ويليام ماكاسكيل
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نحن الآن في بداية التاريخ. مقابل كل شخص على قيد الحياة اليوم، عاش عشرة أشخاص وماتوا في الماضي. ولكن، إذا نجا البشر ليعيشوا بقدر ما تعيش أنواع الثدييات في المتوسط، فإنه مقابل كل شخص على قيد الحياة اليوم، سيعيش ألف شخص في المستقبل. وسنكون نحن “القدماء”. وبمقياس الحياة البشرية النموذجية، فإن البشرية اليوم بالكاد طفل رضيع يكافح من أجل المشي.
على الرغم من أن مستقبل جنسنا البشري قد يكون طويلاً، إلا أنه ربما يكون عابرًا فحسب بالمقدار نفسه. ومن بين التطورات العديدة التي حدثت منذ صدور العدد الأول من هذه المجلة قبل قرن من الزمان، كان التطور الأكثر أهمية هو قدرة البشرية على إنهاء نفسها. من تغير المناخ إلى الحرب النووية، والأوبئة المهندَسة، والذكاء الاصطناعي غير المنضبط، وغيرها من التقنيات المدمرة التي لا يمكن التنبؤ بها بعد، يتآمر عدد مقلق من المخاطر للتهديد بنهاية البشرية.
قبل ما يزيد قليلاً على 30 عامًا، مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها، رأى بعض المفكرين المستقبل وهو يتكشف بطريقة أكثر هدوءاً بما لا يُقاس. كان خطر حلول نهاية العالم، الذي طاف بالغ الوضوح في مخيلة حقبة الحرب الباردة، قد شرع في الانحسار. بدا أن نهاية الشيوعية بعد بضعة عقود من هزيمة الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية قد حسمت الجدالات الأيديولوجية الرئيسية. سوف تنتشر الرأسمالية والديمقراطية ويسودان بلا هوادة. وقسَم المنظر السياسي، فرانسيس فوكوياما، العالم إلى مجتمعات “ما بعد تاريخية” و”تاريخية”. ربما تستمر الحرب في أجزاء معينة من العالم في شكل صراعات عرقية وطائفية، على سبيل المثال. لكن الحروب واسعة النطاق ستصبح شيئًا من الماضي مع انضمام المزيد والمزيد من الدول إلى أمثال فرنسا واليابان والولايات المتحدة على الجانب الآخر من التاريخ. وعرَض المستقبل طيفاً ضيقاً من الاحتمالات السياسية، حيث وعد بالسلام النسبي، والازدهار، والحريات الفردية متزايدة الاتساع بلا توقف.
لكن احتمال مستقبل أبدي للبشرية أخلى مكانه لرؤى للا-مستقبل على الإطلاق. ما تزال الأيديولوجيا خط صدع في الجغرافيا السياسية؛ وعولمة السوق آخذة في التفتت؛ وأصبح الصراع بين القوى العظمى أكثر احتمالاً باطراد. لكن التهديدات للمستقبل تظل أكبر من ذلك، مع احتمال القضاء على الجنس البشري كله. وفي مواجهة هذا الذهاب المحتمل إلى ثقب النسيان، يغلب أن يكون نطاق المناقشات في السياسة والسياسي أعرض نطاقاً في السنوات المقبلة مما كانت عليه منذ عقود. ما تزال النزاعات الأيديولوجية الكبرى بعيدة كل البعد عن التسوية. وفي الحقيقة، من المرجح أن نواجه أسئلة أكبر، وأن نضطر إلى النظر في مقترحات أكثر جذرية تعكس التحديات التي تفرضها التحولات والمخاطر المقبلة. وينبغي أن تتوسع آفاقنا لا أن تتقلص.
لعل الأهم من بين تلك التحديات هو كيف تدير البشرية المخاطر التي تسفر عنها عبقريتها الخاصة. يمكن أن يؤدي التقدم في الأسلحة والبيولوجيا والحوسبة إلى نهاية الأنواع، إما من خلال سوء الاستخدام المتعمد أو حادث عرَضي واسع النطاق. وتواجه المجتمعات مخاطر يمكن أن يشل حجمها الهائل أي عمل منسق. ولكن يمكن للحكومات، بل ويجب عليها، أن تتخذ خطوات ذات معنى اليوم لضمان بقاء نوعنا البشري من دون التخلي عن منافع التقدم التقني. في الحقيقة، سوف يحتاج العالم إلى الابتكار للتغلب على العديد من المخاطر الكارثية التي يواجهها فعلياً -تحتاج البشرية إلى أن تكون قادرة على توليد الطاقة النظيفة وتخزينها، والكشف عن الأمراض الجديدة عندما يكون ما يزال من الممكن احتواؤها، والحفاظ على السلام بين القوى العظمى من دون الاعتماد على توازن هش على أساس إمكانية الدمار المتبادل المؤكد الذي تمكّنه الأسلحة النووية.
بعيدًا عن أن يكون مكان استراحة آمنا، يشكل الراهن التقني والمؤسسي مأزقاً محفوفاً بالمخاطر تحتاج المجتمعات إلى الهروب منه. ولوضع الأساس لهذا الهروب، يجب على الحكومات أن تصبح أكثر وعيًا بالمخاطر التي تواجهها وأن تطور جهازًا مؤسسيًا قويًا لإدارتها. ويشمل ذلك تضمين اهتمام بأسوأ السيناريوهات في المجالات ذات الصلة من صنع السياسات وتبني فكرة تعرف باسم “التطور التقني التفاضلي” -كبح جماح العمل الذي يمكن أن يفرز نتائج خطيرة محتملة، مثل البحوث البيولوجية القابلة للتسليح، مع تمويل وتسريع تلك التقنيات التي يكون من شأنها أن تساعد على تقليل المخاطر، مثل مراقبة مياه الصرف الصحي للكشف عن مسببات الأمراض.
سوف يكون التحول الأكبر المطلوب تحولاً في المنظور. لقد نظر فوكوياما إلى المستقبل بطريقة حزينة بعض الشيء، ورأى مدى رمادياً غير دراماتيكي -لوحة حية للتكنوقراط. وكتب في العام 1989: “سوف تكون نهاية التاريخ وقتاً حزيناً للغاية”، يجري فيه استبدال “الجرأة والشجاعة والخيال والمثالية، بالحسابات الاقتصادية، ومحاولات الحل التي لا تنتهي للمشاكل التقنية، والمخاوف البيئية، وتلبية المطالب المعقدة والمتطورة للمستهلكين”. ولكن، في هذه البداية للتاريخ؛ هذا المنعطف الحرج من قصة الإنسانية، سيتطلب الأمر التحلي بالجرأة والخيال لمواجهة التحديات المختلفة المقبلة. وعلى النقيض مما توقعه فوكوياما، فإن الأفق السياسي لم يضق إلى حد يصعب حله. ما تزال التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهائلة ممكنة -وضرورية. وإذا تصرفنا بحكمة، فإن القرن المقبل سيتحدد بالاعتراف بما ندين به للمستقبل، وسوف ينظر أحفاد أحفادنا إلينا بامتنان وفخر. أما إذا أخفقنا، فإنهم قد لا يرون النور أبدًا.
أولئك الذين لم يأتوا بعد
يشير السجل الأحفوري إلى أن أنواع الثدييات تدوم في المتوسط نحو مليون عام. وبهذا المقياس، ستكون أمامنا نحو 700.000 سنة. وخلال هذا الوقت، حتى لو ظلت البشرية مقيدة بكوكب الأرض بمقدار عُشر سكان العالم الحاليين، فإن عشرة تريليونات شخص سيولدون في المستقبل.
كما أن نوعنا ليس من الثدييات العادية المتوسطة، وقد يكون البشر قادرين على الصمود والبقاء أكثر من أقاربهم. وإذا بقينا على قيد الحياة إلى أن تحرق الشمس المتوسعة الأرض، فإن البشرية ستستمر لمئات الملايين من السنين. وسوف يفصلنا زمن عن آخر أحفادنا أطول من الذي يفصلنا عن الديناصورات الأولى. وإذا استوطنّا في يوم من الأيام الفضاء -وهو احتمال يمكن تصوره بالكامل على نطاق آلاف السنين- فإن الحياة الذكية الناشئة عن الأرض يمكن أن تستمر حتى تحترق آخر النجوم بعد عشرات التريليونات من السنين.
بعيدًا عن كونه تمرينًا لقضاء الوقت في التلاعب بأعداد لا يمكن سبر غورها، فإن تقدير الحجم المحتمل لمستقبل البشرية أمر حيوي لفهم ما هو على المحك. يمكن أن تؤثر أفعالنا اليوم على ما إذا كان يمكن أن يعيش تريليونات من أحفادنا وكيف يمكن أن يعيشوا -ما كانوا سيعيشون مع الفقر أو الوفرة، أو الحرب أو السلام، أو العبودية أو الحرية- مما يضع مسؤولية مفرطة على أكتاف الراهن. وتتضح العواقب العميقة لمثل هذا التحول في المنظور من خلال تجربة مذهلة أجريت في بلدة “ياهابا” اليابانية الصغيرة. قبل مناقشة سياسة البلدية، طلُب من نصف المشاركين ارتداء أردية احتفالية وتخيُّل أنهم آتون من المستقبل، ويمثلون مصالح أحفاد المواطنين الحاليين. ولم يلاحظ الباحثون “تناقضاً صارخاً في أساليب المداولات والأولويات بين المجموعات فحسب”، بل كان الاهتمام بالأجيال المقبلة مُعدياً -من بين التدابير التي أمكن تحقيق توافق في الآراء بشأنها، تم اقتراح أكثر من نصفها من قبل الأحفاد المتخيلين.
قصة الإنسانية قد تنتهي قبل أن تبدأ حقًا
يكشف التفكير طويل المدى عن مقدار ما يزال يمكن للمجتمعات أن تحققه. قبل وقت لا يزيد على 500 عام، كان من غير القابل للتصور أن تتضاعف الدخول ذات يوم كل بضعة أجيال، وأن يعيش أغلب الناس لرؤية أحفادهم وهم يكبرون، وأن تكون الدول الرائدة في العالم مجتمعات علمانية يجري اختيار قادتها في انتخابات حرة. والآن قد لا تستمر البلدان التي تبدو دائمة جدًا لمواطنيها لأكثر من بضعة قرون. ولم يتكرر أي من أنماط التنظيم الاجتماعي المختلفة في العالم في التاريخ بشكل كامل. وسوف يحجب التركيز قصير الأجل على الأيام أو الأشهر أو السنوات إمكانية إحداث تغيير أساسي طويل الأجل.
تسلط حقيقة أن البشرية ما تزال في مهدها فحسب الضوء على أي مأساة هي التي قد يكونها موتها المفاجئ في غير أوانها. ثمة الكثير من الحياة المتبقية لتعيشها البشرية، لكنّ انتباهنا ينتقل، في شبابنا، بسرعة من شيء إلى آخر، ونسير متعثرين من دون أن ندرك أن بعض أفعالنا تعرضنا لخطر شديد. وتزداد قوانا يومًا بعد يوم، لكن وعينا الذاتي وحكمتنا يتخلفان في الوراء. وقد تنتهي قصتنا قبل أن تبدأ حقًا.
كيف يمكن أن ننهي التاريخ؟
على النقيض من “نهاية التاريخ” التي أعلنها فوكوياما، ركز مراقبون آخرون للشؤون الدولية على المعنى الحرفي للعبارة: احتمال هلاك البشرية جملة وتفصيلاً. وكانت مثل هذه الآراء سائدة بشكل خاص في فجر حقبة الحرب الباردة، بعد فترة وجيزة من تحقيق العلماء النوويين قفزة هائلة في الإمكانيات التدميرية للبشرية. وكما قال رجل الدولة البريطاني ونستون تشرشل في العام 1946 بحماس مميز: “قد يعود العصر الحجري على أجنحة العلم المتلألئة، وما قد يمطر البشرية الآن ببركات مادية لا حصر لها، ربما يجلب عليها حتى دمارها الكامل”. وبعد بضع سنوات، ردد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور صدى هذه المخاوف خلال خطاب تنصيبه الأول، الذي حذر فيه من أن “العلم يبدو مستعدًا لمنحنا، كهدية أخيرة، القدرة على محو الحياة البشرية من هذا الكوكب”.
إن التاريخ البشري مليء بالكوارث، من أهوال ”الموت الأسود” إلى أهوال العبودية والاستعمار. ولكن، باستثناء بعض الأحداث الطبيعية غير محتملة الحدوث إلى حد كبير، مثل ثوران البراكين الفائقة أو الشهب التي تتحطم على الكوكب، لم تكن هناك آليات معقولة يمكن للبشرية ككل أن تهلك من خلالها. في كتابه “الهاوية” The Precipice، قدر فيلسوف أكسفورد، توبي أورد، أنه حتى مع قبول جميع الافتراضات الأكثر تشاؤمًا، فإن المخاطر المتراكمة لانقراض يحدث بشكل طبيعي تظل توفر للبشرية عمرًا متوقعًا لا يقل عن 100 ألف عام.
ظهرت مخاوف جدية بشأن “الكارثة الوجودية” -التي عرّفها أورد بأنها التدمير الدائم لإمكانات البشرية- بشكل رئيسي في النصف الثاني من القرن العشرين، يداً بيد مع تسارع التقدم التقني. وكتب اللورد مارتن ريس، الرئيس السابق لـ”الجمعية الملكية”، في العام 2003 أن احتمالات بقاء البشرية على قيد الحياة في هذا القرن “ليست أفضل من 50-50”. وقدر أورد احتمال أن تمحو البشرية نفسها أو تُخرج مسار الحضارة عن سكته بشكل دائم عند واحد من ستة في غضون الأعوام المائة المقبلة. وإذا كان أي منهما على حق، فإن الطريقة الأكثر ترجيحًا التي يمكن أن يموت بها أميركي مولود اليوم وهو شاب هي حدوث كارثة منهية للحضارة.
حتى وقت قريب، كانت هناك طرق قليلة يمكن أن تهلك بها البشرية جمعاء
تعرض الأسلحة النووية العديد من الخصائص الحاسمة التي يمكن أن تمتلكها التهديدات التكنولوجية المستقبلية أيضاً. عندما اختُرعت في منتصف القرن العشرين، أحدَثت قفزة مفاجئة في القدرات التدميرية: كانت القنبلة الذرية أقوى بآلاف المرات من المتفجرات ما قبل النووية؛ وسمحت القنابل الهيدروجينية بإنتاج متفجرات أقوى بآلاف المرات مرة أخرى. وبالمقارنة مع وتيرة الزيادات في الطاقة التدميرية في العصر ما قبل النووي، فقد حدث 10.000 عام من التقدم في غضون بضعة عقود فقط.
كان من الصعب توقع هذه التطورات: فقد رفض الفيزيائي البارز، إرنست رذرفورد، فكرة الطاقة الذرية باعتبارها “هراء” في وقت متأخر نسبياً هو أواخر العام 1933، قبل عام واحد من حصول ليو زيلارد، وهو فيزيائي مشهور آخر، على براءة اختراع لفكرة مفاعل الانشطار النووي. وبمجرد وصول القنابل النووية، أصبح من الممكن إطلاق العنان للدمار إما عمدًا، كما حدث عندما دعا جنرالات الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة نووية أولى للصين خلال أزمة مضيق تايوان في العام 1958، أو عن طريق الخطأ، كما يتضح من السجل المروع للأخطاء في أنظمة الإنذار المبكر. بل إن الأسوأ من ذلك هو أن تدابير الدفاع ضد هجوم متعمد غالبًا ما جاءت على حساب زيادة خطر حدوث “هرمجدون” نووي عرَضي. ولنتأمل هنا، على سبيل المثال، نظام التأهب المحمول جوًا للولايات المتحدة: إنه قائم على مبدأ الإطلاق- عند- التحذير؛ أو نظام “اليد الميتة” السوفياتي، الذي ضمن أنه إذا تعرضت موسكو لهجوم نووي، فإنها ستشن تلقائيًا ردًا نوويًا شاملاً. ولم تغير نهاية الحرب الباردة هذه الحسابات المميتة تغييرًا جذريًا، وما تزال القوى النووية تضع التوازن بين السلامة واستعداد القوة في صميم سياساتها. وقد تفرض التقنيات المستقبلية مقايضات أكثر خطورة بين السلامة والأداء.
نهاية العالم قريباً
لكن الأسلحة النووية بعيدة كل البعد عن أن تكون المخاطر الوحيدة التي نواجهها. يمكن أن تكون العديد من التقنيات المستقبلية أكثر تدميرًا، أو أسهل من حيث إمكانية الحصول عليها لمجموعة أوسع من الجهات الفاعلة، أو تثير قدراً أكبر من المخاوف بشأن الاستخدام المزدوج، أو تتطلب عددًا أقل من الأخطاء للإيذان بانقراض جنسنا البشري -وبالتالي يكون ضبطها أصعب بكثير. وقد حدد تقرير حديث صدر عن “مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي” الذكاء الاصطناعي الجامح والأوبئة الهندسية وأسلحة تكنولوجيا النانو، إضافة إلى الحرب النووية، كمصادر لمخاطر وجودية- “التهديدات التي يمكن أن تضر بالحياة على نطاق عالمي”، و”تتحدى قدرتنا على تخيل وفهم نطاقها وحجمها المحتملين”.
خذ على سبيل المثال، الأوبئة المهندسة. كان التقدم المحرز في مجال التكنولوجيا الحيوية سريعًا للغاية؛ حيث انخفضت التكاليف الرئيسية، مثل تكاليف تسلسل الجينات، بشكل مطرد التسارع. ويعِد المزيد من التقدم في هذا الحقل بالعديد من الفوائد، مثل العلاجات الجينية للأمراض المستعصية حتى الآن. لكن المخاوف المتعلقة بالاستخدام المزدوج تخيم على الأفق بقوة: من حيث المبدأ، يمكن استخدام بعض الأساليب المستخدمة في البحوث الطبية لتحديد أو إنشاء مسببات لأمراض أكثر قابلية للانتقال والفتك من أي شيء موجود في الطبيعة. ويمكن القيام بذلك كجزء من المشاريع العلمية المفتوحة -حيث يقوم العلماء أحياناً بتعديل مسببات الأمراض لمعرفة كيفية مكافحتها- أو بنوايا أقل نبلاً في برامج الأسلحة البيولوجية الإرهابية أو التي تديرها الدولة. (ليست مثل هذه البرامج شيئًا من الماضي: فقد خلص تقرير لوزارة الخارجية الأميركية في العام 2021 إلى أن كلا من كوريا الشمالية وروسيا تحتفظان ببرنامج أسلحة بيولوجية هجومية). كما يمكن أيضاً إساءة استخدام الأبحاث المنشورة بنوايا خادمة للمجتمع من قبل الجهات الفاعلة السيئة، ربما بطرق لم يفكر فيها المؤلفون الأصليون أبدًا.
على عكس الأسلحة النووية، فإن البكتيريا والفيروسات تتكاثر ذاتياً. وكما أثبتت جائحة “كوفيد -19” بطريقة مأساوية، فإنه بمجرد أن يصيب عامل ممرض جديد إنسانًا واحدًا، قد لا تكون هناك طريقة لإعادة المارد إلى القمقم. وعلى الرغم من أن تسع دول فقط تمتلك أسلحة نووية -حيث تسيطر روسيا والولايات المتحدة على أكثر من 90 في المائة من جميع الرؤوس الحربية- إلا أن في العالم آلاف من المختبرات البيولوجية. ومن بين هذه، ثمة العشرات -المنتشرة في خمس قارات- التي تمتلك تراخيص للتجريب في أخطر مسببات الأمراض في العالم.
ولعل الأسوأ من ذلك كله حقيقة أن سجل السلامة في البحوث البيولوجية مقبض أكثر من سجل الأسلحة النووية. في العام 2007، تسرب مرض الحمى القلاعية، الذي ينتشر بسرعة في مجموعات الماشية ويمكن أن يسبب بسهولة خسارة مليارات الدولارات من الأضرار الاقتصادية، ليس مرة واحدة وإنما مرتين من المختبر البريطاني نفسه في غضون أسابيع، حتى بعد تدخل الحكومة. وأدت التسربات المختبرية فعلياً إلى التسبب بخسائر في الأرواح البشرية، كما حدث عندما هربت الجمرة الخبيثة المسلحة من مصنع مرتبط ببرنامج الأسلحة البيولوجية السوفياتي في سفيردلوفسك في العام 1979، مما أسفر عن مقتل العشرات من الناس. ولعل الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو أن الأدلة الجينية تشير إلى أن جائحة “الانفلونزا الروسية” التي حدثت في العام 1977 ربما نشأت في تجارب بشرية شملت سلالة إنفلونزا قديمة كانت قد انتشرت في الخمسينيات. وأدت الجائحة إلى وفاة نحو 700 ألف شخص.
في الإجمال، حدثت مئات الإصابات العرَضية في المختبرات الأميركية وحدها؛ مع وقوع إصابة واحدة لكل 250 شخصاً في السنة من العمل المختبري. وبما أن هناك العشرات من المختبرات عالية الحراسة في العالم، التي يعمل في كل منها العشرات، وربما المئات، من العلماء وغيرهم من العاملين، فإن هذا المعدل يرقى إلى عدد متضاعف من الإصابات العرضية سنويًا. ويجب على المجتمعات أن تخفض هذا المعدل بدرجة كبيرة. وإذا بدأت هذه المرافق في أي وقت في العبث بمسببات الأمراض على مستوى الانقراض، فإن النهاية المبكرة للبشرية ستكون مسألة وقت فحسب.
الحكم في نهاية العالم
على الرغم من هذا المستوى المتزايد من المخاطر، فإنه ليس من المؤكد على الإطلاق أن البشرية ستكون قادرة على اتخاذ الخطوات اللازمة لحماية نفسها. في الواقع، هناك العديد من العقبات التي تحول دون التخفيف من المخاطر بما يكفي.
القضية الأكثر جوهرية مألوفة بشكل مؤلم: نضالات دبلوماسية المناخ في السنوات الأخيرة. عند حرق الوقود الأحفوري، تجني البلدان الفردية معظم الفوائد، لكن البلدان الأخرى والأجيال المقبلة ستتحمل معظم التكاليف. وبالمثل، فإن الانخراط في إجراء البحوث البيولوجية المحفوفة بالمخاطر ينطوي على وعد اكتشاف أدوية تحصل على براءة اختراع، يمكن أن تعزز اقتصاد البلد وهيبته -لكن عاملاً مُمرِضاً يتم إطلاقه عن طريق الخطأ في ذلك البلد لن يحترم الحدود. وبلغة خبراء الاقتصاد، فإن فرض مخاطرة على المستقبل هو تمكين لمؤثر خارجي سلبي، في حين أن توفير تدابير للحد من المخاطر، مثل إنشاء نظام للإنذار المبكر من الأمراض الجديدة، هو منفعة عامة عالمية. (لنتأمل هنا كيف كان العالم بأسره ليستفيد لو تم احتواء ”كوفيد -19”، مثلما تم احتواء الـ”سارس” بين العامين 2002 و2004، بإبقائه ضمن عدد صغير من البلدان ثم القضاء عليه). هذا هو بالضبط نوع الخير الذي لن توفره السوق ولا النظام الدولي بشكل افتراضي لأن لدى البلدان حوافز قوية للركوب المجاني على مساهمات الآخرين.
لدى البشرية عدد من السبل للهروب من هذه المأساة الهيكلية. لتهدئة المخاوف بشأن فقدان الأرضية في الكفاح من أجل الأمن، يمكن للبلدان أن تدخل في اتفاقات للامتناع جماعياً عن تطوير تقننيات بالغة الخطورة مثل الأسلحة البيولوجية. وكبديل، يمكن لائتلاف من الراغبين أن يلتئم لتشكيل ما أسماه الاقتصادي ويليام نوردهاوس “نادياً”. وسوف يساعد أعضاء نادٍ من هذا القبيل بشكل مشترك في توفير المنفعة العامة العالمية التي تم إنشاء النادي لتعزيزها. وفي الوقت نفسه، يلتزم هؤلاء الأعضاء بتوفير الفوائد لبعضهم بعضا (مثل النمو الاقتصادي أو السلام)، مع فرض تكاليف (من خلال تدابير مثل التعريفات الجمركية) على غير الأعضاء، وبالتالي إغرائهم بالانضمام. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تستند مثل هذه النوادي إلى وضع معايير للسلامة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، أو الوقف الاختياري للبحوث البيولوجية المحفوفة بالمخاطر.
هناك طرق للهروب من المأساة الهيكلية
من المؤسف أن عودة ظهور المنافسة بين القوى العظمى تلقي بظلال من الشك على احتمال تحقق مثل هذه المآثر في التعاون العالمي. والأسوأ من ذلك هو أن التوترات الجيوسياسية يمكن أن تجبر الدول على قبول مستوى متزايد من المخاطر على العالم -وعلى نفسها- إذا رأت في ذلك مقامرة تستحق خوضها لتعزيز مصالحها الأمنية. (في السنوات الثماني التي أبقت خلالها الولايات المتحدة قاذفاتها في حالة تأهب جوي مستمر، تحطمت خمس طائرات بينما كانت تحمل حمولات نووية). وإذا قام حتى برنامج الأسلحة البيولوجية في دولة واحدة بتجربة مسببات للأمراض من المستوى المتسبب بالانقراض -ربما في سياق سعي أحمق إلى تطوير الردع النهائي- فإن الحادث المخبري التالي يمكن أن يعجل بوباء عالمي أسوأ بكثير من “كوفيد -19″.
في أسوأ الأحوال، يمكن للقوى العظمى، في صراعها من أجل الهيمنة العالمية، أن تلجأ إلى الحرب الصريحة. وبالنسبة للأشخاص الذين نشأوا في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، قد تبدو هذه الفكرة بعيدة المنال. وقد روج عالم النفس، ستيفن بينكر، للادعاء بأن العنف -بما في ذلك بين الدول- آخذ في الانخفاض منذ فترة طويلة. ومع ذلك، فإن التحليل اللاحق الذي أجراه عالم السياسة بير برومولر وآخرون، عقَّد الصورة بشكل كبير.
اقترح الباحثون أن شدة الصراع يبدو أنها تتبع مما يعرف باسم “قانون القوة”، ما يعني أنه بعد فترة من السلام النسبي، من الممكن تماماً أن تعود الحرب في تجسد أكثر فتكًا. وقد أشارت حسابات عالم الحاسوب، آرون كلاوزيت، إلى أن “السلام الطويل” الذي أعقب الحرب العالمية الثانية سيحتاج إلى الصمود لقرن آخر قبل أن يصبح دليلاً مهماً على انخفاض فعلي طويل الأجل لنزعة الحرب. وأكد برومولر أنه “ليس من المستبعد على الإطلاق أن تنشب حرب أخرى تتجاوز الحربين العالميتين في الفتك أثناء حياتك”، مشيرًا إلى أنه في ختام كتابه حول هذا الموضوع “فكَّرتُ لوهلة في كتابة: ’كلنا سوف نموت‘، وترْك الأمور عند هذا الحد”.
سوف يكون درء خطر نشوب حرب عالمية ثالثة مع تحقيق ابتكارات غير مسبوقة في الحوكمة الدولية مُرتقاً صعباً. لكن هذا، شئنا أم أبينا، هو التحدي الذي نواجهه.
الابتكار من أجل البقاء
يتمثل أحد الاستجابات لهذا التحدي المروع في التراجع. إذا كان من الصعب للغاية التحكم بأمان في التقنيات الناشئة، كما يجادل البعض، فلماذا لا نمتنع ببساطة عن اختراعها في المقام الأول؟ يعتنق أعضاء حركة “تراجع النمو” هذا الموقف على وجه التحديد، منتقدين النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي باعتبارهما الجناة الرئيسيين وراء التغريب، وتدمير البيئة، وجميع أنواع الأضرار الأخرى. وفي العام 2019، وقع 11 ألف عالِم من أكثر من 150 دولة رسالة مفتوحة يطالبون فيها بـ”العمل على استقرار سكان الكوكب، وفي الوضع المثالي خفضهم تدريجياً”، وبأن تقوم الدول بتحويل أولوياتها بعيدًا “عن نمو الناتج المحلي الإجمالي”. وعلى الرغم من جاذبيتها البديهية، فإن هذه الاستجابة تبقى غير واقعية وخطيرة. إنها غير واقعية لأنها تفشل ببساطة في التعامل مع الاعتمادية المتبادلة للدول في النظام الدولي. وحتى لو اجتمعت دول العالم مؤقتًا لوقف الابتكار، فإن أحداً ما سوف يستأنف، عاجلاً أم آجلاً، السعي وراء التكنولوجيا المتقدمة.
على البشرية تجنب مصير إيكاروس (1) -وإنما مواصلة الطيران
مهما يكن، فإن الركود التكنولوجي غير مرغوب فيه على أي حال. ولمعرفة السبب، لاحظ أن التقنيات الجديدة يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المخاطر أو تقليلها على حد سواء. بمجرد ظهور خطر تكنولوجي جديد -مثل ذلك الذي تشكله الأسلحة النووية- قد تحتاج الحكومات إلى تقنيات إضافية لإدارة هذا الخطر. وعلى سبيل المثال، سوف يقل مستوى التهديد الذي تشكله الأسلحة النووية على بقاء الجنس البشري إلى حد كبير إذا تمكن الناس، خلال شتاء نووي محتمل، من إنتاج الغذاء من دون أشعة الشمس، أو إذا تمكنت نظم الإنذار المبكر من التمييز بشكل أكثر موثوقية بين الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ العِلمية الصغيرة. ولكن، إذا أوقفت المجتمعات التقدم التكنولوجي تمامًا، فقد تظهر تهديدات تقنية جديدة لا يمكن احتواؤها لأنه لم يتم قطع خطوات متناسبة في مجال الدفاع. على سبيل المثال، قد تتمكن طائفة واسعة من الجهات الفاعلة من خلق مسببات أمراض خطيرة بشكل غير مسبوق في وقت لم يحرز فيه الناس تقدمًا كبيرًا في الكشف المبكر عن الأمراض الجديدة والقضاء عليها.
بعبارات أخرى، يبقى الوضع الراهن ملغّماً مسبقاً وبكثافة بالكوارث المحتملة. وفي غياب التدابير الدفاعية، قد تؤدي التهديدات من الطبيعة في نهاية المطاف إلى انقراض البشر، كما فعلت مع العديد من الأنواع الأخرى: من أجل البقاء على قيد الحياة بكامل إمكاناتهم، سوف يحتاج البشر إلى تعلم اجتراح مآثر من نوع تحويل وجهة الكويكبات المتجهة إلى الأرض، ومكافحة الأوبئة الجديدة الناشئة بسرعة. يجب عليهم تجنب مصير إيكاروس -لكنَّ عليهم أن يظلوا قادرين على الطيران.
يتمثل التحدي الآن في مواصلة جني ثمار التقدم التكنولوجي بينما تتم حماية البشرية من سلبياته. ويشير بعض الخبراء إلى هذا باسم “التطور التقني التفاضلي”، والفكرة هي أنه إذا لم يتمكن الناس من منع التكنولوجيا المدمرة أو الحوادث من الحدوث في المقام الأول، فيمكنهم على الأقل، بالبصيرة النافذة والتخطيط الدقيق، محاولة تطوير تقنيات مفيدة ووقائية أولاً.
إننا منخرطون فعلياً في لعبة ما أسماه ريتشارد دانزيغ، وزير البحرية الأميركي السابق، “الروليت التكنولوجي”. ولم يتم إطلاق أي رصاصة حتى الآن، لكن هذا لا يغير من مدى خطورة اللعبة. ثمة العديد من اللفات الأخرى حيث يتم الضغط على الزناد في المستقبل: سيكون وقوع حادث سيئ، وربما قاتل، أمراً لا مفر منه ما لم يغير نوعنا اللعبة.
ما ندين به للمستقبل
ثمة، حتى الآن، عوز في العوامل التي تغير قواعد اللعبة. وبالنظر إلى ما هو على المحك، فإن المجتمعات لم تفعل حتى الآن سوى القليل بشكل فاضح لحماية مستقبلها. ولنتأمل هنا، على سبيل المثال، “اتفاقية الأسلحة البيولوجية”، التي تحظر تطوير الأسلحة البيولوجية وتخزينها وحيازتها. وقد وصفها خبير الأمن القومي، دانيال جيرشتاين بأنها “أهم معاهدة للحد من التسلح في القرن الحادي والعشرين”، لكنها تفتقر إلى آلية للتحقق، وميزانيتها تتضاءل أمام ميزانية “حفل ميت غالا” (2). وكما لو أن هذا ليس مهزلة بما يكفي، تكافح اتفاقية الأسلحة البيولوجية لجمع حتى المساهمات الضئيلة المستحقّة لديها -أعرب تقرير صدر في العام 2018 عن رئيس الاتفاقية عن أسفه “للحالة غير المستقرة والمتدهورة للوضع المالي لاتفاقية الأسلحة البيولوجية… بسبب عدم سداد بعض الدول الأطراف الاشتراكات المقررة منذ أمد بعيد”.
كما أن إدارة المخاطر غير البيولوجية لا توحي بالثقة أيضًا. ما تزال البحوث التي تهدف إلى منع فقدان السيطرة على أنظمة الذكاء الاصطناعي مجرد شذرة ضئيلة من إجمالي بحوث تطوير الذكاء الاصطناعي. وتستخدم الجيوش أسلحة فتاكة ذاتية التشغيل في ساحة المعركة، في حين توقفت الجهود المبذولة للحد من هذا النوع من أنظمة الأسلحة لسنوات في الأمم المتحدة. ولا يبدو الوضع المحلي أفضل بكثير -ثمة أقل من واحد في المائة من ميزانية الدفاع الأميركية مخصص للدفاع البيولوجي، والتي يذهب معظمها إلى صد الأسلحة الكيميائية مثل الجمرة الخبيثة. وحتى بعد أن قتل “كوفيد -19″ واحدًا من كل 500 شخص في العالم وألحق أضرارًا اقتصادية هائلة تقدر قيمتها بنحو 16 تريليون دولار في الولايات المتحدة وحدها، لم يتمكن الكونغرس من التوافق على تخصيص مجرد 15 مليار دولار متواضعة لتعزيز الاستعداد للجوائح.
ما يزال هذا النوع من الحد من المخاطر مهملاً للغاية، حتى أن فرص التغيير الإيجابي وفيرة. وإحدى قصص النجاح في التخفيف من المخاطر الوجودية هي برنامج “حارس الفضاء” Spaceguard التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا). بتكلفة أقل من 5 ملايين دولار سنويًا، بين إنشائه في العام 1998 والعام 2010، تعقب العلماء أكثر من 90 في المائة من الكويكبات المهدِّدة بالانقراض، في عملية تزيد من دقة توقعاتهم وتقلل من أفضل تقدير لخطر اصطدام كويكب بالأرض بعامل عشرة. ولنلاحظ أيضاً أن الحكومة الأميركية أنفقت خلال جائحة “كوفيد -19” مبلغ 18 مليار دولار على عملية “السرعة الفائقة” Warp Speed لتسريع تطوير اللقاحات. وأسفر البرنامج عن إنتاج لقاحات آمنة وفعالة تمكنت الولايات المتحدة ودول أخرى من شرائها بسعر يشكل جزءًا صغيرًا من الفوائد الاجتماعية للقاحات، التي قُدر أنها تصل إلى عشرات التريليونات من الدولارات. وقدر الخبير الاقتصادي روبرت بارو بأنه بين أيلول (سبتمبر) 2021 وشباط (فبراير) 2022، أنقذت هذه اللقاحات أرواح الأميركيين بتكلفة تتراوح بين 55.000 و200.000 دولار لكل منها، أي أكثر من 20 مرة فوق عتبة فعالية التكلفة التي تحتاج سياسات إنقاذ الحياة عادة إلى الوفاء بها.
وإذا ما وفرت أفضل وألمع الروافع في العالم والحكومات أو القطاع الخاص التمويل، سوف يمكننا تحقيق نجاحات أكثر إثارة للإعجاب. على سبيل المثال، على الرغم من أنه ما يزال يتعين عليها التغلب على العقبات التقنية الرئيسية، فإن دراسات التسلسل الميتاجينومي (3) واسعة النطاق لمياه الصرف الصحي ستساعد على الكشف عن الأمراض الجديدة في مرحلة ما يزال من الممكن فيها احتواؤها والقضاء عليها. ويسعى “مرصد الأحماض النووية”، ومقره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى تحقيق هذه الرؤية بالتحديد. ويجب على القطاعين العام والخاص أيضًا تطوير معدات حماية شخصية أفضل وإجراء المزيد من البحوث في تكنولوجيا التعقيم مثل Far UVC -وهي عملية تأيين بالإشعاع، والتي إذا نجحت، يمكن أن توفر دفاعًا شبه كامل ضد مسببات الأمراض يمكن تثبيتها في أي مبنى. وفيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، يجب توسيع نطاق البحوث الرامية إلى جعل الأنظمة آمنة وموثوقة عشرة أضعاف. والخيط الناظم الذي يمر عبر تدابير كهذه هو التركيز على الاستراتيجيات الدفاعية التي لا تخلق في حد ذاتها مخاطر أخرى أو تعززها.
كما أن التقدم ممكن أيضًا في مجالات أخرى. وسيكون جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها بهدف الوصول إلى المصادر المعروفة للمخاطر واسعة النطاق أمرًا بالغ الأهمية. وعلى الرغم من أن تحقيق اليقين الكامل أمر مستحيل (قال عالم الفلك، كارل ساغان، ذات مرة: “النظريات التي تتضمن بحث نهاية العالم ليست قابلة للتحقق التجريبي -أو على الأقل، ليس أكثر من مرة واحدة”)، فإن مسح بما يلوح في الأفق والتنبؤ به يمكن أن يساعد على تحديد مكامن القلق الجديدة. وفي هذا السياق، من المشجع أن أحدث تقرير عن “الاتجاهات العالمية” الصادر عن “مجلس الاستخبارات الوطني” تضمن مناقشة لمفهوم المخاطر الوجودية، داعياً إلى “تطوير استراتيجيات مرنة من أجل البقاء على قيد الحياة”.
يتعين على المزيد من الحكومات، والمؤسسات، والشركات أن تأخذ مثل هذه الأفكار على محمل الجد. وسيكون الإصلاح التنظيمي مهماً أيضاً. في كتابه “تجنب الكارثة” Averting Catastrophe، أظهر كاس صنشتاين، الرئيس السابق للمكتب التنظيمي في البيت الأبيض، كيف أن النهج الحالي للحكومة في تحليل التكاليف والفوائد لا يمكن أن يفسر بشكل كاف المخاطر الكارثية المحتملة. وجادل صنشتاين بما أسماه “مبدأ الحد الأقصى”: في مواجهة المخاطر الشديدة بما يكفي -والانقراض البشري مؤهل بالتأكيد ليكون بينها- يجب على الحكومات التركيز على تجنب أسوأ النتائج. وكما يحدث، يقوم البيت الأبيض حالياً بتحديث إطاره لمراجعة اللوائح. وعليه أن يغتنم هذه الفرصة لجعل نهجه في التعامل مع المخاطر منخفضة الاحتمال للأضرار الشديدة متناسباً مع القرن الحادي والعشرين، سواء من خلال تبني مبدأ الحد الأقصى الذي اقترحه صنشتاين أو شيء مماثل يأخذ المخاطر الكارثية العالمية على محمل الجد.
نحن واحد من الأجيال الأولى للتاريخ
تنبأ فوكوياما “بقرون من الملل في نهاية التاريخ”. ولا شيء يمكن أن يكون أبعد من هذا عن واقع الحال. سوف تشكل التكنولوجيات القوية والمدمرة تحديًا غير مسبوق للنظام السياسي الحالي. ويمكن أن يقوض الذكاء الاصطناعي المتقدم توازن القوى القائم بين الأفراد والدول: سوف تعطي القوى العاملة المؤتمتة بالكامل الحكومات سببًا ضئيلاً لمعاملة مواطنيها بشكل جيد؛ ويمكن لديكتاتورية تمتلك جيشًا وقوة شرطة من الذكاء الاصطناعي أن تمنع إمكانية حدوث انتفاضة أو انقلاب. ويمكن للحكومة استخدام احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة كسبب لتوسيع الدولة وقمع الحريات الفردية مثل حرية التعبير على أساس حماية الأمن القومي. ويمكن استخدام إمكانية تطوير أسلحة بيولوجية يسهل الوصول إليها لتبرير المراقبة الشاملة.
مع وضع مستقبل البشرية في الذهن، علينا أن نقاوم مثل هذه الضغوط. يجب أن نكافح لضمان أن يكون لدينا مستقبل، وأن يكون مستقبلاً يستحق أن يُعاش. لقد خلق التحول الثقافي نحو الليبرالية على مدى القرون الثلاثة الماضية محركًا للتقدم الأخلاقي، أدى إلى انتشار الديمقراطية وإلغاء العبودية وتوسيع الحقوق للنساء والملونين. لا يمكن إيقاف تشغيل هذا المحرك الآن. وإذا كان ثمة شيء، فهو أننا في حاجة إلى الذهاب أبعد من ذلك بكثير في تعزيز التنوع الأخلاقي والسياسي والتجريب. وبالنظر آلاف السنين إلى الوراء، يرى الحداثيون ممارسات الرومان، من حيازة العبيد، والتعذيب من أجل الترفيه، والنظام الأبوي المتطرف، على أنها بربرية. وربما تنظر الأجيال المقبلة إلى العديد من ممارساتنا الحالية على أنها أفضل بعض الشيء.
لذلك يجب أن نسير على حبل مشدود. يجب أن نضمن أن يقلل التعاون العالمي من مخاطر الكوارث العالمية إلى ما يقرب من الصفر، مع الحفاظ على حرية وتنوع الفكر والهياكل الاجتماعية التي يكون من شأنها أن تمكننا من بناء مستقبل يشكرنا عليه أحفاد أحفادنا. إن التفكير في تغيير سياسي واسع النطاق هو أمر شاق، لكنَّ ابتكارات الماضي في مجال الحكم، مثل منظومة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، توفر أسباباً للأمل.
لسنا معتادين على رؤية أنفسنا كواحد من الأجيال الأولى للتاريخ. ونحن نميل إلى التركيز على ما ورثناه من الماضي، وليس ما يمكن أن نورثه للمستقبل. وهذا خطأ. لمعالجة المهمة الماثلة أمامنا، يجب أن نفكر ملياً في المكان الذي نقف فيه في السلالة البشرية الكاملة. ونحن في الوقت الحاضر نقامر بتهور، ليس بحياتنا وحياة أطفالنا بحسب، ولكن بوجود جميع الذين لم يأتوا بعد. دعونا نكن آخر جيل يفعل ذلك.
* ويليام ماكاسكيل William MacAskill: أستاذ مشارك في الفلسفة في جامعة أكسفورد وزميل باحث أول في “معهد الأولويات العالمية” Global Priorities Institute. وهو مؤلف الكتاب المقبل ”ما ندين به للمستقبل” What We Owe the Future.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Beginning of History: Surviving the Era of Catastrophic Risk
هوامش المترجم:
(1) إيكاروس Icarus، في الميثولوجيا اليونانية، ابن دايدالوس. تحكي أسطورة يونانية قصة إيكاروس، الذي كان محتجزاً هو وأبوه في متاهة جزيرة “كريت” عقابًا لهما من “مينوس”، ملك الجزيرة. وللهرب من عقاب مينوس، استعان الاثنان بأجنحة ثبّتاها على ظهريهما بالشمع. وأثناء هروبه من منفاه في المتاهة، حلّق الابن إيكاروس قريبًا من الشمس متجاهلاً نصيحة والده، فهوى صريعًا بعد أن أذابت أشعة الشمس الشمع المثبّت لجناحيه.
(2) حفل ميتا غالا Met Gala، أو “ميت بول” Met Ball، الذي يُطلق عليه رسميًا اسم “حفل معهد الأزياء”، هو حفل سنوي لجمع التبرعات يُقام لصالح “معهد متروبوليتان لفنون الأزياء” في مدينة نيويورك. يُنظر إليه عمومًا على أنه حدث الأزياء الأكثر شهرة في العالم، ويسعى الكثيرون بشدة للحصول على دعوة. تتم دعوة المشاهير من مختلف المجالات المهنية، بما في ذلك نجوم الموضة والأفلام والتلفزيون والمسرح والموسيقا والأعمال والرياضة ووسائل التواصل الاجتماعي والسياسة، إلى الحفل الذي تنظمه مجلة الموضة “فوغ” Vogue.
(3) الميتاجينومية metagenomics: هي دراسة المادة الوراثية المستخرجة مباشرة من العينات البيئية. يمكن الإشارة إلى المجال الواسع أيضًا باسم “الجينوم البيئي” أو الجينوميات المجتمعية. في حين أن علم الأحياء المجهرية التقليدية وتسلسل الجينوم الميكروبي وعلم الجينوم يعتمدان على الثقافات المستنسخة المزروعة، فإن تسلسل الجينات البيئية المبكرة يستنسخ جينات معينة لإنتاج لمحة عن التنوع في عينة طبيعية. وكشف هذا العمل أن الغالبية العظمى من التنوع البيولوجي الميكروبي ضاعت من خلال الأساليب القائمة على الزراعة. تقدم الميتاجينومية عدسة قوية لمشاهدة العالم الميكروبي الذي لديه القدرة على إحداث ثورة في فهم العالم الحي بأكمله. ومع استمرار انخفاض سعرأدوات تعقب تسلسل الحمض النووي، تسمح الميتاجينوميات الآن بالتحقيق في علم البيئة الجرثومية على نطاق وتفصيل أكبر بكثير من ذي قبل.
المصدر: (فورين أفيرز)/ الغد الأردنية