معن البياري
للكلام المسترسل، بسمْتٍ تعبوي، عن القدس، بعض النفع في بعض الوقت. وللغنائيات والإنشائيات، عن القدس وأهلها، وعن الأقصى والمرابطين في أكنافه، بعض الضرورة في غير وقتٍ وحين. وأن تبقى القدس، بمكانتها وبما تمثله فضاءً روحياً ورمزيةً عالية، ثيمة وموضوعاً في منتوجاتٍ فنيةٍ وأدبية، وفي التعبيرات الفولكلورية، هذا ثمين القيمة. ولكن عندما نقعد عن العلم، عن البحث، عن الدرس، في القدس وراهنها، وما صارت عليه سكانيا وديمغرافيا، وما تدبّر له قوى يهوديةٌ متطرّفة، وما عليه ناسُ القدس، وما يُغالبونه، في غالبيّتهم، من صعوباتٍ معيشيةٍ واجتماعيةٍ، معسرةٍ على ما يلزم أن نعرف، عندما نقعدُ عن معرفةٍ متبصّرةٍ في هذا كله وغيره، ونكتفي بأن نقيم في تلك الاستعارات والمجازات والبلاغيات، نتوسّل منها غبطةً مريحةً لنفوسنا، فنظنّنا، بها، نؤدّي واجباً عظيماً تجاه المدينة الصامدة وأهلها الأبطال، عندما نفعل هذا، نرتكب إساءةً للقدس وقضيتها. ببساطةٍ، لأنّ معرفة حال المدينة الراهن، بتفاصيل مجتمعيةٍ واقتصاديةٍ ومعيشيةٍ فيها، بتحدّياتٍ ضاغطةٍ ومقاوَمةٍ باقيةٍ، شرطٌ واجبٌ يقوم عليه، بداهةً، ما يوضح استحقاقاتٍ شديدة الإلحاح لإنقاذ القدس وحمايتها مدينةً فلسطينيةً عربية.
لعلّ هذا هو المرسلة، الخافية الظاهرة معاً، في حاشية المحاضرة شديدة الأهمية، للمؤرّخ الفلسطيني، نظمي الجعبة، أول من أمس السبت، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، بعنوان “القدس ومعركة البقاء”، والتي، وإن عدّها المركز المحاضرة السنوية لمناسبة ذكرى النكبة (متأخّرة)، وتنعقد بالتعاون مع مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، فإنّها أيضاً موصولةٌ بما يخصّصه المركز من جهد بحثي ونقاشي واسع في الموضوعة الفلسطينية، وبما يتعلق بالقدس التي تناول شأنَها مؤتمرٌ علميٌّ عقده المركز في عمّان في يونيو/ حزيران 2019، بالتعاون مع مؤسّسة الدراسات الفلسطينية والجامعة الأردنية، وأحاط عنوانه، “القدس .. تحدّيات الواقع وإمكانات المواجهة”، بالمرتكزيْن اللذيْن يحسُن أن يقوم عليهما كل درسٍ للقدس، راهنها خصوصاً، على غير صعيد، سكّاني وسياسي واقتصادي، بتفاصيل وافية، ومنها ما هو مؤسفٌ وباعثٌ على الشعور بالقنوط وبعض الإحباط، وما هي الممكنات التي في الوسع توسّلها في مجابهة مختلف التحدّيات الكثيرة الصعبة.
ولا تبتعد محاضرة الأستاذ في جامعة بيرزيت، نظمي الجعبة، كثيراً عن هذيْن المرتكزين، فقد بسَطت ما تعمل السياسات الإسرائيلية عليه في القدس، في الديموغرافيا، وابتداع قوانين للتضييق على السكان والأهالي العرب، تتوخّى منها سرقة عقاراتهم وتهجيرهم وإخلاء المدينة منهم، وكذلك في ما يخصّ حرب الإفقار التي تشنّها سلطة الاحتلال ضدهم، ما يضطرّ الطبقة الوسطى إلى الخروج من المدينة، غير أن المحاضر أفاد، استناداً إلى إحصائياتٍ وخرائط وشواهد وبيانات، أن عدد السكان الفلسطينيين في القدس زاد 50% من عدد السكان في فلسطين التاريخية، ما يجعل العامل الديمغرافي مقلقا للاحتلال. وبالتوازي، نجَحت كثيراً سياسات السيطرة على الأرض، بانتهاج الاستيطان النشط والمتزايد، ليس فقط بغرض الاستيلاء على الأرض، وإنما أيضا لتفتيت النسيج الوطني الاجتماعي الفلسطيني. وإذ تنوّعت التفاصيل السكّانية والجغرافية التي أضاء عليها الجعبة، بكفاءةٍ في التواصل والتباسًط مع مستمعيه، فإنها أوضحت وطأة الظروف العامة وحدّتها على المقدسيين، غير أنه أوضح أنهم، سيّما جيل الشباب منهم، يُبدعون طرائق في الصمود، وفي “المقاومة الشعبية غير المسيّسة”، بأداء جماهيري مؤثر وفاعل، من دون قيادةٍ، فضلا عن الثبات في المدينة القديمة التي أخفق الاحتلال، منذ 1967، في تهويدها، على الرغم من وسائله العديدة في هذا.
وإذا أمكن إيجاز ما سرده المحاضر الأريب، وقد أجاد في تقديم أفكاره (الوفيرة)، فانجذب المستمعون إليه بانشداد ظاهر، ومع أن كلُّ إيجازٍ مخلّ، غالبا، فمؤدّى القول، أو قصاراه، أن معركة أهل القدس الفلسطينيين في البقاء فيها صعبة، ولا تنفكّ التحدّيات فيها تتراكم، غير أنها، في الأول والمنتهى، معركة رابحة. وليس لمن أراد أن يتسلّح بشواهد تؤكّد هذه الخلاصة إلّا أنّ يستغني عن قراءة السطور أعلاه، ويمضي إلى سماع المحاضرة الشائقة، غزيرة الفائدة، فهناك الأنفع. والمهم، من قبل ومن بعد، أن نعرف أنّ لمعركة القدس عتادَها، وأوله العلم والمعرفة، وليس المكوثُ المغتبط في الشعريات والإنشائيات والغنائيات والتعبويات.
المصدر: العربي الجديد