د- محمد مروان الخطيب
حلت خلال الأيام الماضية الذكرى الثانية والعشرين لوفاة حافظ الأسد – الذي استولى على السلطة طوال ثلاثين عاماً، منذ عام 1970، عندما كان وقتها رئيسا للوزراء، بالرغم من كونه قد تسلم منصب الرئاسة بشكل رسمي عام 1971، إلى 10 حزيران/يونيو عام 2000 تاريخ وفاته. وإن كان قد كتب الكثير عن حافظ الأسد، فبالإضافة إلى شخصيته الإشكالية، هنالك السياق التاريخي الذي مهّد لهذا النوع من الديكتاتور والدموي الذي أنتج استقرارًا على حساب بقية القيم الإنسانية والسياسية والأخلاقية الأخرى. ولهذا عندما مات، كان بعض السوريين غير مصدّق بأن مثل هذا الرعب يمكن له أن يموت، كما يموت الأبناء في سجونه أو تحت التعذيب في أقبيته.
ولِفهم لماذا صدحت حناجر وقلوب السوريين الثائرين في ساحات الحرية في المظاهرات التي بدأت في ربيع عام 2011 “يلعن روحك يا حافظ”، يتوجب العودة إلى تاريخ هذا الطاغية الدموي والتذكير بما أحال إليه سورية التي حكمها بعد موجة انقلابات شارك بالتآمر ببعضها، قبل أن ينقلب انقلابه الأخيرة الحاسم على رفاقه الذين اختارهم من بني طائفته، وكان آخرهم صلاح جديد، الذي زج به في السجن هو ومن معه، وقاد البلاد وألحقها باسمه فباتت “سورية الأسد”، لينفرد بسدة الحكم ويشكل بوصوله للسلطة بداية عهد فاشي قل نظيره في الإجرام والإرهاب بحق الشعب الذي يحكمه، بل وبحق الشعوب المجاورة.
ففي بداية استيلائه على السلطة كان تركيزه على الجيش ليُحكمَ سيطرة الأقلية العلوية التي ينتمي إليها عليه، وبعد أن استكمل بسط نفوذهم سار بذات النهج للأجهزة المخابراتية، ومما يعرف أنه كانت توجد قبل وصول الأسد للسلطة ثلاثة أجهزة للمخابرات (عامة – عسكرية – الشعبة السياسية)، لتكون في زمنه أكثر من 16 جهازاً يعملون بشكل تنافسي عدائي مع بعضهم، خشية من تآمرهم معاً، وكانت تلك من سياساته لانفراده بالحكم.
وإن كانت بداية حكمه مشوبة ببعض الميل إلى توازنٍ في العلاقات ضمن قوى المجتمع، إلا أنه كشر عن وجهه الحقيقي بعد دخوله لبنان بموافقة إسرائيلية، بهدف ضرب القوات الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية المتحالفة معها، تحت غطاء الجامعة العربية، ليضع حداً للحرب الأهلية والنزاع العسكري القائم، وكانت خلالها عدة مجاز بحق اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة مجزرة تل الزعتر حيث قصفت قوات الجيش السوري المخيم ومن فيه، وحدثت في يوم واحد مجزرتين راح ضحيتهما 3500 إنسان.
وإن كان قد تبع ذلك قمع الحركة الوطنية في سورية، تحت غطاء التصدي لما عرف في حينه بالطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين التي حاولت التصدي للمشروع الطائفي للسلطة في سورية بمشروع طائفي سني، ليتوج ذلك في عام 1980 بالقضاء على النقابات المهنية التي قادت إضراباً عاماً بصفتها المنظمات الوحيدة للمجتمع المدني التي نجت من سياسات الاستبداد للسلطة الحاكمة، بعدما اتضح لها أن الوعود والكلام الذي يأتي من النظام لها، ما هو إلا سياسة استيعاب ينتهجها النظام فقط، لتقوم على أثره الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات واسعة شملت أبرز قيادات النقابات في دمشق وحلب، وتحل السلطة بعدها جميع النقابات المهنية المنتخبة وتعيين بديلاً عنها شخصيات مسيطر عليها من قبل الأجهزة المخابراتية.
وإن كانت مجزرة حماة من أفظع جرائم الأسد الأب والتي توج فيها قمعه للانتفاضة الشعبية في حينه، والتي اتسمت بقساوة نادرة في التاريخ الحديث، وتشبه إلى حد بعيد ما فعله السوفيات والأميركان في برلين، فإن سجله الإجرامي يشير إلى 18 مجزرة، غير مجزرة حماة الكبرى، لم يندم على أي منها، وراح ضحية هذه المجازر أكثر من 35 ألف شهيد.
لم تكن الأنظمة الجمهورية في نهاية القرن العشرين تطرح قضية التوريث، إلا أن الخشية من فتح ملفات الأسد الأب فرضت عليه تهيئة أحد أبنائه من أجل أن يورِثُه سلطة الحكم، وإن كان جميع أبناء سورية في مطلع التسعينات من القرن الماضي لاحظوا التلميع الظاهر لابنه الأكبر باسل لخلافته، إلا أن القدر كان أقوى منه، فقُتل في حادث سير عام 1994، حسب الرواية الرسمية، وعندها تم التوجه نحو ابنه الثاني الذي كان يدرس الطب في بريطانيا، وبدأت عمليات تلميعه وإعداده لوراثة السلطة، الأمر الذي حدث بالفعل حين مات حافظ الأسد، فقد جرت عملية توريثه بتغيير الدستور السوري في خمس دقائق، كي ينطبق على مقاس عمره في ذلك الوقت، وهو 34 سنة.
ولا يمكن تلمس الفرق الجوهري بين تعامل الأسد الأب مع أزمة الثمانينيات من القرن المنصرم، وتعامل الأسد الابن مع الثورة السورية، حيث قام كل منهما بإعطاء الأوامر للجيش بحصار بعض المدن والبلدات والقرى وتدميرها بالكامل، باستخدام مختلف أصناف القصف المدفعي والطيران الحربي والصواريخ. إلا أن الأسد الابن تفوق في الإجرام باستخدام الأسلحة الكيميائية في ضرب غوطتي دمشق ومناطق أخرى في سورية.
وبالرغم من كل ذلك كان للسوريين دوراً بارزاً في الربيع العربي فخرجوا عراة الصدور إلى الساحات والشوارع، رافعين العلم السوري، والورود ومرددين شعارات تناهض الحكم الدكتاتوري من الأب حتى الابن، وإن كانت أجهزة القمع المخابراتية قد سعت لتصفية القادة والرواد الأوائل للثورة السورية، مثل محمد عرب وغياث مطر ويحيى الشربجي، واعتقالهم وتعذيبهم حتى الموت، أو تهجيرهم وملاحقتهم، في محاولة لتحويل الثورة إلى حركة عصيان مسلحة ذات طابع إسلامي، بمساعدة من دربهم وأطلقهم في بداية الحراك الثوري السلمي، ليقوموا بتشكيل خلايا مسلحة سهل لها تأمين جميع مستلزمات العمل المسلح، في الوقت الذي كان يقوم بتصفية الحراك السلمي بكل ما عرف عنه من بطش وقمع دموي.
ومهما كانت التضحيات التي قدمتها الثورة السورية على مذبح الحرية، فإن إنجازاتها التي يجب أن نقرها بكل تواضع، بأن هذه الثورة قد استطاعت أن تخرج من تحت الركام الذي سمي (سورية الأسد)، جيلاً تصدى بكل بسالة رافضاً تحويل سورية الوطن إلى مزرعة لآل الأسد، ولينسج من خلال إمكاناته المتواضعة تجربة ثورية بالرغم من كل التصحر والتجريف الذي عمل عليه الدكتاتور طوال ثلاثين عاماً، وينقلب على تحويل سورية إلى مزرعة وراثية لآل الأسد ومن تحالف معهم من مشاريع إقليمية ومنتفعين ومتسلقين من أبناء الوطن، ويبقى أنه، إن لم يسعفنا العمر في أن نقطف ثمار هذه الجهود، فإن الأمل في الأجيال القادمة لتتابع بناء سورية دولة للحرية والكرامة لجميع أبنائها.
المصدر: اشراق