محمد السلطاني
تشوّش الحوادث العراقية المزدحمة الرؤية عن تطوّر استراتيجي كان حتى قبل بضعة أشهر لا يَرِد في أشد سيناريوات الوطنيين العراقيين تفاؤلاً، والحديث هنا عن الأفول المتسارع لأبرز شخصيات الفصائل الإيرانية، نوري المالكي.
حماسة “الأصدقاء” قبل الخصوم
لا يزال مراقبون كثر مترددين في الجزم بنهاية المالكي، وهو الذي نجا من ضربات سابقة، لكن التطورات الأخيرة تأخذ طابعاً مختلفاً، فالرجل لا يواجه تناقص مقاعده في البرلمان أو فقدان بعض المناصب، بل ضربة ستنعكس على كامل مزروعات حقل الألغام الإيراني التي سقاها نظام الولي الفقيه طيلة عقدين.
تسببت تسريبات المالكي بنهايته، ليس لأنها كشفت أسراراً عن طبيعة تفكيره، فهذا معروف، بل لأنها أصبحت وثائق بيد منافسيه داخل معسكر حلفائه في الإطار، الذين يتوقون للتخلص منه.
استفادت الفصائل المسلحة من مقاعد المالكي (33 ثم نحو 50 بعد انسحاب الكتلة الصدرية) في تقوية موقفها ضد غريمها مقتدى الصدر، لكنها تعتقد أن المالكي بات عبئاً، وتريد الاستفادة من مقاعده فقط، لكنها تتحيّن الفرص للتخلص منه.
يقول قادة في فصائل إيرانية صريحة – ساهم المالكي في إطلاق يدها وتمكينها من الثروة والسلاح – إنهم لم يعودوا مستغنين عن خدمات المالكي فحسب، بل إنهم يدفعون ثمن سياساته وفساد حقبته الطويلة بسبب اقترانهم به، خاصةً أن من بينهم فصائل لم تحظَ بفرصة الفساد الحكومي لعدم تسلمها وزارات معروفة، واقتصر فسادها على الأتاوات والاختطاف والاغتيالات، وهي جرائم يعتقد الفصائليون، المعروفون بالحسابات الخاطئة، أن بالإمكان إنكارها بمساندة جيش إعلامي ممول من عائدات تلك الجرائم.
سيعتمد نجاح الفصائل بالتخلص التدريجي من المالكي على 3 عوامل، الأول هو مدى ولاء النواب للمالكي، وما إذا كان بينهم مَن هو مستعد للانسحاب والانضمام إلى قوى فصائلية أخرى، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن ائتلاف “دولة القانون” يعتمد على الوجهاء المحليين والعشائريين في قوائمه الانتخابية أكثر من الحزبيين الموالين، لذا فإن تغيير البوصلة بالنسبة إلى هؤلاء لا يبدو أمراً مستبعداً إن توفرت الصفقة الواضحة.
يتعلق العامل الثاني بالأوضاع داخل “حزب الدعوة الإسلامية”، الذي أحكم المالكي قبضته عليه واستبعد منه الشخصيات الوازنة أيامَ سطوته، لكنّ حراكاً صامتاً يتصاعد داخل الحزب، يقوده “دعاة” كبار من ضحايا المالكي، ويتحدثون عن ضرورة إجراء “حركة تصحيحية” ما، قبل أن يلتحق الحزب بنظيره السنّي “الحزب الإسلامي” الذي أصبح من الماضي.
أما أرشيف المالكي المزعوم عن فضائح حلفائه المنافسين في ملفات الفساد والجرائم فقد يلعب أيضاً دوراً حاسماً.
الفشل وليس المؤامرة
لم يتبنّ “حزب الدعوة الإسلامية” عند تأسيسه قبل عقود الاحتراب الطائفي، بل على العكس، لكن المالكي وبفكرة سطحية وساذجة افترض أن إذكاء الكراهية الطائفية ودعم الفصائل والسماح لها بارتكاب جرائم التطهير والاغتيالات، سيرفع رصيده الشعبي لدى الشيعة، ويمنحه تفوقاً على منافسيه داخل المكوّن، وتم له ذلك حتى حين.
في التسريبات، ينفجر المالكي غيظاً من رفض الأحزاب الكردية والسنية والصدر تشكيل ائتلاف حكومي يضم المالكي وفصائله، لقد أدرك أنه استثمر في مساحة وفرت له ربحاً سريع التحقق لكن سريع التلاشي أيضاً.
لم تخرج جموع الشيعة دفاعاً عن “مختار العصر”، كما كان يتصور، ولم ينتفض ضيوفه – في التسجيل – الذين وعدوه بعشرين ألف مقاتل. وفي الصور المثيرة للشفقة، ظهر المالكي وحيداً إلى جانب مرافقه الذي التحق به من “ميني ماركت” في إحدى ضواحي دمشق، وهما يتجولان مع بضعة مسلحين داخل باحة قصر مشيد لم يرثه من أجداده، بينما لا يظهر المسلحون الذين دعمهم أي اكتراث. ويقول حليفه رئيس هيئة “الحشد الشعبي” فالح الفياض إن قواته لن تتدخل في أي نزاع، وحتى المسلحون الولائيون الذين رعاهم المالكي، باتوا بين منتظر للتخلص منه، ومتحرج من الاقتران ببقايا زعيم أحرق نفسه.
الخوف من العدالة ولا شيء غيره
ساق حلفاء إيران طيلة 8 أشهر سيلاً من مبررات رفضهم التوجه إلى المعارضة، كالحرص على وحدة الشيعة والتصدي لمؤامرة غامضة، لكن الخوف وحده هو ما كان يحرك كل أولئك المدججين بالأسلحة، رغم أنهم يسيطرون على كل شيء، من رأس القضاء إلى شرطة الحي.
سلطت المقالة السابقة التي نشرها “النهار العربي” قبل تسريبات المالكي، الضوء على الهواجس الحقيقية لأتباع إيران من مشهد اصطفاف رموزهم داخل أقفاص المحاكمة، لكن التسريبات كشفت أن ما يستوطن دواخل المالكي، أسوأ بكثير من مشهد يحاكي مصير صدام حسين. إنه يخشى حساباً شعبياً غير منضبط على الطريقة العراقية الأكثر قسوة من نظيرتها السريلانكية.
رشح الإطار القيادي السابق في “حزب الدعوة” محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، وكان مفهوماً أن يعاني في إقناع خصومه بأنه ليس ظلاً للمالكي، لكن أمام السوداني مهمة أصعب.
لا يثق المالكي بالمرشح الجديد، إنه يخشى أن يستيقظ فيجد ربيبه السوداني وقد سلك مسار عضو حزب “الدعوة” الآخر حيدر العبادي، الذي حوّل حقبته إلى مهرجان للاحتكاك مع فصائل إيران إبان حقبة أبو مهدي المهندس، ومن أجل هذا، لا يكتفي المالكي برئيس وزراء من حزبه لتهدئة مخاوفه، بل يشترط أيضاً ضمان منح 3 مناصب أمنية إلى شخصيات موثوقة، وهي وزارة الداخلية وجهاز المخابرات ومستشارية الأمن القومي، إنها ليست سوى الجهات التي يتوقع المالكي أن تشارك في “مؤامرة اعتقاله”.
زرع المالكي مواليه على رأس الشرطة والجيش ثم اعتبرهما مُخترقين، فأسس “الحشد الشعبي” ثم اعتبر قيادته “جبانة”، فدعم الفصائل المسلحة، ثم عاد ليعتبر كل تلك القوات مع الكرد والسنّة والصدر والمتظاهرين والمدنيين والوطنيين جزءاً من المؤامرة، ويشرع بتأسيس جماعات مسلحة جديدة، تحت تأثير الخوف، وهو يردد عبارته المسرّبة الأكثر تداولاً “إلي ياكل حرام… يصير جبان”.
لا وقائع على الأرض تشير إلى قرب تحقق شيء مما يدور في خلد المالكي وتسريباته، إلا أن بين العراقيين وفصائل إيران حساباً طويلاً عسيراً، وحريّ بها أن تتوقع النهاية التي يتحدث عنها المالكي في تسريباته، ويحاول الاستعداد لها عبر ربط المزيد من المقاتلين بخامنئي.
يراقب المالكي صمت الإيرانيين، ويتساءل، ومعه عراقيون كثر: “هل صمتٌ هذا أم عجز؟ وهل هو انشغالٌ بالنووي والشؤون الداخلية… أم بداية مرحلة التضحيات واستبدال الكوادر؟”.
المصدر: النهار العربي