د- عبدالله تركماني
فيما يستمر تحوّل عدة دول عربية إلى دول فاشلة ترهب وتجوّع شعوبها، يمكننا أن نرى تشابهاً مثيراً بين وضع العالم العربي اليوم ووضعه في أسوء ظروف تاريخه الحديث، بدءاً من أوضاع سورية والعراق ولبنان واليمن وفلسطين، مروراً بإحداث تغيّرات مفروضة في الخريطة السياسية للمنطقة، وانتهاء بتغيير بنيوي للعديد من الأقطار العربية.
ومن المؤكد أنّ هذه الحالة هي نتاج طبيعي لقصور الوعي والأوهام الزائفة والممارسات الخاطئة والفعل العاجز التي سيطرت على العرب لفترة طويلة من الزمن. وعموماً كشف هذا الوضع كم أنّ النظام العربي قوي وشديد البأس تجاه الداخل وضعيف وسريع العطب تجاه الخارج، بالرغم من كل الإنفاق على الجيوش والتسلح والأمن.
لقد تمددت أهداف السياسة الأمريكية في المنطقة العربية من تأمين النفط وطرق وصوله، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما ترتب عنه من نقص إمداد أوروبا بموارد الطاقة، وضمان أمن إسرائيل، إلى ما هو أكثر اتساعاً وطموحاً، أي فرض سيطرة تامة ومباشرة على المنطقة العربية، عبر منع قيام أية قوة إقليمية عربية قادرة على موازنة القوى الأخرى في الإقليم، إيران وإسرائيل وتركيا. فمن الواضح أنّ مآلات أوضاع سورية والعراق ولبنان واليمن، لن يكون سوى طرف خيط لتوجيه ضربة قاصمة للنظام الإقليمي العربي الذي يترنح أصلاً. إذ يجمع المحللون السياسيون على أنّ المشهد الراهن للشرق الأوسط لابدَّ أن يتغير بصورة جذرية، حتى أنّ البعض بدأ يتحدث عن شرق أوسط جديد سيكون أحد أهم إفرازات هذه الوضعية، بما ينطوي عليه ذلك من إعادة رسم خريطة التوازنات الإقليمية الجديدة وفقاً لمعطيات القوة لأطراف المنطقة.
وللأسف فإنّ العديد من الدول العربية، التي كانت قد اعتادت أن تشهر سلاح “السيادة ” و ” عدم التدخل في الشؤون الداخلية ” في وجه النظام الإقليمي العربي، تجد نفسها اليوم عاجزة عن الدفاع عن سيادتها في وجه القوى الأجنبية، ومضطرة، في غياب نظام عربي قوي يحميها، إلى تقديم التنازل تلو الآخر على حساب كرامتها أحياناً وعلى حساب سيادتها دائماً.
والمؤسف أيضاً أننا، في مواجهة كل ما يجرى، ما زلنا أكثر ميلاً للهروب من مواجهة المشكلات الذاتية وتأجيل الاستحقاقات الداخلية والتردد في التعاطي المجدي مع التحديات والفرص، بما يخص قضايا السياسة والفكر والاقتصاد والمجتمع، بسبب كوابح عديدة من أهمها ميل صنّاع القرار في أغلب الأقطار العربية للتركيز على المباشر والسطحي والآني.
إنّ حماسة العاطفة العربية التي تطفو على السطح، في أغلب الأزمات، هي التي كثيراً ما تجعلنا غير قادرين على تلمّس التحوّلات العميقة في المشهد الإقليمي والدولي، مما يحجب عنّا المقدرة على فهم الأوضاع وتقدير المواقف ورسم السياسات المجدية، ويجعل عملية ” لوم الآخر ” على سوء أوضاعنا واحدة من أكثر درجات التخلّي عن المسؤولية وأكثرها ضرراً بأوضاعنا. وفي هذا السياق، يجمّد البعض الفكرة العربية عند مرحلة تاريخية معينة أو لدى قيادة معينة، ويعتبر أنّ أي نقد لأحد الطقوس أو الرموز أو الشعارات أو المواقف خروج على الأمة.
إنّ التخلص من مثل هذه الرؤى والأوهام يتيح الفرصة لقراءة الواقع القائم قراءة موضوعية، بعيدة عن التهويل أو التهوين، من أجل التوصّل إلى أسلوب ملائم للتعامل معه، يسعى إلى الخروج من نفق الأزمة وتقليل الخسائر تمهيداً لتحقيق المكاسب والمصالح لاحقاً. مما يستدعي حضور فكر عربي منفتح وبراغماتي ومستقبلي، ليس حبيس القوالب الجاهزة ولا التمسك الجامد بالشعارات والنماذج. فكر يتفاعل مع المعطيات الجديدة – باستمرار – ويستفيد من تغيّر السياقات العالمية الجيو- سياسية والاقتصادية. فلا بدَّ من استيعاب أنّ مجمل الظروف، في العالم العربي وحوله وعلى اتساع العالم، تؤكد أنّ الممكن المتاح مرتبط بسياسة نَفَس طويل تقدر على المثابرة، وعلى الصبر، وتهيئ نفسها لكل الاحتمالات دون أن تفقد اتجاهها مع أي ريح، أو تترك هدفها يضيع من مدى بصرها بعد أول منحنى على الطريق.
فإذا كان حرص الدول العربية على ” سيادتها ” و” استقلالها “، تجاه بعضها البعض، قد لعب فيما مضى دوراً رئيسياً في إجهاض كافة المحاولات الرامية إلى قيام نظام إقليمي عربي قوي ومتكامل وأضعف الجامعة العربية ومؤسساتها، فلم يعد لهذا الحرص ما يبرره في عالم اليوم، لأنّ السيادة – بمعناها التقليدي – تغيّرت أو تآكلت، سواء من حيث المفهوم أو على الصعيد العملي.
إنّ الحاجة ماسّة إلى نظام عربي جديد يتكيّف إيجابياً مع المتغيّرات الدولية، ويستند إلى دول عربية عصرية تقوم على أسس الحق والقانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويدرك عناصر القوة الكامنة لدى الدول العربية ويفعّلها لما يخدم الأهداف المشتركة.
وانطلاقاً من المعطيات والرؤى، الموصوفة أعلاه، ثمَّة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية تقوم على: أولاً، الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى. وثانياً، النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية على الأقل. وثالثا، إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية – الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حلَّ محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه.
إننا نعيش مرحلة انتقالية صعبة منفتحة على مختلف الاحتمالات، بما فيها تفكك بعض الدول العربية، ولن يكون لنا ما نريد سوى بالتخطيط والعمل الاستراتيجي في المديين القريب والبعيد.