سركيس قصارجيان
يتزايد الاعتقاد لدى الأتراك بقرب التطبيع بين حكومتهم ودمشق، الوجهة الإقليمية الوحيدة التي لم تعد العلاقات معها إلى ما قبل “الربيع العربي” ضمن السياسة الجديدة التي ينتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ أكثر من عام بسبب الأزمتين السياسية والاقتصادية.
هذا الاعتقاد تدعمه التصريحات الرسمية التركية الصادرة مؤخراً من أعلى المستويات بدءاً من الرئيس أردوغان ووزير خارجيّته، وصولاً إلى صحافيين وكتّاب مقربين من السلطات في أنقرة، وذلك بالتوازي مع ارتفاع حرارة العلاقة التركية مع حلفاء دمشق في طهران وموسكو.
لكن، على عكس مسارات التطبيع مع كل من أبوظبي والرياض وتل أبيب، فإن حسابات أردوغان مع دمشق أشدّ تعقيداً من مثيلاتها مع العواصم الأخرى وأكثر صعوبة. فإذا أخذنا في الاعتبار فشل أنقرة في بلوغ المستوى المأمول في علاقاتها مع القاهرة على الرغم من كل التنازلات التي قدّمتها للأخيرة، سيكون من السهل تصوّر صعوبة انجاز مهمة التطبيع التركي – السوري.
ويعتقد الدبلوماسي السابق والمتدرّج في العديد من الوظائف الوزارية والعسكرية والدبلوماسية التركية قبل عهد “العدالة والتنمية”، ايدين سيزير، في حديث إلى “النهار العربي” أن المصالحة السورية – التركية باتت قريبة جداً، ومن الممكن أن نشهد مفاجأة كهذه في أي لحظة. المؤسسة الاستخباراتية في كلا البلدين على تواصل، كما أن تركيا تصالحت مع الجميع”.
تعاظم دور المؤسسة الاستخباراتية التركية، وكالة المخابرات الوطنية (MIT)، نتيجة الظروف الاستثنائية التي فرضها “الربيع العربي” على المنطقة من جهة، وبسبب تزايد مشاكل تركيا مع الدول الإقليمية والغربية، التي كانت حتى الأمس القريب حليفة لأنقرة، ما أجبرها على اللجوء إلى أساليب غير تقليدية وبعيدة من السياسة أحياناً في إدارة هذه العلاقات، كما الحال بالنسبة إلى استعمال ورقة اللاجئين لابتزاز أوروبا، والمرتزقة في ليبيا وأذربيجان وغيرهما، وهي جميعها تقع في صميم العمل المخابراتي.
الدبلوماسية الاستخباراتية
في هذه الظروف الاستثنائية اعتمدت أنقرة سياسة جديدة سمّاها الرئيس التركي “بالدبلوماسية الاستخباراتية” تقوم على إبقاء قنوات الاتصال الاستخباراتية مفتوحة مع العواصم التي باتت أبواب الدبلوماسية التركية مغلقة معها.
في شباط (فبراير) 2019 قال الرئيس التركي في مقابلة مع قناة “TRT” الحكومية أن “السياسة الخارجية بين تركيا وسوريا مستمرة على مستوى الأجهزة الأمنية، على خلاف المؤسسات الدبلوماسية”، شارحاً في الوقت ذاته أن “المؤسسات الاستخباراتية لا تقوم بما يقوم به السياسيون، عليكم ألا تقطعوا هذا الخيط تماماً (العلاقة مع دمشق)، لأن هذا الخيط يلزمكم في يوم من الأيام”.
وفي منتصف كانون الثاني (يناير) 2020، كشفت وكالة الأنباء الرسمية السورية “سانا” عن لقاء بين اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني في سوريا ونظيره التركي هاكان فيدان في موسكو، وأكّدته وكالة “رويترز”. كما تحدّث وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في آب (أغسطس) 2021 عن أن “أنقرة تتواصل مع دمشق لكن في القضايا الأمنية المتعلّقة بالإرهاب فقط”، من دون أن يستبعد إمكان تواصل “الدبلوماسيين مع بعضهم بعضاً، لكن ليس السياسيين”.
لطالما حاول الرئيس التركي ووزير خارجيته الإيحاء بوجود اتصالات سرّية مع دمشق التي ردّت على هذه الادعاءات مؤخّراً بلهجة قاسية، مرجعة هذه التصريحات إلى التجاذبات السياسية الداخلية في تركيا، ليعلن وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد في شباط (فبراير) الماضي، شروط دمشق من أجل التطبيع مع أنقرة، مذكّراً أن “سوريا وتركيا جارتان، ويربطنا تاريخ طويل و500 سنة احتلال، تكفي نفهم بعضنا”.
وتتضمن شروط دمشق للتطبيع: سحب تركيا لقواتها من الأراضي السورية، وتوقّفها عن دعم الإرهابيين وكفها عن حرمان السوريين من الموارد المائية، وبناء علاقات مع دمشق على أساس الاحترام المتبادل، وهي شروط تظهر الهوّة الكبيرة في رؤية البلدين السياسية والميدانية. فالعمليات التي تصوّرها أنقرة أنها تهدف إلى تأمين حدودها الجنوبية وإحلال الأمن والاستقرار داخل سوريا، تصفها دمشق “بالاعتداءات” وتعتبر الوجود التركي على أراضيها “احتلالاً”، كما أن دمشق، نقيض أنقرة، لا تعتبر “قسد” وحزب “الاتحاد الديموقراطي الكردي” و”وحدات حماية الشعب”، منظمات إرهابية مثل الميليشيات المتحالفة مع أنقرة أو العاملة تحت إمرتها، ناهيك بكثرة الملفّات الشائكة بين البلدين.
يشير هذا التناقض إلى صعوبة مهمة كل من طهران وموسكو الساعيتين إلى تحقيق المصالحة بين حليفيهما السوري والتركي.
ويشرح سيزير، مؤلف العديد من الكتب السياسية، أن “روسيا ذكّرت أنقرة خلال قمة سوتشي عام 2019 التي أنهت عملية نبع السلام، باتفاقية أضنة، مبيّنة أنها مستعدة للعب دور الوساطة بين البلدين، ولذلك فإن تحقيق المصالحة بين أردوغان وبشار الأسد لم يغب يوماً عن برنامج العمل الروسي، وفلاديمير بوتين يشير لأردوغان نحو دمشق بشكل مستمر”.
تعتقد روسيا أن المصالحة السورية – التركية تحقق هدفين رئيسيين: فهي من جهة تضغط على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا للتفاهم مع دمشق، ومن جهة أخرى تسهم في تخفيف النفوذ الإيراني في سوريا.
لكن تبقى معضلة “قسد” والموقف التركي العازم على إطلاق عملية عسكرية ضدها عائقاً أمام موسكو للشروع في مهمة المصالحة في ظل تمسّكها برفض أي تحرّك عسكري في سوريا، وهو ما كررته في سوتشي مرفقاً بجملة “تفهّم المخاوف التركية المشروعة”.
توجّه أردوغان إلى سوتشي واضعاً الاقتصاد دون غيره نصب عينيه. وقد شهدت الفترة الفاصلة بين قمتي طهران وسوتشي نشاطاً لزيارات الوفود التقنية الروسية إلى تركيا من أجل البحث في الملفات الاقتصادية. يؤكد سيزير أن “زيارة أردوغان لسوتشي جاءت في سياق الانتخابات التركية وبهدف جذب ما أمكن من الاستثمارات الروسية، بخاصة أن التوقّعات من الإمارات والسعودية بقيت في الحدود الدنيا”.
وبحسب سيريز، الخبير في السياسات الخارجية والمتخصص بالشأن الروسي، فإن “أردوغان كان على علم قبل الذهاب إلى “سوتشي” أنه لن يحصل على ضوء أخضر روسي من أجل عمليته العسكرية في سوريا، فقد تم التحدّث عن كل التفاصيل بشكل واضح وصريح في قمة طهران”.
يشرح سيزير أن “المبادرة في الميدان السوري انتقلت من روسيا إلى إيران، بخاصة في ما يخص التحرّكات العسكرية التركية، لأنه نعلم أن عمليات عفرين وادلب ونبع السلام جاءت في سياق تفاهمات بين تركيا وروسيا، أي أن إيران كانت قد استُبعدت من مسار آستانا، وهو ما أزعجها، لكن روسيا باتت تأخذ إيران على محمل الجد، فقد غدت العلاقات الروسية – الإيرانية تأخذ مظهراً استراتيجياً على خلفية الحرب الأوكرانية، وإيران كما تركيا نافذة مهمة بالنسبة إلى روسيا نحو العالم الخارجي في ظل العقوبات المفروضة عليها، كما أنها تتخذ مواقف صارمة من الغرب مثلها”.
منذ العملية العسكرية التركية الأولى في سوريا، والتي أطلقتها أنقرة بعد 5 أسابيع فقط من محاولة الانقلاب في 15 تموز (يوليو) 2016، كانت العمليّات العسكريّة التركيّة تبدأ في غضون يومين أو ثلاثة أيام غداة حديث أردوغان عنها على أبعد تقدير. هذه المرة أعلن أردوغان عزمه إطلاق عمليّته العسكرية في 23 من أيّار (مايو) الفائت، ورغم مضي أكثر من شهرين على الإعلان إلا أن التحرك العسكري التركي لم يتحقق.
السبب الرئيسي خلف عدم شروع أردوغان بإطلاق عمليّته العسكرية في سوريا هو المعارضة الإيرانية – الروسية لها. شعرت أنقرة بالإهانة عندما أشار المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، لأردوغان إلى بعض الجماعات الجهادية التي تتلقى دعماً من تركيا كمنظّمات إرهابية من دون التطرق إلى “حزب العمال الكردستاني”، ناصحاً أردوغان بالتحدث مع الأسد.
أما بالنسبة إلى روسيا، فقد أثبتت موسكو عدم تهاونها أمام أي تحرّك تركي خارج إطار التنسيق الثنائي، عندما قامت بقصف أو التنسيق لقصف رتل عسكري تركي أدى إلى مقتل 34 جندياً تركياً في 27 شباط (فبراير) 2020، خلال عملية الجيش السوري العسكرية لاستعادة ريف إدلب الجنوبي.
في نهاية اجتماع سوتشي، جاء البيان المشترك بين الزعيمين على ذكر القتال سويّاً ضد كل أنواع التنظيمات الإرهابية في سوريا. لكن، حتى وإن حاولت أنقرة تصوير ذلك كاتفاق على عمليتها العسكرية، فإن تعريف “كل أنواع التنظيمات الإرهابية” يبدد ذلك التصوّر. فروسيا التي لا ترى في “حزب العمال الكردستاني منظّمة إرهابية، تعتبر جماعة “الإخوان المسلمين” أو بعض التنظيمات الجهادية التي تدعمها أنقرة ضد دمشق منظّمات إرهابية.
في المقابل فإن أردوغان في حاجة ماسة إلى تنفيذ عمليّته العسكرية ضد “قسد” و”وحدات حماية الشعب” التي يعتبرها أجنحة “العمال الكردستاني” السورية. فحسب سيزير “في حال فشل أردوغان في شن عمليّة عسكرية ضد طحزب العمال الكردستاني”، والتي تعتبر أهم رموز الوحدة الوطنية في تركيا وأساس تمكين القاعدة الشعبية في البلاد، فإن تقارباً تركياً مع دمشق وبالتالي تحديد خريطة طريق لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم يمكن أن يؤديا دوراً هاماً بالنسبة إلى أردوغان خلال التحضير للانتخابات المقبلة”.
ويضيف سيزير أن “أي تحرّك من قبل أردوغان في سوريا سيكسبه نقاطاً في الانتخابات، وفي المقابل فإن المصالحة تحقق مكاسب لدمشق أيضاً عبر التمهيد لانسحاب تركيا من المناطق التي تحتلها في سوريا، كما أن حكومتها تكتسب المزيد من الشرعية، وسيكون تطوراً هاماً في المجال الاقتصادي، وتمنح الأسد الساعي إلى موازنة النفوذ الإيراني بالروسي وبالعكس خياراً ثالثاً ما يسهّل عليه اقامة هذا التوازن”.
أما بالنسبة إلى إيران المنهكة جراء الحرب في سوريا التي استنزفت الكثير من طاقتها، فإنها بحسب سيزير “ترى في المصالحة السورية – التركية عامل ضغط اضافي على الوجود الأميركي في سوريا، والذي تعتبره تهديداً أمنياً وعسكرياً لها، كما أنها تعتقد أن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية لا يكتمل إلا من خلال إنجاز هذه المصالحة”.
ويختم سيزير، كاتب المقالات التحليلية في العديد من الصحف والمواقع السياسية التركية، حديثه بالقول: “رغم ذلك لا يمكنني القول إن خيار شن تركيا عملية عسكرية جديدة في سوريا قد تم إلغاؤه، لأن هذا الملف يعتبر مربحاً دائماً بالنسبة إلى الرأي العام التركي في فترات الانتخابات، لذا سيتم تسخينه بين الحين والآخر وتقديمه للرأي العالم التركي مجدداً. حتى أنّه سيتم ارسال تعزيزات للوحدات العسكرية التركية في سوريا، وذلك مرتبط في الأساس بالسياسة الداخلية”.
وأضاف: “لكن من المؤكد أن تركيا لن تحصل بعد اليوم على أي ضوء أخضر إيراني أو روسي من أجل عملية عسكرية واسعة في سوريا، لذلك فإن ملف العملية العسكرية لن يتّم طيّه مع استحالة القيام بها على نطاق واسع. وفي العموم فإن هذا خاضع لتقلّبات السياسة الداخلية في تركيا”.
المصدر: النهار العربي