د- محمد مروان الخطيب
لم يكن للجولة الثامنة للجنة الدستورية ذلك الزخم الذي رافق بداية عملها بعد تشكيل اتسم بالعسرة والمخاض الطويل، وقد يكون لهذه الجولة -التي لم تثمر كسابقاتها عن أي بارقة أمل، في السنة الثانية عشر على انطلاقة الثورة السورية- التي عقدت بعد توقف طويل وفي ظل تطورات إقليمية ودولية غير مساعدة لإعطاء أي نتائج حقيقية، لكن انعدام الاهتمام بنتائجها يعزى في الدرجة الأولى لكون هذا المسار فقد مصداقيته لدى الحاضنة الشعبية للثورة. حيث أصبحت سورية عالقةً وسط أزمة لا أفق للحل فيها، وصارت المنظومة الأسدية أشبه بجثةٍ ثقيلةٍ ترقد على أجسادٍ أنهكتها الحروب والاستبداد والجوع، تمنع عنهم الهواء والغذاء، ولا قدرة لهم على إزاحتها، ولا من يتبرّع بنزعها، حتى بات الضحايا، وهم جميع السوريين، ينتظرون الأقدار كي تأتي لهم بنهارٍ، وقد أزيحت هذه الجثة، ليبدأوا حياة جديدة، يعالجون آلامهم التي خلفتها سنوات الحرب الدامية ضدهم.
صحيح أن الثورة السورية التي تعيش فترة عصيبة من تاريخها ناتج عن تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بمتابعة مآلاتها، ماتزال شعلة الحرية متّقدة في نفوس الآلاف من أبنائها المخلصين، تستمد قوتها من أحلام الشهداء وصرخات الثكالى من بين أنقاض البيوت المهدمة على ساكنيها، وتتقد أكثر بطموحات أطفال ترعرعوا في خيام النزوح وأرصفة المنافي في بلاد الشتات، يحلمون بالعودة إلى وطنٍ لم نعد نعرف ملامحه بعد إثني عشر عاماً عانى فيها من كل أشكال القتل والتدمير من نظام مجرم بوجود الاحتلال الإيراني وبمشاركة حزب الله ومليشيات طائفية، والاحتلال الروسي الذي جرّب كل أنواع الأسلحة الفتاكة على الشعب السوري.
وبالرغم من التطورات الأخيرة التي اتسمت بطرح أفكارٍ جديدة مثل سياسة “الخطوة خطوة”، إضافة إلى “اللاورقة” الأردنية التي تخلى عنها أخيراً، هي بعيدة عن مضمون قرارات الشرعية الدولية، بدءاً من جنيف 2012 إلى القرار 2254، المرتكزة على عملية انتقال سياسي تحت إشراف الأمم المتحدة، من أجل تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، تشمل جميع المكونات، وغير طائفية، وتتضمن صياغة دستور جديد في غضون ستة أشهر، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة، لكن ذلك كله جرى القفز عليه، مقابل اعتماد اللجنة الدستورية بوصفها مخرجاً روسياً، يدّعي ساسة الكرملين أنهم اجترحوها من أجل تنفيذ القرار 2254، بينما كانوا يهدفون إلى نسف هذا القرار، وخصوصاً نسف تشكيل هيئة الحكم الانتقالي. وكأن المشكلة الحقيقية في سورية تتمحور حول دستور لم نحسن صياغته، وليست حاجة السوريين إلى إعادة ملكية وطنهم (سورية لينا وما هي لبيت الأسد)، واسترداد كرامتهم (الشعب السوري ما بينذلّ). ومتناسين أن الدستور في الدول التي تمر بصراعات وحروب وحالات مشابهة، يُكتب في نهاية المرحلة الانتقالية التي تقودها في الحالة السورية هيئة الحكم الانتقالي بعد تهيئة الظروف (البيئة الآمنة والمحايدة) لعودة المهجرين، وإطلاق سراح المعتقلين، وكشف مصير المفقودين، وإقامة برنامج للعدالة الانتقالية.
فبغض النظر عن أن التفاوض الجاري حالياً لم يعد يتقيد بالقرارات الدولية، ولا ببيان جنيف، ولا بقراري مجلس الأمن الدولي الرقم 2118، والرقم 2354، فإن حقيقة ما يجري من عمليات تفاوض هي رهينة الإرادات الدولية والإقليمية، لذلك نرى أن ميسر هذه العملية يخوض جولات مكوكية عبر الدول الفاعلة قبل كل جولة تفاوض. وهكذا بات السوريون إزاء دوامة، مفاوضات متوالية، وعقيمة، لا يعرف أحد متى ستنتهي، أو كيف تتشعب قضاياها.
ونعتقد بأن ما يجرى، هو ملهاة أو متاهة، ريثما ينضج توافق دولي وإقليمي على إنهاء الصراع، حيث لم تتوافر حتى الآن إرادة دولية، بخاصة أميركية، لإنهاء هذا الصراع، فمن المؤكد امتلاك أميركا أحد مفاتيح الحل في سورية، وهذا لا ينبع من كونها قوة دولية وحسب، بل لأنها موجودة على الأرض السورية بحكم الواقع عبر دعم ما يسمى “قوات سورية الديمقراطية”، وتوفير الحماية لها عسكرياً وسياسياً، ومحاولة تسويقها على المستويين الإقليمي والدولي، وتجميل أفعالها وانتهاكاتها بحق المدنيين عبر إعطاء صبغة أنها من أبناء المناطق وحاربت الإرهابيين، رغم أن عمودها الفقري هو الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني. ويضاف لما سبق سيطرة هذه القوات بحماية أميركية على أهم مصادر سورية، من ناحية الثروة النفطية.
إن الحاضنة الشعبية للثورة لا يمكن أن تبقى متشبثة بآمال معلقة على مفاوضات عقيمة، يقودها حالمون بتغيير المصالح الدولية والإقليمية، فعلى من يسعى للمحافظة على مصداقيته اتجاه هذه الحاضنة أن يعمل على تأمين مقومات استمرارية حياتها في ظروف لائقة، فإن كنا قد أخطأنا في تقدير قوة اعتماد المصالح الدولية والإقليمية على السلطة التي انتفضنا عليها، أو ستهنأ بما تستطيع فعله للمحافظة على مكاسبها، فعلينا أن لا نفقد ثقة الحاضنة الشعبية والأجيال القادمة بأحقية ما قمنا به لتحقيق حياة حرة كريمة، وملعبنا في ذلك هو ما يسمى بالمناطق المحررة، من بناء مؤسسات إلى تفعيل إدارات بضوابط وأنظمة تجسد حلمنا في سورية المستقبل، وإلا فإن كل ما جرى لا يعدو مغامرة نتيجتها ضياع وطن وتشتيت شعب.
وبين كل الاحتمالات يبدو أنّ مآل الحل الواقعي والمنطقي، الذي يتفق مع مصلحة السوريين، الهادف لإنهاء الوضع الكارثي بحل سياسي تفاوضي يقيم حكماً انتقالياً بكامل الصلاحيات التنفيذية، والمبني على أساس التوازنات الإقليمية والدولية هو، بالضرورة، حل مؤقت، لا يحقق الاستقرار الدائم. ويُفترض بالمعارضة العمل جدّياً على خلق دينامية سورية داخلية للحل، بعد أن اعتمدت، طوال السنوات الماضية، على ما يقدمه الخارج من تصوّرات ومبادرات.
ويستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، العودة إلى ذاتنا، واستعادة روح الحراك الشعبي والمبادئ التي كان يمثلها، في الحرية والكرامة وحق الشعب السوري في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحَّى من أجلها ملايين السوريين، بعضهم بأرواحه وبعضهم بمستقبله وكل ما يملك، فمن دون إحياء هذه الروح من جديد، وتعميم إشعاعها في قلوب أغلب السوريين، لن يبقى هناك أيُّ أمل للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية.
المصدر: اشراق