايير الدولية المطلوبة للتغيير؟ دون محاولة الخوض في الجواب، لكن اللافت هنا، من خلال التجربة أن الصوت العدميّ للتطرف هو الأعلى في حال الاجتماع السوري، بينما يكاد يبهت أو يختفي خلال نقاشات عقلانية نخوضها كأفراد، وهذه ظاهرة تستحق الدرس وحدها.
هل أوكرانيا فرصة للسوريين؟ وإن كانت كذلك فهل ستستمر إلى الأبد؟ هل ستنتهي بتسوية توافقية بين الخصمين، أم أنّ الأوضاع مرشحةٌ لصدام يخلطُ الأوراق بما يتيح مداولة ملفنا؟ إذا أخذنا بالاحتمال الأكثر تشويقاً وهو استمراها، وتساءلنا كسوريين، عن حجمنا الفعلي، ضمن أية صفقات جديدة محتملة. سنجد، فيما لو تحلّينا بقليل من فضيلة الاعتدال، أنّ ملفّات دولية كثيرة، تعلو ملفنا في سعر صرف الصفقات الدولية، فسوريا لا تبلغُ عتبة ملفّ “خطوط نقل الطاقة”، ولا ملف إعادة مد طرق الحرير الصينية، بل إنّ مخاوف الغرب من جرأة الطموح التركي تعلو مقدماً، كل ما تحويه إضبارتنا من انتهاكات وإبادة جماعية. مع ذلك، وكي لا نطيح بأي أمل، يعرف جميع الفاعلين أن سوريا أكبرُ من أن تصبح، خارج الحسابات الاستراتيجية، تبعاً لما يتموضعُ قبلها وبعدها، جغرافياً واقتصادياً وديموغرافياً.
لعبة المصالح قد تعيدُ الملف السوري إلى الطاولة الدولية، لكنّ اختلاطات المبادئ والانقسامات الحادة لدينا، قد تغلق كل الأبواب، بل وكل أمل، فخياراتنا ليست بين خير محض وشر مطلق، وغيرُ المتاح ليس خياراً، بل إنّ إصرار البعض على المستحيل، يُدخلهم خانة المساهمين باستمرار عذابات السوريين، خصوصاً بعد تأمل الإحصائيات الكارثية الواردة أعلاه، وهي بالمناسبة أرقامٌ قابلةٌ للتفاقم كل يوم. فمن الذي سيملكُ الجرأة متنازلاً عن مثالية سلبية عدمية، ويعلن وجوب مراجعة سلّم الأولويات، لجعل كل ما هو دون تفكيك وإزاحة النظام إضافة لمسك السلم الأهلي لحظة التحولات، مؤجلاً لتنتجه إرادة السوريين الحرّة من دون وصاية.
ربما نجدُ من يتبنى هذه الصفقة، حين نتواضع قليلاً، ونؤكدُ اقتناعنا بأن في العالم سكاناً آخرين، وفي البلاد مواطنين يلبسون ويغنون ويتعبدون ويأكلون بطرق تختلف عن طرقنا، لكنهم مثلنا يريدون وقف المجزرة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا