محمد حماد
سألتُ سليم سحاب يومًا عن قومية الموسيقى، قلت له: الموسيقى لغة عالمية يا مايسترو، فقام من فوره إلى البيانو وعزف مقطعًا من «إحدى سيمفونيات بيتهوفن»، توقف برهة ثم انتقل إلى عزف جزءٍ من لحن الشيخ زكريا أحمد «أهل الهوى يا ليل»، ثم نظر لي وهو يسألني: تلاحظ أنهما مكتوبان على المقام الموسيقي نفسه، فهل تجد أي شبه بين هذين العملين؟، بالطبع لن تجد، اللحن الأول ذو جنسية ألمانية، وانتماء ألماني محض، واللحن الثاني انتماؤه عربي، ما يجمع بينهما فقط هي حروف الموسيقى السبعة.
هناك خطأ شائع يتردد كثيرًا يُراد له أن يستقر لدى في وعي المتلقين، يفرض عليهم مقولة أن الموسيقى لغة عالمية، رغم أنها على الحقيقة لغة قومية ذات حروف عالمية، ويستدل المايسترو «سحاب» على ذلك بأن كل الناس يعرفون أن جميع لغات أوروبا ونصف لغات الشرق إلى جانب جميع لغات أمريكا الشمالية وبعض أمريكا الجنوبية تكتب كلها بالحروف اللاتينية، ولكنها في الأصل لغات قومية مائة في المائة، وإن كتبت بنفس الحروف.
هكذا هي الموسيقات القومية للشعوب، تتألف كلها من الحروف الموسيقية نفسها (دو. ري. مي. فا. صول. لا. سي)، ولكن تبقى موسيقى كل شعب هي لغته القومية المعبرة عن أصوله وثقافته الخاصة.
كان الحديث بيننا قد بدأ بالتعليق على مقال للكاتب اللبناني «سمير عطا الله» ذكر فيه «إن الرئيس جمال عبد الناصر في عزِّ سطوته الجماهيرية خشي على التفوّق المصري الفني من صوت فيروز، فقال لمن حوله: هاتوا لنا فيروز مصرية على وجه السرعة، وقيل يومها إن عفاف راضي قُدِّمت على أنها فيروز مصر»، ويستدرك عطا الله فيقول: «لكن كما كانت هناك أم كلثوم واحدة لا تتكرّر في الأجيال، لا هي ولا منديلها ولا حضورها الكامل، كانت هناك أيضاً فيروز واحدة أشبه بالبحر لا يكرّر إلا نفسه».
الغريب أن البعض ما يزال يكتب نفس هذه المعاني تحت عناوين مثيرة واعتبروها تهدد الأمن القومي المصري في نظر عبد الناصر، في تلك الجلسة ذكرت للمايسترو أنني راجعت الأستاذ «محمد فائق» وزير الإعلام في عهد الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»، والذي نُقلت عنه القصة مع إضفاء طابع شوفيني ضيق على تفاصيلها، فقال لي الأستاذ «فائق»: لم يتطرق كلام الرئيس معي إلى المقارنة بين «فيروز» و«عفاف راضي» بأي صورة من الصور وكل ما قاله أنه رأى في صوتها ما يذكره بعظمة صوت «فيروز»، وأن الأمر اقتصر على ضرورة الاهتمام بالأصوات المصرية الجديدة، وكانت «عفاف راضي» مثالًا على تلك الأصوات.
وحسب رواية الأستاذ «فائق» فلم يكن يخطر على بال وزير الإعلام أن تكون المكالمة الرئاسية تتعلق بالمطربة «عفاف راضي»، أخبره الرئيس أنه كان يستمع إلى الإذاعة، وقد لفت نظره صوت مطربة ناشئة في ذلك الوقت، وأنه حرص على أن يواصل الاستماع إليها حتى انتهت أغنيتها، وذكر المذيع اسمها واسم الملحن وصاحب الكلمات، فاتصل من فوره بوزير الإعلام ليقول له بالحرف: «صوتها جديد، وحساس، يجمع بين قوة صوت «فيروز»، ورقة صوت «نجاة الصغيرة»، وطلب الاهتمام بالأصوات الجديدة مثلها.
فاجأني المايسترو «سحاب» بالتأكيد على أن «فيروز» نفسها بنت المدرسة الموسيقية المصرية. سألته التوضيح فقال: تشكلت الشخصية الفنية الحديثة لجميع الموسيقيين اللبنانيين على الموسيقى المصرية، فلم يكن هناك موسيقى محترفة غير المدرسة الموسيقية المصرية، ولم تكن هناك وسيلة إعلام تصل إلى أقطار الوطن العربي كله إلا الإذاعة المصرية ولم يكن هناك أفلام عربية غنائية أو غير غنائية غير الفيلم المصري.
المدرسة الموسيقية اللبنانية الحديثة التي ظهرت من الأربعينيات مع حليم الرومي وفيلمون وهبي، ونيقولا المني، وخالد أبو النصر، وغيرهم، تبلورت في الخمسينات وانطلقت عربياً مع الأخوين رحباني وزكي ناصيف وعفيف رضوان وتوفيق الباشا وباعتراف هؤلاء جميعاً فإن هذه المدرسة هي الابن الشرعي للمدرسة الموسيقية المصرية.
فيروز نفسها تقول إنها تربت على أغنيات أسمهان وليلى مراد، وعندما تريد الاستماع إلى الموسيقى الأصيلة فإنها تستمع إلى أغنيات أم كلثوم وبخاصة أغنية «هو صحيح الهوى غلاب»، ومعروف أن أستاذ فيروز في غناء الموشحات كان المغني الفلسطيني المعروف محمد غازي ابن المدرسة الموسيقية المصرية.
المطربة نور الهدى تربت على الغناء المصري وعلى الموشحات العربية وكانت تقول إن أباها لم يكن يتوقف عن القول بأنها لو لم تتعلم أن تغني كأم كلثوم وفتحية أحمد ونادرة لما تعلمت الغناء إطلاقاً.
العملاق وديع الصافي يقول في برنامج سجله التليفزيون اللبناني معه في باريس إنه «تعلم الغناء من اسطوانات محمد عبد الوهاب التي كان يسمعها عشرات المرات حتى أتقن طريقة عبد الوهاب في الغناء».
الوجدان هو الخط الوحدوي الأخير الذي يربط بين الشعب العربي في كل اقطار أمة العرب، وهو آخر ما تبقى لنا من عناصر الوحدة، هذا ما يؤمن به المايسترو سحاب، ويذكر دائمًا أن التقسيم السياسي الذي فُرض على البلدان العربية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية لم يستطع أن يكرر نفسه بتقسيمات ثقافية موازية، ولن ينكر أي شخص موضوعي أن مشكلات سياسية كبيرة طرأت في فترة الاستقلال بين الدول العربية، ولكن وحدة الوجدان في الثقافة العربية عموماً، وفي الموسيقى خصوصاً، ظلت حتى يومنا هذا تفرض نفسها في العمق متجاوزة كل الحواجز السياسية الطارئة.
قلت: لكننا نشهد انحيازات غنائية على الساحة العربية يقف بعضها في مواجهة البعض الآخر، قاطعني وهو يؤكد أنه لا يتحدث عن عراك المغنين وقال: أنا معنيٌ بالدرجة الأولى بالوجدان الشعبي العربي العام، وبعيداً عن الكلام النظري أحكي لك تجربتين مررت بهما تختصران أية مماحكات نظرية يمكن طرحها في هذا المجال.
التجربة الأولى حدثت في باريس عندما كنت أقوم برحلة فنية على رأس فرقة بيروت للموسيقى العربية وكنا نستقل حافلة لزيارة قصر فرساي في ضواحي باريس. وكان أعضاء الفرقة يشغلون مقاعد القسم الخلفي من الحافلة فجأة انطلقت إحدى منشدات الفرقة تغني «على بلد المحبوب وديني”، وفجأة أيضاً لمحنا امرأة شابة تقف قرب باب الحافلة ووجهها مليء بالانفعال (لم نفهم هل هو إيجابي أو سلبي) وقبل أن تنزل التفتت إلينا (وكنا نظنها فرنسية) وصاحت بنبرة عالية مفعمة بالشجن والحنين والانفعال وبلهجة مغربية واضحة رافعةً يديها إلى أعلى: «ربنا ينصركم، ربنا ينصركم».
دلالات الحادثة أعمق من أن نحللها على هوانا، فالأغنية من مصر (أم كلثوم ورياض السنباطي)، والمنشدون من لبنان (فرقة بيروت للموسيقى العربية)، والمستمعة مغربية تعيش في الغربة، أرض الواقعة فرنسا بعيداً عن الوطن العربي بآلاف الكيلو مترات، وبرغم كل هذه العناصر المختلفة ظاهرياً تحولت الأغنية إلى سلك كهربائي يحمل لغة وجدانية واحدة بيننا وبين المرأة المغربية، تطلق لديها ما يتجاوز بكثير مجرد النشوة الفنية فتحرك أعماق مشاعرها القومية والسياسية وربما أشجانها الشخصية الخـاصـة وعواطفها الدينية.
هل نحتاج إلى أدلة أخرى لإثبات دور الموسيقى في وحدة الوجدان العربي؟
تجربة أخرى يحكي عنها المايسترو «سليم سحاب» يقول إنها «تكررت كثيرًا عند تقديمي بعض الموشحات والأغنيات العربية، وقد لاحظتُ ولاحظ معي كل أعضاء الفرق التي تشرفت بقيادتها أن بعض ما نقدمه يثير انفجاراً انفعالياً لدى الجمهور في مختلف البلدان العربية من الخليج إلى المحيط، وفي المقاطع الموسيقية الغنائية نفسها يُترجم بتصفيق مفاجئ في وسط الأغنية، هذا الانفجار وجدته نفسه في الجمهور العربي الذي حضر حفلاتنا في واشنطن الأمريكية، ولا أزيد أكثر».
لا ينكر «سليم سحاب» أن لكل إقليم عربي مزاجاً مميزاً تظهر ملامحه أكثر ما تظهر في الموسيقى الفلكلورية، ولكننا حتى لو دققنا في هذه الظواهر الموسيقية ودرسنا علاقتها الموضوعية بالشخصية العامة للموسيقى العربية الكلاسيكية التراثية المعاصرة، أمكننا أن نعقد مقارنة تامة مع الأوضاع الموسيقية الأوروبية، التي تعايشت فيها وتداخلت مدارس الموسيقى القومية بكل بلد أوروبي مع العناصر الأساسية المكونة لشخصية الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية بشكل عام.
بل بإمكاننا التأكيد أن العلاقة بين روافد الموسيقى العربية الفلكلورية الخاصة بكل إقليم عربي (الخليج، المشرق، مصر، المغرب) والشخصية العامة للموسيقى العربية الكلاسيكية، أشد وثوقاً من علاقة الموسيقى الفلكلورية الأوروبية الخاصة بكل بلد بالشخصية العامة للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.
كوكب الشرق وجارة الوادي
لم تكن مفاجأة لي أن أجد «القرآن الكريم» يتصدر مكتبته إلى جانب «الإنجيل»، وقبل أن يخرج السؤال من بين شفتي يُبادر فيقول باعتزاز وفخر:
ذلك أني عربي، وابن الحضارة الإسلامية، وهي انتمائي، وهي الأساس الذي بني عليه تكويني منذ الطفولة، وأظن أن التزامي العروبة وثقافتها ومحبة الإسلام وحضارته، صنعته نكبة فلسطين واختلاط الدم في عروقي، وتلك السبيكة الثقافية التي نشأنا عليها، فإلى يميني خال فلسطيني، وإلى يساري عم لبناني، وكان جدي لأمي يروي لنا الشعر العربي، ويخط لنا أبياتاً على ورق، بقصب وحبر صيني، بخط الثُلُث أو الديواني، وحين تحب هذه الأمور صغيراً، تصبح أثمن ما لديك في نظرك، ويصير الدفاع عن هذه الثقافة قضية لا تملك الفكاك منها، مهما حاولت، لأنها تصير طبيعة ثانية في داخلك.
يعود إلى الموسيقى فيقول بحماس ظاهر: هناك علاقة وطيدة بين التراث الإسلامي والتراث الموسيقي العربي، هي على الحقيقة علاقة أم بولدها، فالغناء العربي هو ابن مدرسة التجويد القرآني، وليس من قبيل الصدفة أن يكون سيد درويش شيخ، ومحمد القصبجي شيخ، وسلامة حجازي، وأم كلثوم بنت شيخ، ورياض السنباطي ابن شيخ، وعبد الوهاب ابن شيخ، حتى الشيخ سيد مكاوي، وتحضرني هنا مقولة زكي ناصيف: « الصوت غير المُقرأن ما يغني عربي»، ويقصد بالطبع الصوت المدرّب على النفس الطويل الذي يتطلبه التجويد القرآني، الصوت الذي نشأ على النطق الصحيح، وأتقن منذ الصغر فن مخارج الألفاظ.
رغم القتامة التي تبدو من النظرة الأولى إلى حال الموسيقى والأغنية العربية إلا أن المايسترو يرى أن ما يحدث طبيعي مائة في المائة، فالموسيقى الخفيفة الترفيهية السائدة حالياً كانت موجودة من أقدم العصور عند جميع الشعوب، وهي ستظل موجودة، ولا يسمعها إلا المراهقون للتنفيس عن طاقة الشباب بواسطة الرقص والزعيق في الحفلات.
لا شك أننا نمر الآن في مرحلة جزر، أرض تستريح، والأصل أنها مشكلة ملحنين أكثر منها مشكلة مطربين فالأصوات الجميلة موجودة في كل زمان ومكان ولكن وجود الملحن صاحب الرؤية الحياتية والفنية والفلسفية أندر بكثير من وجود حنجرة جميلة، لذلك ستستمر مرحلة الجزر التي نعيشها حتى تظهر موهبة لحنية كبيرة فيها كل هذه العناصر التي تشكل شخصية الملحن العبقري.
وهناك أصوات عبقرية أدت أغان سخيفة – وهي لذلك ومع الأسف الشديد – لن يبق منها شيء، وأخشى أن أقول إن كثيرًا من الأصوات الحالية مكتوب عليها الموت بأكثر مما هو مكتوب لها أن تعيش.
مصر كان وما يزال لها دور مركزي في هذا المجال، ومن الجمل الصادقة للمفكر الكبير جمال حمدان تلك التي قال فيها «إن قدر مصر أن تتعرب سياسياً، وقدر العرب أن يتمصروا ثقافياً»، هذه الجملة تختصر الكثير في صياغة عبقرية، وكلنا يعلم أن مصر تاريخيا كانت المكان الذي اجتمعت فيه كل خصائص الحضارة العربية من الشرق ومن الغرب.
يشبه المايسترو «سحاب» مصر بمركز نسيج العنكبوت الذي إذا حدث به أي خلل امتد لباقي النسيج بأكمله، كما أن أي خلل يحدث على خيوط العنكبوت يستشعره المركز، وهي كذلك مثل الطائر، جناحه الأيمن المشرق العربي، وجناحه الأيسر المغرب العربي، وبدون الأجنحة لن يطير الكائن، وبدون الجسد لن يكون هناك طير من الأساس.
ولهذا فإن مصر هي مركز الموسيقى القومية، وبها اختزال الموسيقى العربية من المحيط للخليج، إذ كان علماء المشرق خلال عهد العباسيين، يمرون بمصر في رحلتهم إلى الأندلس عند زرياب، وفى عودتهم لبلاد الشام كانوا يعودون بما اكتشفوه في المغرب ويمرون به على مصر مرة أخرى، من هنا أصبحت مصر أشبه بـ«خزان» للموسيقى من المشرق للمغرب ومن المغرب للمشرق، ومن هنا تأتي أهمية ومكانة مصر ثقافياً وفنيًا، ولهذا السبب يتوجه فنانو العرب حتى يومنا هذا إلى مصر ليس فقط من أجل الشهرة، ولكن لأن القاهرة هي قبلة العرب ومحج قلوبهم ووجدانهم.
بعيدًا عن أي مواقف إقليمية ضيقة، أقرر أني أحببت عفاف راضي وعشقت صوتها، ولكني أعترف أن فيروز تبقى هي مطربتي المفضلة التي لا يسبقها عندي مطربة أخرى، حتى أم كلثوم نفسها، تبقى فيروز هي غذائي اليومي في كل وقت صباحاً كان أم مساءاً، وتظل أم كلثوم تحتل مساحة العصاري وتعانق جلسة البلكونات وصوتها يشدو من بعيد، وتبقى الموسيقى العربية كلها قادرة على أن تجمعنا ولا تفرق بيننا، فهي بحق لغتنا القومية العابرة للتقسيمات والانقسامات رغم كل هذا التشرذم البادي في مواقعنا ومواقفنا السياسية.
المصدر: مصر 36