أمير مخّول
أُنجِز وقف إطلاق النار، ويبدو أنه، كما العدوان ذاته، لا يمكن التكهن بمداه. وفي الصورة العامة، تبدو الأمور أقرب إلى الإخفاق الفلسطيني منه إلى إخفاق دولة الاحتلال. لا يتم الحديث هنا عن الإخفاق بالمفهوم الميداني أو العسكري، بل أساساً، وإذا ما اعتبرنا الحرب امتداداً للسياسة، فقد نجحت إسرائيل، حتى ولو موقتاً، في فصل الجبهات، وفي الاستفراد بفصيل واحد، وعملياً، في خلق تراجُع في إنجازات “سيف القدس”، وإلى حد ما، تحويل دور “حماس” إلى سلطة يحكمها الحصار العسكري والتبعية الاقتصادية لإسرائيل. وهو واقع يفترض تقييماً جماعياً للمرحلة، ولطبيعة التحديات المتغيرة، ولمجمل الحالة الفلسطينية المتعثرة بامتياز. كل هذا لا يعني أن إسرائيل حققت انتصاراً استراتيجياً، بل إن كل الأمور يمكن أن تنقلب في لحظة، كما تؤكد مسيرة شعب فلسطين.
ولو راجعنا تسلسل الأحداث، لرأينا أنه ما كان ينبغي لأحد أن يُفاجأ بالعدوان الإسرائيلي على غزة واستهداف قيادات كتائب القدس والناس. لم تكن الحشود العسكرية على حدود غزة، وإغلاق المنطقة الجنوبية بكل مستوطناتها، واستدعاء الاحتياط العسكري، سلوكاً دفاعياً، أو تحسباً لرد الجهاد الإسلامي على عملية مخيم جنين الأخيرة، واعتقال الشيخ بسام السعدي والسعي لإهانته وإهانة فصيله وشعبه، بل إن الاعتقال جاء ضمن الاستعداد لعدوان جديد له أهداف استراتيجية، حتى ولو كان بحد ذاته محدود النطاق. للأسف، لم تُقرأ التحركات الإسرائيلية بصورة صحيحة، وكان الالتهاء بما يبثه إعلامها المجند بشأن حالة الهلع وبث روح الإخفاق، بينما الأمر الحاسم هو ليس صوت إسرائيل، بل أذرعها العسكرية والأمنية التي تحشد قواتها، لتؤكد أن عملية مخيم جنين هي جزء تمهيدي من التصعيد العدواني. وإن كنا نشهد حالة هلع إسرائيلي، فإن مثل هذه الحالة مع دولة تملك ترسانة عسكرية هائلة قد تكون مدعاة لعدوان استباقي، وليس بالضرورة أن نشهد الانكفاء.
لن يكون صحيحاً ربط العدوان بالحالة السياسية الصهيونية الداخلية وانتخابات الكنيست، بل إنه يتماشى تماماً مع عقيدة العدوان المتجذرة، وهو مخطط دولة يحظى بالإجماع، وليس رئيس حكومة فحسب. هناك تحوُّل مهم في الاستراتيجيا الإسرائيلية الإقليمية، وليس فقط على الساحة الفلسطينية، وهو اعترافها، ضمنياً، بأن حلفاءها من الأنظمة العربية لن يكونوا على استعداد لخوض حروب إسرائيل. وهذا تحوُّل جوهري، إذ تتحدث الاستراتيجيا الحالية عن أولوية “حرب البروكسي”، كما حددها إيال زامير، المرشح من ضمن اثنين لقيادة الأركان العامة، والقاضية بتعريف إسرائيل أن عدوها الأساسي في المنطقة هو إيران، بينما المعركة معها لا تتوقف إلى أن تحقق هدفها، وهو إعادة نفوذ ايران إلى حدودها الإقليمية، وعليه السعي للقضاء على كل أذرعها في المنطقة كأولوية، وبالتالي، فإن الجهاد الإسلامي هو أول المرشحين، فلسطينياً، إلى جانب حلفاء إيران في لبنان والعراق واليمن.
كل المؤشرات تدل على أن إسرائيل معنية بجولة العدوان الحالية المخطط لها مسبقاً على غزة. ويأتي ذلك ضمن مسعى لإعادة الاعتبار للردع المتآكل، ولعقيدة “المعركة بين الحروب”، وكذلك للتخلص من إسقاطات إخفاقاتها. وإذا كانت معركة “سيف القدس- حارس الأسوار” انتهت بشعور إسرائيلي بالإخفاق، وشعور فلسطيني بالانتصار، فإن الإعداد للعدوان الحالي بدأ منذ لحظة انتهاء العدوان السابق في أيار/مايو 2021. كما أن إسرائيل تسعى لضمان وقوف حركة “حماس” على الحياد، أو عدم التدخل عسكرياً، وحصر المعركة مع الجهاد الإسلامي. فاستراتيجية إسرائيل الحالية هي التخلص من أطراف المحور الإقليمي الذي يتشكل في مواجهة المحاور الإقليمية والدولية التي تسعى إسرائيل لإقامتها برعاية الولايات المتحدة. كما أن الهدف الاستراتيجي المكمل هو التخلص من القضية الفلسطينية، ومن مقومات بقائها حجر عثرة أمام عمق التحالفات مع عدد من الأنظمة العربية.
في المقابل، وضمن الاستنتاجات من العام الفائت وتزامُن المواجهات في غزة والقدس والمدن الساحلية التاريخية، فإن إسرائيل تسعى لمنع تعدُّد الجبهات وبالتزامن، بل الاستفراد بكل جبهة على حدة. بناءً عليه، قررت المؤسسة الأمنية والسياسية منذ أشهر مضاعفة أعداد الجنود من وحدات الجيش المختلفة وقوات حرس الحدود، ومن الميليشيات الرسمية (الحرس الإسرائيلي)، وذلك لمنع المواطنين الفلسطينيين العرب في إسرائيل من التظاهر في المدن الساحلية، وعليه، قررت وزارة الأمن تجنيد 25000 جندي احتياط كما أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية، ليقوموا بدور قتالي، بينما يقوم جزء منهم بدور إداري، وكذلك حماية المطارات والطرق الرئيسية، كما أعلن وزير الأمن الداخلي تدعيم الشرطة بعشر سرايا من قوات حرس الحدود، والتي يبلغ قوامها 2000 – 2500 جندي يضافون إلى الشرطة في المدن الساحلية في عكا وحيفا واللد والرملة ويافا، ومهمتهم الوحيدة هي التصدي للجماهير العربية الفلسطينية وقمعها.
إمعاناً في هذه الاستراتيجيا، تعوّل إسرائيل على منع تشكّل وحدة فلسطينية ميدانية بين الفصائل. وتسعى بصورة خاصة لتحييد دور “حماس” ومنع تدخُّلها. ويتم التعبير عن هذا المسعى بالتهديد الفعلي والحشد العسكري، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية على جماهير الشعب في غزة وتعميق الحصار. أما عدوانها المتواصل على جنين ومخيمها في شمال الضفة الغربية، فهو جزء من المسعى لاستنزاف الفصائل الفلسطينية، وبالذات استنزاف حركة الجهاد الإسلامي، في محاولة لمنعها من تعزيز قوتها ونفوذها، وخصوصاً أن حركة الجهاد تتبنى عقيدة الحرب المفتوحة، دونما توقف، أو هدنة، أو تهدئة، وهذا ما يخيف إسرائيل.
إعادة تأكيد حكومة لبيد والإعلام، وكذلك النخب العسكرية، أن الهدف من عملية “بزوغ الفجر” محصور في تسديد ضربة للجهاد الإسلامي حصرياً، وعليه تسعى لإنهاء العدوان بسرعة، وخلال أيام قليلة، لضمان هدفها بعدم تدخُّل حركة “حماس” في القتال، يتضمن تحدياً كبيراً لحركة “حماس” والفصائل عموماً في قطاع غزة.
وفي المقابل، فإن المثير للاهتمام هو أن الأولوية الإسرائيلية الحالية ليست غزة، ولا جنين، ولا الشيخ بسام السعدي، إنما هي إنجاز مشروعها الاستراتيجي فيما يتعلق باحتياطات الغاز الطبيعي في منصة “كاريش”، والتي تعتبرها إسرائيل أولوية عليا ومصالح حيوية، لِما فيها من تعاون إقليمي ودولي لتصدير الغاز إلى أوروبا واستغلال الحرب في أوكرانيا وأزمة الغاز بين روسيا وأوروبا. هذا في الوقت الذي يرى لبنان أن المسعى الإسرائيلي هو بمثابة عدوان على مصالح لبنان الحيوية، والتي تتصاعد بسببها التهديدات بين إسرائيل و”حزب الله”. وكما يبدو، فإن الحديث في إسرائيل عن إرجاء بدء عمليات الحفر في منشأة “كاريش” إلى ما بعد شهر أيلول/سبتمبر، هو مؤشر إلى أن سياسة الردع المتبادل لا تزال فعالة أولاً، وفي المقابل، يجب قراءة العدوان الأخير على غزة على أنه تحييد لجبهة فلسطينية من شأنها أن تنفجر في حال تطورت الأمور إلى مواجهة عسكرية على الجبهة الشمالية. وعليه، يبدو العدوان الحالي على غزة محدَّد المعالم إذا ما انتهى فعلًا مع إعلان وقف إطلاق النار، لكن كما ذُكر آنفاً، إسرائيل لا تتحكم في الحيثيات، ولا في النتائج. فالطرف الفلسطيني، حتى وإن كان محصوراً في حركة الجهاد الإسلامي، فإنه يملك العديد من مَواطن القوة والقدرة على تعطيل تفوُّق الترسانة العسكرية الإسرائيلية.
ما تطلق عليه إسرائيل اسم معركة مع الجهاد الإسلامي هو عدوان متكامل على شعب فلسطين. بل مرة أُخرى، تدفع غزة ثمن العدوان والحصار والدمار من دماء سكانها، إلّا إن الأيام القادمة ستكشف منحى الأمور. المؤكد أن إسرائيل تتحكم في قدراتها، لكنها لا تتحكم في قدرتها على استخدام تفوُّقها العسكري كما تشاء، ولا في ردّ الفعل الفلسطيني، ولا في إرادة هذا الشعب.
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية