راغدة درغام
الاصطفافات الجغرافية – السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لها نكهة أوكرانية نتيجة إفرازات الحرب الروسية ذات العلاقة بالنفط والغاز والصناعة العسكرية، وبالذات الصواريخ والمسيّرات، لكنها في صلبها محليّة المخاوف والتطلعات الأمنية. إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قلقة من تداعيات احتمال انهيار المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأنها تعرف تماماً أن طهران تستعدّ للانتقام، ولأن فشل مفاوضات فيينا التي انتقلت إلى الدوحة، سيبدو فشلاً لها، لأنها استثمرت كثيراً في إحياء الصفقة النووية JCPOA التي سبق ومزّقها الرئيس الأسبق دونالد ترامب باعتبارها غير صالحة.
الأسوأ، أن عدم التوصل إلى اتفاق مع إيران سيكون، في رأي إدارة بايدن، ذخيرة في أيادي ترامب الذي يتربّص لها بكراهية متبادلة. لذلك تبذل واشنطن جهداً في إطار خطة لمنظومة متكاملة لدفاعات جوية في الشرق الأوسط تتزامن مع زيارة الرئيس بايدن للشرق الأوسط، وتحديداً في محطة الرياض، حيث من المفترض أن يجتمع بالعاهل السعودي وولي العهد، كما يشارك في قمّة تضم دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن والعراق تكون فيها إسرائيل وإيران غائباً – حاضراً.
صفحة جديدة في العلاقات مع دول الشرق الأوسط والخليج يفتحها الرئيس بايدن، فرضتها التطورات بأبعادها الأوكرانية والإيرانية وليس بمبادرة وديّة منه نحو الدول الخليجية العربية استفاق عليها، ولذلك ستتميّز زيارته بالإرباك الاستراتيجي. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه واثق جداً من نفسه، أو هكذا يريد للعالم أن يراه، يخطط لاصطفافٍ في الشرق الأوسط ضمن الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية، ويلعب الورقة الإسرائيلية بمغامرة وبحسابات.
البداية مع فلاديمير بوتين الذي ظهر هذا الأسبوع متحدّياً “الناتو”، وبالذات الولايات المتحدة، من منطلق العزم على إثبات فشل رهان الفشل الاستراتيجي لروسيا. بوتين، بعكس العالم، لا ينظر إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على أنه ينصر أوكرانيا وينتصر شخصياً بدعمٍ غربي خارق وقد أصبح في نظر الكثيرين أيقونة العزم والقيادة والصمود في وجه خطة روسيا لإطاحته. زيلينسكي، في رأي بوتين، خاسر حرب وإن ربح معارك، ساهم في تدمير بلاده بإيحاء من الغرب، والتاريخ سيسجّل له، ليس إنقاذ أوكرانيا من روسيا بل تقديم أوكرانيا فدية لحرب الناتو على روسيا. حرب روسيا في أوكرانيا، في نظر بوتين، ستؤدّي إلى انتصار روسيا مهما كانت الكلفة ضخمة بكل المقاييس، وضمنها العزلة الدولية.
من بين أدوات إبراز استعادة روسيا حيويتها، الوضع في سوريا، حيث قرّر الرئيس الروسي إبلاغ الحكومة الإسرائيلية جدّية الإنذارات الروسية وإبراز عواقبها، وقد فعل ذلك تكراراً في الآونة الأخيرة. إصدار موسكو أمر التوقف عن كامل نشاطات “الوكالة اليهودية” لتأهيل اليهود في إسرائيل إجراء له دلالات سياسية مهمّة، وقد تقوم موسكو بإغلاق الوكالة بأكملها لأول مرة منذ إنشائها قبل حوالي 30 سنة.
الرسالة الروسية إلى الحكومة الإسرائيلية هي أن على إسرائيل التوقف عن عملياتها العسكرية في سوريا ضد إيران و”حزب الله” وليس فقط ضد سوريا. الإنذارات، إذا تجاهلتها إسرائيل، قد تكون “بداية لقصة سيئة”، حسب تعبير روسي مخضرم، ذلك أن موسكو قد تلجأ إلى استخدام قدراتها العسكرية كتلك المضادة للصواريخ الإسرائيلية المتوجِّهة نحو سوريا.
ترى موسكو أن حكومات إسرائيل التي توالت منذ انتهاء ولاية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم تفِ بالوعود والتفاهمات.
رأي موسكو أن في وسع روسيا أن تسبّب الضرر الجدّي لإسرائيل إذا تصرّفت عسكرياً نحوها لإيقافها، إذا لم تتوقف بنفسها عن عملياتها العسكرية في سوريا، والتي باتت تعتبرها موسكو خطاً أحمرَ. فالكرملين يريد إبراز عضلاته في سوريا وهو لا يمانع أبداً أن يساهم في عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم، علماً أن علاقة شخصية متينة دامت لسنوات بين بوتين ونتنياهو.
“الحرس الثوري” الإيراني يستعد بدوره للقيام بعمل ما ضد إسرائيل من الجبهة السورية، باعتبارها الأكثر “شرعية” لضربات انتقامية من الهجمات الإسرائيلية. فإذا انخرطت روسيا وإيران و”حزب الله” معاً في التصدّي لإسرائيل في سوريا، فليس واضحاً ما ستكون عليه آفاق هذا التطور داخل سوريا وخارجها، وتحديداً في لبنان. فليس أمراً بسيطاً أن تنخرط روسيا في عمليات عسكرية مباشرة ضد إسرائيل حتى ولو بصورة محدودة لإبراز هيبتها وجدّية إنذاراتها. ثم إن لجم تطوّر المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل ليس أمراً يستهان به حتى ولو كانت المعادلة التاريخية الثنائية بينهما تهادنية على مر العصور، وبالتالي يُستبعد وقوع مواجهة إيرانية – إسرائيلية مباشرة.
الخط العريض لسياسات روسيا في الشرق الأوسط هو الاعتماد على الشراكة الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتنمية القدرات الإيرانية في الشرق الأوسط كي تكون طهران ركناً ثابتاً في الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية. عدا ذلك، يعتبر الكرملين علاقات روسيا الجيدة بالدول الخليجية العربية ضرورية، لكنه يدرك أن العلاقة الاستراتيجية الأساسية هي بين هذه الدول والولايات المتحدة مهما شابها من نكسات، بغضّ النظر إن كان جو بايدن أو دونالد ترامب في البيت الأبيض.
وللتأكيد، إن الكرملين يتوقع أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى إخراج الحزب الديموقراطي الأميركي من السلطة، وانتهاء ولاية بايدن عبر الانتخابات وعبر غضب الأميركيين من سياساته الاقتصادية، غير آبهين إن كان قد حقّق لحلف الناتو انتصار توسيع عضويته أو التصدّي لفلاديمير بوتين. وبحسب القراءة الروسية للمشهد الانتخابي الأميركي، إن دونالد ترامب عائد إلى البيت الأبيض، وهذا موسيقى جميلة في الآذان الروسية.
إدارة بايدن لا تستهتر بالحسابات الروسية، لكنها لن تدعها تحوّل مسيرتها أو مسارها. في أوكرانيا، لن تتمكن إدارة بايدن أو حكومات دول الناتو من التلكّؤ في دعم أوكرانيا، لكنها تعي خطورة الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا. لن تتمكن من التملّص من وعود تحقيق الفشل الاستراتيجي لروسيا، لكن المشاهد الميدانية تجعلها تفكّر ملياً، وتتردد قليلاً. تدرك أن فلاديمير بوتين لن يقع في حفرة على نسق تلك التي وقع فيها الرئيس العراقي صدام حسين، بل إنه ينصب المصيدة لأكثر من عدو له، رافضاً أن يكون وحده من وقع في الفخ.
لعلّه لم يكن في بال إدارة بايدن الانقلاب على نفسها وعلى ما فعلته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما للعلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية، وبالذات السعودية. حرب بوتين على أوكرانيا دفعت بأقطاب إدارة بايدن – وكثير منهم هم أقطاب إدارة أوباما – إلى إعادة العقارب إلى الوراء والتفكير الجدّي بأهمية العلاقات الأميركية الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، الأمنية منها والاقتصادية والنفطية والسياسية وتلك التي تدخل في خانة بيع السلاح. والمؤسسة الفائقة النفوذ المعنية بصناعة الأسلحة وتصديرها واختبارها في الحروب، أي “المجمع الصناعي العسكري”، تسير بخطى تكاملية أو تنافسية مع شركات أخرى ذات نفوذ قاطع داخل الولايات المتحدة وخارجها، أي الشركات النفطية. وفي هذا المنعطف، تتلاقى مصالح الصناعتين في الحرب الأوكرانية كما في منطقة الشرق الأوسط.
سيرتبك الرئيس بايدن عند اجتماعه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقد يرتكب خطأً أو يقع في زلّة لسان بسبب كراهية غريزية نحو السعودية عامة ونحو محمد بن سلمان خاصة، بسبب الجريمة المروّعة ضد الصحافي جمال خاشقجي. سيتنبّه إلى الحملة الإعلامية ضد مثل هذا اللقاء بالذات من الإعلام اليساري الأميركي الذي سيراقب كل خطوة من خطواته في السعودية، والذي بدأ يطالب الرئيس بايدن بعدم تغيير سياساته الباردة نحو السعودية وتلك الجافة نحو ولي العهد.
حلف الناتو الذي يضم تركيا له مصلحة الآن في إصلاح العلاقات مع الدول الخليجية العربية، ليس فقط بسبب احتياج أوروبا للنفط تعويضاً عن النفط الروسي، بل أيضاً بسبب إمكان انتهاء المفاوضات النووية مع إيران بفشل يحول دون تمكّن أوروبا من استيراد النفط الإيراني. تركيا مهّدت لعلاقات جيدة مع الدول التي كان لها علاقات معقدة وصعبة معها، ففتحت صفحة جديدة مع مصر والإمارات ومع السعودية وإسرائيل، وكان ذلك بمثابة نقلة نوعية في إطار التموضع والاصطفافات الشرق أوسطية. ثم إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حرص كثيراً على الاستفادة من حاجة دول الناتو إليه في زمن الحرب الأوكرانية. فهو ضَمنَ إعادة تأهيل تركيا في الناتو في أعقاب معاقبتها بسبب إقبالها على شراء شبكة S-400 الروسية المضادة للصواريخ. وهو وجد في الحرب الأوكرانية فرصة لمبيعات “الدرونز” أي المسيّرات التركية المتفوقة إلى أوكرانيا، بالرغم من حرصه على الظهور بمظهر الوسيط بين روسيا وأوكرانيا.
ملامح الشبكة الشرق أوسطية لما يُطلق عليه لقب الناتو العربي ما زالت غير واضحة تماماً، لكن القمة التي سيشارك فيها الرئيس بايدن في الرياض تشكّل دعامة أساسية ذات دلالات أمنية واقتصادية. القمة ستضم دول مجلس التعاون الخليجي، وهي السعودية والإمارات وقطر وعُمان والكويت والبحرين، والأمين العام لمجلس التعاون نايف الحجرف، وستشمل كلاً من مصر والعراق والأردن. وستكون إيران وإسرائيل حاضرتين غيابياً.
إسرائيل لها علاقات رسمية مع كل من مصر والأردن بموجب اتفاقات سلام ثنائية، وهي بدأت بالتطبيع مع دول خليجية، في طليعتها الإمارات وعُمان والبحرين، وهي تأمل أن تستمر إدارة بايدن بما بدأته إدارة ترامب في إطار اتفاقات أبراهامز، وفي ذهنها الجائزة الكبرى، أي السعودية.
إيران قلقة من زيارة بايدن واجتماعاته، لأنها ستكون خارج النظام الأمني الإقليمي، وستنقلب كل حساباتها رأساً على عقب إذا توطّد التوافق الأميركي – العربي والشراكات الاستراتيجية. طهران سعت تكراراً لأن تكون في مقعد القيادة لنظام أمني جديد مع دول مجلس التعاون واليمن والعراق. اليوم، إن العراق يحاول الاستقلال بقدر الإمكان عن الإملاءات الإيرانية، ومشاركته في القمة فائقة الأهمية.
لكن إيران تعرف أيضاً أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تريد العداء معها، بل تودّ تطبيع العلاقات شرط ألا تتدخّل في شؤونها. الحوار السعودي – الإيراني مثال على هذه الرغبة، وما تتمناه الدول الخليجية العربية هو أن يحدث تغيير في العقيدة الإيرانية، وهذا يبدو اليوم مستبعداً تماماً، لأن “الحرس الثوري” الإيراني لن يتخلى عن شركائه وأدواته ومشروعه في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
الفرز الإستراتيجي بدأ في الشرق الأوسط، ونتائجه تعتمد إلى حد كبير على البوصلة الاستراتيجية لإدارة بايدن وللولايات المتحدة الأميركية.
المصدر: النهار العربي