محمود الوهب
لم تمض أسابيع قليلة على انفضاض قمة طهران الثلاثية، حتى تداعى طرفان منها، هما التركي والروسي، إلى عقد قمة ثانية في سوتشي، وبدا أن ثمة دواعي موجبة لديهما ليجتمعا، من أجل أن يتمكنا من إنجاز قضايا بينية لم تستطع القمة الأولى أن تبتّ فيها أو في بعضها على الأقل، فقد أظهرت ضعف وشائج التواصل والتفاهم بين أطرافها الثلاثة، وخصوصا في ما يتعلق بالعملية العسكرية التي تحضِّر لها تركيا منذ أشهر، لإبعاد قوات سورية الديمقراطية (قسد) عن حدودها مسافة 30 كيلومترا، ضمانًا لأمنها القومي، ولتحيِّد تلك الفجوات التي تديرها “قسد”، ولا يوجد في بعضها كُرد أبدًا (تل رفعت مثلاً وفي منبج عدد قليل)، ولأن العلاقات الروسية التركية تسير على صراط بالغ الرهافة، وبغضّ النظر عن إيجابية العملية التركية المزمعة أو سلبيتها، ينظر السوريون إلى شمال شرقي سورية بقلق زائد، فما يجري هناك نظام يتكرَّس على مستويات السياسة والثقافة والمجتمع والعسكرة، ما يؤدّي إلى شكل من أشكال العبث بالهوية السورية.
ولا تلبي “قسد” بقيادتها في جبل قنديل مطالب الكرد السوريين، فالأحزاب الكردية في سورية، على تنوعها وتعددها، لا ترى في “قسد” وقيادتها حزب العمال الكردستاني التركي أمناء على مصالح الكُرد السوريين، فهي تكوينٌ آخر ولها أهداف أخرى، فهو حزب تركي جعل له حافظ الأسد فرعًا في سورية ليستخدمه ضد أكراد سورية أولًا، وضد تركيا إن وجد إلى ذلك سبيلًا .. وإذا كانت “قسد”، من جهة ثانية، قد أقامت تحالفًا مع التنوع الديمغرافي القائم في الجزيرة السورية، فهو في واقع الحال مفرّغ من محتواه، فلا فاعلية للعنصر العربي الذي يشكل ما بين 65% – 70% بينما رموزه في قيادة “قسد” لا تقارب هذه النسبة، ولا تأثير لها في المعادلات السياسية أو العسكرية على الأرض، كذلك لا فاعلية لأيِّ مكون قومي أو ديني آخر.
وفي عودة إلى قمة سوتشي، لا بد من قراءتها في ضوء المصالح التي تحكم السياسة، وتتحكّم بها، فموسكو بحاجة ماسّة إلى تركيا التي تتخذ نهجًا استقلاليًا في عمق الصراعات الدولية الناشئة، ومن بينها الحرب على أوكرانيا، وقد استطاعت أن تحقّق نجاحًا في عدة مجالات، منها تصدير الحبوب الأوكرانية التي ستساهم في التخفيف من أزمة الغذاء العالمية التي حمَّلها العالم لروسيا، ما زاد في عزلتها السياسية .. ولعلَّ تركيا تسعى إلى عودة الروس والأوكرانيين إلى طاولة المفاوضات، وإنْ كان في ذلك صعوبة لارتباط الأوكرانيين بالأميركيين، ولأن أراضيهم لا تزال محتلة، ثم إن لتركيا مصالح مع روسيا تتعلق باستكمال إنشاء المحطة النووية، وبتصنيع جزئي لأنظمة المضادّات الجوية التي استوردتها من روسيا إس 400، وتعد تركيا مركزًا لاستقبال البضائع الروسية، وإعادة تصديرها، إضافة إلى خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية. وتستثمر تركيا في مشاريع متعدّدة لدى روسيا، إضافة إلى حركتي التجارة والسياحة بين البلدين.. ولدى الجانبين طموحات لرفع قيمة حجم المنافع المتبادلة إلى مائة مليار دولار، بحسب نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك. ورغم ذلك، بقي حل العملية العسكرية عالقًا، فرغم تأكيد بوتين وقوفه إلى جانب تركيا في مكافحة الإرهاب، إلا أنه ربط أمر العملية بالتعاون مع النظام السوري، فقال: “في حال سلكت تركيا طريق التعاون مع النظام في سورية لحل هذه المسائل (التنظيمات الإرهابية) فذلك سيكون أكثر صوابًا، طالما كان ممكنًا”. ولعلَّ تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، قبل أيام، يؤكد الاتجاه نفسه: “من الحق الطبيعي للنظام السوري أن يزيل التنظيم الإرهابي من أراضيه، لكن ليس من الصواب أن يرى المعارضة المعتدلة إرهابية”. وفي تصريحه إشارة إلى عقدة النظام الذي يعدُّ المعارضة كلّها إرهابًا، ولعلَّ ثمة إشارة إلى بعض التنظيمات التي لا تزال على قائمة الإرهاب الدولية.. وواضحٌ أن بوتين لا يريد من قوله تعويم النظام فحسب، بل يهدف إلى إغلاق الباب أمام مشاركة المجتمع الدولي، وتجاهل قرار مجلس الأمن 2254، ما دام ذلك المجتمع منشغلاً بالحرب الأوكرانية ونتائجها الآنية، ليس ذلك فحسب، بل يسعى بوتين إلى جعل الجميع في خدمة بشار الأسد، ليستمرّ حكمه إلى مرحلة مقبلة.. وعفا الله عن تدميرهما وبراميلهما ومجازرهما، وعن مساهمة الأسد الأساسية في صناعة الإرهاب، بدءًا من إرهاب الدولة الذي بدأه جيشه “الباسل” ضد المتظاهرين السلميين، وانتهاء باستعانته بالروس والإيرانيين، مرورًا بإفراجه عن المعتقلين المتطرّفين الذين كانوا قد أرسلوا إلى العراق.
ربما يعتقد بوتين أنه رمى رمية ذكية في اللعبة الدبلوماسية.. إذ تطرد أنقرة “قسد” بمساهمة النظام، وبعدئذ يستلم النظام الجزيرة السورية التي تعادل ثلث أراضي سورية، وثلاثة أرباع ثروتها، ومن حقّه الإشراف عليها، أليست أرضًا سورية، وهو رئيس شرعي في عُرْفِ الروس والإيرانيين..! أو أن مبادلة محددة قد تطاول ذلك التنظيم الذي تضمّنه تصريح وزير الخارجية التركي، ولكن هل تقبل تركيا بتقديم هذه الخدمة للنظام؟ ولماذا؟ وعلى أيِّ أساس؟ وما الذي تفعله بأربعة ملايين من السوريين داخل تركيا، ومثلهما تقريباً على حدودهما المشتركة؟ فهل يستلمهم النظام ومعظمهم مطلوب لأجهزته الأمنية؟
وإذا كانت لتركيا مصالح محدّدة مع روسيا، فإن مصالحها مع الدول العربية التي تعد سورية، على نحو أو آخر، بوابةً لها، أكثر وأكبر. وللدول العربية أيضاً وسورية منها، على وجه الخصوص، مصالح مهمة في الاستفادة من التنمية التركية على غير صعيد، وهكذا كانت العلاقات بين تركيا وسورية قبل العام 2011، كما كانت كذلك مع أكثر من بلد عربي.
ما استجد أخيرا في الشمال السوري من مظاهرات هو من أشكال الانفجار الأول الذي حصل عام 2011، وهو وإن جاء على أرضية قمّة بوتين أردوغان وتصريحات وزير الخارجية التركي، لا يعود إلى ما استجدّ من أمور سياسية، حُمِّلت أكثر مما تحتمل، وربما شحنتها توجهاتٌ لا تريد خيرًا للسوريين، بل يعود ما حدث، في جوهره، إلى عمق معاناة السوريين التي استطال زمنها، وما عكسته من أوجاع وآلام، مع إدارة ظهر العالم لها، وخصوصا الموكلين بها كالروس مثلًا، ففي الواقع المحرّر حالات فقْدٍ وفقْرٍ وتشرُّد ومعاناة، عكست مشكلات اجتماعية ونفسية متنوعة .. أما الأهم فهو الشرخ القائم بين نحو عشرة ملايين إنسان داخل تركيا وفي الشمال والشمالين الغربي والشرقي من سورية والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي يفترض أن يكون قائداً بحق لا لهؤلاء فقط، بل للسوريين كافة. كما أن أداء الحكومتين المؤقتة والإنقاذ ليس على المستوى المطلوب، ويزيد في ذلك تصرّفات الفصائل وإساءات بعض قادتها.. وعدم تمكّن المعارضة الرسمية من صياغة خطاب وطني يشمل السوريين كافة.. خطاب يفكّك شعار الحرية والكرامة الذي رفعه المحتجون الأوائل، ويعيد ترتيبه وفق مبادئ الديمقراطية التي لا تُقصي أحدًا، وهذا ما يجب أن تنكبَّ عليه طلائع السوريين.
المصدر: العربي الجديد