مصطفى البرغوثي
يتساءل كثيرون عمّا سيقوم به الرئيس الأميركي، جو بايدن، تجاه الموضوع الفلسطيني، في أثناء زيارته المرتقبة للمنطقة خلال أقل من أسبوع. وما زال مسؤولون يراهنون على إمكانية أن يدفع بايدن بعملية سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وكما يُقرأ الكتاب من عنوانه، فإن نتائج التحقيق الأميركي في اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة، والتي أعلنتها الخارجية الأميركية، قطعت الشك باليقين بأن انحياز الإدارة الأميركية لإسرائيل مطلق، فالتقرير جزم، على عكس رأي الخبراء الفلسطينيين، بأن الرصاصة القاتلة مشوّهة إلى درجة تمنع مطابقتها بالسلاح المستخدم، وكان هذا رأياً إسرائيلياً قبل أن يكون أميركياً. وعلى الرغم من إقراره بأن مصدر الرصاصة كان على الأغلب (ولم يقل بالقطع) من الجانب الإسرائيلي، فإن التقرير الأميركي ادّعى القدرة على الجزم بأن قتل شيرين لم يكن مقصوداً. وبذلك خالف التقرير الرسمي الأميركي سبعة تقارير، معظمها محايد بالكامل وبعضُها أميركي، بما في ذلك تقارير سي أن أن (CNN) وأسوشييتد برس، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والتقرير الفلسطيني، وكذلك تقرير قناة الجزيرة.
وفي النهاية، اتضح أن الضغط الأميركي على السلطة الفلسطينية لتسليم رصاصة الاغتيال كان غرضه أولاً تبرئة إسرائيل وجيشها من جريمة القتل والاغتيال العمد لصحافية تحمل الجنسيتين، الفلسطينية والأميركية، وثانياً إزالة موضوع شيرين أبو عاقلة المُحرج من المؤتمرات الصحافية واللقاءات التي ينوي بايدن عقدها أو المشاركة فيها. وأملي كبير ألا يسمح الصحافيون المهنيون لبايدن ومرافقيه بالتهرّب من هذا الموضوع الخطير، كما تهرّبت إدارات أميركية سابقة من محاسبة قتلة الأميركية راشيل كوري.
ادّعاء التحقيق الأميركي أن القتل، إن حدث من الجانب الإسرائيلي، يناقض كل الوقائع المادية والتحقيقات الميدانية. إذ كيف يمكن الادعاء بأن القنّاص، أو القنّاصة، الإسرائيلي، الذي قتل شيرين أبو عاقلة، فعل ذلك خطأ، مع العلم أن القاتل أطلق عشر رصاصات على الأقل على النقطة نفسها والمكان الذي تجمع فيه صحافيون، بمن فيهم شيرين، وهم يرتدون زي الصحافة الواضح كالشمس، وأولى الرصاصات أصابت الصحافي علي السمودي الذي كان يقف أمام شيرين، والثانية اخترقت جمجمة شيرين بعد أن دخلت من أسفل الخوذة التي ترتديها، وهذه إصابة دقيقة لا يمكن أن تتم إلا على يد قنّاص محترف، يعرف ماذا يفعل، وأي هدفٍ يوجّه رصاصاته إليه. بل إن باقي الرصاصات من المصدر نفسه أطلقت على المكان نفسه بدقّة في محاولة لإصابة صحافيين حاولوا إسعاف شيرين أبو عاقلة، وأصابت هذه الرصاصات الشجرة المجاورة لرأس شيرين عدة مرات.
والشاهد أن كل عملية التحقيق الأميركية أرادت إعفاء الإدارة الأميركية من مطالبات ربع أعضاء مجلس الشيوخ و54 عضواً من الكونغرس الأميركي بالتحقيق الجدّي في عملية الاغتيال، وتبرئة الجانب الإسرائيلي من جريمة القتل، والاكتفاء بنصف أسفٍ من رئيس الوزراء الإسرائيلي. ويمثل ذلك كله مؤشّراً إلى ما هو متوقع من زيارة الرئيس بايدن تجاه القضية الفلسطينية، فاستراتيجية إدارته المعلنة تقول صراحة إن موضوع تحريك العملية السياسية الإسرائيلية الفلسطينية ليس على جدول أعمالها. وهذه الإدارة، مثل إدارة ترامب وقبله أوباما، ترفض ممارسة أي ضغطٍ على إسرائيل لوقف التوسع الاستيطاني الجنوني، الذي يدمّر حرفياً، وفي كل يوم، أي فرصةٍ لما سمّي “حل الدولتين”. وإذا كانت هذه الإدارة عاجزة عن إجبار إسرائيل على الاعتراف بجريمة قتل واحدة، فهل تُجبرها على وقف اعتداءات جيشها ومستوطنيها اليومية على الفلسطينيين، والتي أودت بحياة 70 شهيداً وشهيدة منذ بداية هذا العام؟!
ولا يحتاج الأمر لإثبات، فبايدن نفسُه صرح، وبلسانه، أن هدف زيارته الرئيس دعم إسرائيل، والدفع بعملية التطبيع التي بدأها ترامب، في إطار تطبيق “صفقة القرن” بين الدول العربية وإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية، وضمن محاولات إنشاء تحالف استخباراتي عسكري بين إسرائيل ودول عربية، وجرّ هذه البلدان إلى صدامٍ مباشرٍ وخطير مع إيران، بالإضافة إلى نقل جزء من الدور الأميركي الأمني في المنطقة إلى إسرائيل، ومحاولة إقناع دول الخليج بزيادة إنتاجها النفطي لتخفيف أثر الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد الأميركي. وحتى المطالب الفرعية، بالمقارنة مع مطلب إنهاء الاحتلال والاستيطان، مثل فتح القنصلية الأميركية في القدس، أو فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، أو إزالة المنظمة من قائمة الإرهاب الأميركية، لن تحدث.
وخلاصة ما سيجري حذف حقوق الشعب الفلسطيني، ومظالمه، من جدول الزيارة، وتسكين الموضوع الفلسطيني بمجرّد لقاء بين الرئيسين الأميركي والفلسطيني، كي يتفرّغ بايدن لمهمته الرئيسية في دعم إسرائيل، والتطبيع معها، والدفع بتكوين حلف عسكري جديد في المنطقة بينها وبين أنظمةٍ عربيةٍ لم تعد ترى في الموضوع الفلسطيني سوى مصدر إزعاج تسعى إلى تجنّبه.
ارتكبت السلطة الفلسطينية خطأً فادحاً بتسليم رصاصة اغتيال شيرين أبو عاقلة لثلاثة أسباب: الانحياز الأميركي الذي ثبت باعتراف السلطة نفسها، وإجراء الفحوصات في السفارة الأميركية التي يرفض كل الفلسطينيين وجودها في القدس، والسماح للإسرائيليين بأن يكونوا طرفاً في التحقيق، وكأن من الجائز السماح للمجرم بالتحقيق مع نفسه، وذلك مقابل أملٍ، لن يتحقّق، بتدخل سياسي أميركي لإنقاذ عملية أوسلو الغارقة في مستنقع الاستيطان والتطرّف العنصري الإسرائيلي.
وبإمكان السلطة الفلسطينية لو أرادت، بدل التعلق بالأوهام، أن تُباشر خطوات ملموسة تصوّب الخلل القائم في ميزان القوى لمصلحة إسرائيل. وأول هذه الخطوات التوجّه نحو مصالحة فلسطينية داخلية حقيقية، مع كل القوى الفلسطينية، لإنهاء الانقسام وتوحيد الجميع في قيادة وطنية موحّدة. وبإمكانها ثانياً أن تنفذ تهديداتها المتكرّرة، والتي لم يعد أعداء الشعب الفلسطيني يأخذونها على محمل الجدّ، بتنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني المتخذة منذ عام 2015، بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، والتراجع عن الاعتراف الذي قدّم لها، والتحلّل من التزامات اتفاقيات أوسلو التي تعفنت في الأدراج الإسرائيلية، ومزّقتها إسرائيل مراراً وتكراراً.
وفي الخلاصة، تبنّي استراتيجية مقاومة وطنية كفاحية موحّدة، بدل مواصلة التعلق بأوهام مفاوضاتٍ لن تحدُث، وتدخل أميركي لن يتحقّق.
المصدر: العربي الجديد