سامر إلياس
في ضربة هي الأقسى للجيش الروسي منذ قرار الانسحاب من محيط العاصمة الأوكرانية كييف نهاية مارس/ آذار الماضي، استطاع الجيش الأوكراني في غضون أيام قليلة تحرير أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع من المناطق التي احتلتها روسيا في مقاطعة خاركيف (شرق).
وأقرت وزارة الدفاع الروسية بالنكسة، ولكنها بررتها على أنها عملية “إعادة انتشار” القوات الروسية في منطقة دونباس. ومع الانهيار السريع للجيش الروسي في هذه المنطقة، بدا واضحاً أنه ما زال يعاني من مشكلات على الصعيد العملياتي والتكتيكي إضافة إلى موضوع اللوجستيات، ما يفتح المجال أمام تقدم إضافي للجانب الأوكراني في عدة جبهات.
وفي حال استطاعت أوكرانيا تثبيت تقدمها في خاركيف والتقدم في جبهات أخرى، فمن غير المستبعد حصول تغييرات كبيرة في قيادات الجيش الروسي التي تدير الحرب على أوكرانيا، وقد تمتد إلى قيادات أعلى في وزارة الدفاع.
كما أن التقدم الأوكراني يحرج الكرملين والقيادات السياسية الروسية التي كانت تراهن على عملية عسكرية خاطفة طالت لأكثر من 200 يوم، وقد يفتح على تغييرات كبيرة في مراكز صنع القرار. ومع زيادة القناعة بأنه لا يمكن إلحاق ضربة قاتلة بأوكرانيا، وزيادة خسائر الطرف الروسي فالأرجح أن يتراجع الدعم الشعبي في روسيا للحرب.
من غير المستبعد حصول تغييرات كبيرة في قيادات الجيش الروسي التي تدير الحرب على أوكرانيا، وقد تمتد إلى قيادات أعلى في وزارة الدفاع
ومن أجل المحافظة على صورته، لا يمكن استبعاد أن يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى خيارات قاسية، ليس أقلها زيادة عدد القوات واتباع سياسة الأرض المحروقة في خاركيف وغيرها من المناطق البعيدة نسبياً، لرفع الكلفة على المواطنين الأوكرانيين الداعمين لجيشهم.
وقد يذهب بوتين إلى تجميد اتفاق تصدير الحبوب أو عدم التمديد له، كما سيواصل الضغط على أوروبا عبر استخدام سلاح الطاقة و”اللعب على حافة الهاوية” قرب محطة زابوريجيا للطاقة النووية، لترهيب أوروبا وإجبارها على وقف دعم أوكرانيا بالسلاح والمال.
خريطة التقدم الأوكراني
وتبدّلت خريطة السيطرة في خاركيف ومحيطها بشكل لافت في الأيام الأخيرة، خصوصاً مع استعادة أوكرانيا مدينتي كوبيانسك وإيزيوم الاستراتيجيتين. وتُعدّ الأولى مركزاً رئيسياً لخطوط المواصلات، سكك الحديد تحديداً، بين بيلغورود الروسية ودونباس (يضمّ إقليمي لوغانسك ودونيتسك).
أما الثانية فاستخدمها الروس سابقاً لشنّ الهجمات باتجاه الشمال، فضلاً عن عرقلة طريق الإمداد للقوات الأوكرانية بين مدينة خاركيف ومدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك خصوصاً. وتسمح السيطرة على إيزيوم باستئناف التحرك نحو الجنوب والشرق باتجاه زابوريجيا وإقليم دونيتسك.
وبالإضافة إلى كوبيانسك وإيزيوم فقد استرد الأوكرانيون في الهجوم الأخير في الشرق أكثر من 30 بلدة ومدينة، ومنها بايراك وبالاكليا وبوريفسكي وبورشيفكا وبراجكيفكا وشكالوفسكي ودفوريشنا وكريفشاريفكا وكوجاشا لوبان وليبتسي ونوفا هوساريفكا وأوسكيل وروبيجني وسافينتسي وشيفشنكوف وترنوفا وأودي وفيليكيي بورلوك وفوفشانسك وياكوفنكوف وياريميفكا وأوزيرني وستاريي كارافان وبيلوهوريفكا. أما في الجنوب، فاستردوا كوسترومكا وليوبيمفكا وميروليوبيفكا وأولهيني وفيسوكوبليا، وكلها في مقاطعة خيرسون.
وأشاد حاكم منطقة خاركيف أوليغ سين أوليه سينيهوبوف، بأداء الجنود الأوكرانيين، وذكر في قناته على “تيليغرام”، صباح اليوم الاثنين، أنه “في بعض مناطق الجبهة، وصل المدافعون عنا إلى حدود الدولة مع الاتحاد الروسي”، وقبلها بقليل أعلن الجيش الأوكراني في إفادته الصحافية اليومية، استعادة “أكثر من 20 بلدة” خلال 24 ساعة في إطار هجومه المضاد على الجيش الروسي.
وذكرت وزارة الدفاع الأوكرانية في إفادتها أن الجيش الروسي يركز على فرض سيطرته على مقاطعة دونيتسك، وذكرت أن الروس تكبدوا خسائر فادحة، وأشارت إلى أن قرابة 85 في المائة من عناصر اللواء 810 البحري الروسي قُتلوا في المعارك التي زجوا بها. وقالت إن الحالة النفسية لباقي الجنود منهارة بالكامل، ويرفضون العودة إلى ساحة القتال. وأشار الجيش الأوكراني إلى أن البحرية الروسية كثفت تحركاتها في محيط شبه جزيرة القرم وبحر آزوف، المتفرع من البحر الأسود.
وفي إشارة إلى تداعيات الاختراق الكبير في خاركيف قال سيرغي غايداي رئيس منطقة لوغانسك المحتلة من قبل روسيا حالياً، إن الجيش الروسي يغادر على عجل أماكن انتشاره في منطقة لوغانسك، وينتقل إلى مناطق أبعد عن الحدود مع خاركيف أو إلى الأراضي الروسية.
وفي حال حافظت القوات الأوكرانية على مواقعها في خاركيف، يمكن أن تكون وجهتها المقبلة في اتجاه محور سفاتوف ستاروبيلسك، أو محور سيفيرودونيتسك ـ ليسيتشانسك المدينتين اللتين فقدت أوكرانيا السيطرة عليهما في نهاية يونيو/ حزيران الماضي.
الخديعة والمفاجأة
وشكّل تقدم الجيش الأوكراني في خاركيف مفاجأة غير سارة للقيادة الروسية، التي كانت تحتفل بمناسبة الذكرى الـ875 لتأسيس مدينة موسكو، وتنظم “أعراساً انتخابية” لتأكيد تقدم مرشحي حزب “روسيا الموحدة” الحاكم في انتخابات أُجريت، أمس الأحد، في 15 مقاطعة روسية. كما عطلت مهرجانات منح الجنسية الروسية على سكان خاركيف وزابوريجيا وخيرسون المحتلة.
وتضافرت عدة عوامل لتحرير الأوكرانيين مناطق تساوي مساحة جميع الأراضي التي احتلتها روسيا منذ مطلع إبريل/ نيسان الماضي في بضعة أيام فقط.
وربما كان العامل الأساسي هو نجاح الأوكرانيين في خداع الروس، فمنذ منتصف يوليو/ تموز أعلنت أوكرانيا على لسان أكثر من مسؤول أنها سوف تطلق معركة من أجل تحرير جميع المناطق المحتلة انطلاقاً من الجنوب.
وحددت مدينة خيرسون كنقطة للبداية، وعمدت إلى تدمير الجسور التي تربط المدينة الاستراتيجية مع مناطق شرقي دنيبر، وشنت القوات الأوكرانية عملياً هجمات محدودة انطلاقاً من ميكولاييف، ولم تحقق تقدماً واسعاً.
وفي حين تباهى الروس بصدّ الهجوم وعدم قدرة أوكرانيا على إحراز تقدم في خيرسون ومناطق الجنوب، بدا واضحاً أن الجانب الأوكراني كان يهدف من إثارة موضوع الهجوم الكبير في الجنوب إعلامياً إلى دفع الروس إلى سحب جزء من قواتهم من خاركيف ولوغانسك باتجاه شبه جزيرة القرم (الأوكرانية التي ضمّتها روسيا بالقوة في عام 2014) ومنها شمالاً إلى خيرسون.
وفي الوقت نفسه وبعد تزايد الهجمات ضد مطارات وقواعد عسكرية روسية في شبه جزيرة القرم في شهر أغسطس/ آب الماضي، اضطرت روسيا إلى تعزيز وجودها العسكري في القرم، وكذلك في المناطق المحتلة من زابوريجيا.
ولا يقلّ عامل المفاجأة في توقيت ومكان الهجوم أهمية، فحسب مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي الأوكرانية، وتقارير المحطات الغربية، ترك الجنود كميات ضخمة من الأسلحة وانسحبوا في شكل سريع ومن دون تنظيم.
والأمر نفسه ينطبق على القيادات المحلية والعسكرية التي عيّنتها روسيا بعد احتلال مناطق في خاركيف. والأرجح أن الجانب الروسي كان يستبعد هجوماً مضاداً في خاركيف، نظراً لقربها الجغرافي من الحدود الروسية ووجود خطوط إمدادات مباشرة مع الدائرة العسكرية الغربية الروسية.
ومن الأسباب المهمة للتقدم الأوكراني استمرار شحنات الأسلحة الغربية الحديثة التي مكنت من قيادة هجوم واسع، وإتمام دورات تدريبية سريعة مكثفة للجنود الأوكرانيين على استخدام الأنواع الحديثة من الأسلحة، والتقنين في استخدام القذائف والذخيرة لحل مشكلة قطع طرق الإمدادات.
وظهر جلياً أن الجانب الغربي ساعد الجيش الأوكراني استخباراتياً، عبر نقل معلومات عن تحركات الجيش الروسي وطرق الإمداد والتموضع من صور الأقمار الاصطناعية وكذلك المعلومات الاستخباراتية، ما سهل مهمة التقدم السريع. ومن غير المستبعد مساهمة غرف عمليات مشتركة أوكرانية غربية في رسم الخطط العسكرية.
من جهة أخرى، كشف التقدم الأوكراني السريع عن استمرار المشكلات اللوجستية بالنسبة للجيش الروسي، وتوفير المؤن والعتاد للخطوط الأمامية، وعدم تمتع الجنود الروس بالروح المعنوية والحوافز للدفاع عن المناطق الواقعة تحت سيطرتهم ما دفعهم إلى الهروب.
وتشي تصريحات حاكم الشيشان رمضان قديروف الأخيرة بوجود خلافات وسوء في التنسيق بين القوات الموجودة على الأرض، علماً أن القوات الروسية تتألف من الجنود النظاميين، ومقاتلي “فاغنر”، والقوات الأوكرانية، إضافة إلى متطوعين خضعوا لدورات تدريبية سريعة قبل زجهم في جبهات الحرب.
وكشفت وقائع العمليات العسكرية منذ بداية الحرب وجود مشكلات على المستوى العملياتي والتكتيكي لدى الجيش الروسي، وعززت المعارك الأخيرة في خاركيف ضعف أداء المقاتلين الروس وعدم إعدادهم لشن حرب حقيقية طويلة الأجل.
كما بيّنت أن التكتيكات الروسية تعتمد أساساً على فائض القوى النارية والتمهيد المدفعي والصاروخي بحرق الأرض أمام الجيش للتقدم، ما تسبب في استهلاك جزء كبير من القذائف والذخيرة وعدم قدرة المصانع على تعويضها.
كما تبين أن عملية إعادة تسليح الجيش الروسي باهظة الثمن، التي بدأت بعد حرب جورجيا في عام 2008 لم تكن موفقة، خصوصاً في مجال الدبابات والمدرعات والقوات البرية. ويضاف إلى ذلك ضعف الاتصالات والتنسيق بين القوات المختلفة البرية والجوية والبحرية.
تداعيات وسيناريوهات
ويفتح تحرير مناطق واسعة من خاركيف مرحلة جديدة من الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي حال حافظت القوات الأوكرانية على مواقعها وطردت الروس من كامل مقاطعة خاركيف، فقد تنتقل المعارك بقوة إلى مقاطعة لوغانسك الانفصالية التي سيطرت عليها روسيا والانفصاليون في نهاية يونيو/ حزيران الماضي.
كما ستفتح كذلك جبهة دونيتسك التي لم تتغير خريطة السيطرة فيها كثيراً منذ بداية الحرب، بسبب التحصينات الأوكرانية القوية منذ الحرب الأولى في عام 2014. ومن غير المستبعد أن تفتح القوات الأوكرانية جبهة جديدة في منطقة زابوريجيا التي تسيطر روسيا على قرابة ثلثي حدودها الإدارية.
ويعزز “الاختراق” الأوكراني الكبير الثقة بقدرات الجيش الأوكراني، ليس فقط في إمكانية الصمود ومنع القوات الروسية من التقدم كما حصل في الأشهر الأخيرة، بل في إمكانية شنّ هجوم مضاد في حال توفرت له الأسلحة والتدريبات الكافية. وبالتالي فإن الولايات المتحدة والدول الأوروبية المصرة على إلحاق هزيمة استراتيجية بالرئيس الروسي، يمكن أن تزوّد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة الحديثة مع تكثيف عمليات تدريب الجنود الأوكرانيين على استخدامها.
من جهة روسيا، فمن المؤكد أن التقدم الأوكراني السريع يعدّ كارثة حقيقية لمخططات الكرملين، فبعد إلغاء الاستفتاءات على ضم مناطق خيرسون وزابوريجيا وخاركيف لروسيا، والذي كان متوقعاً أمس الأحد، تزامناً مع الانتخابات المحلية في عدد من المقاطعات الروسية، تجد القوات الروسية نفسها في موقف المدافع عن هذه المناطق.
وبالتالي تتحول طموحات بوتين في بناء “العالم الروسي” انطلاقاً من جنوب أوكرانيا وشرقها إلى مجرد “أضغاث أحلام” في حال تحقيق الجيش الأوكراني خروقات جديدة، أو انهيار معنويات الجيش الروسي وتراجع الدعم لروسيا في المناطق التي احتلتها.
وعلى الرغم من مبالغة الخبراء الغربيين في مقارنة ما حصل في خاركيف مع تراجع الجيش الإمبراطوري الروسي في عام 1915 وانسحابه من بولندا وأجزاء من البلقان، وبالتالي يمكن أن يتسبب في تغييرات ثورية في داخل المجتمع الروسي وهزات اجتماعية كما حصل في ثورة 1917، فإن التراجع الروسي في خاركيف أربك الكرملين والبروباغندا التابعة له، لكن التأثيرات لن تكون سريعة على الأرجح، غير أن ارتفاع الخسائر البشرية والاقتصادية، يمكن أن يؤدي إلى تراجع الثقة ببوتين ونظام حكمه، ولاحقاً إلى ارتفاع أصوات منادية بوقف الحرب.
ومن الملاحظ أن التحركات الجماهيرية الكبيرة ما زالت احتمالاً ضعيفاً، نظراً للقوانين المشددة ضد معارضي الحرب، والقمع الذي تمارسه السلطات ضد التظاهرات غير المرخص لها.
ويجب الإشارة إلى أنه على الرغم من الضعف الواضح في أداء الجيش الروسي فإنه يملك احتياطياً مهماً من الوسائل والأدوات لمواصلة الحرب وربما كسبها، ومنها الأسلحة الاستراتيجية وإمكانية اللجوء إلى ضربات نووية تكتيكية.
ومن أجل حفظ ماء الوجه، يمكن أن تدفع النكسة الأخيرة في خاركيف بوتين إلى إجراء تعديلات في قيادات القوات، ولا يستبعد أن يعمل على الانتقام عبر تكثيف استخدام الصواريخ البالستية والقنابل الثقيلة من أجل استهداف البنى التحتية في أوكرانيا، بعد توجيه الجيش الروسي ضربات لمحطات الكهرباء تسببت أمس في قطع الكهرباء وتوقف محطات معالجة المياه في خمس مقاطعات أوكرانية.
أوراق بوتين
ومن المؤكد أن بوتين سيعمل على استغلال ثلاث أوراق للضغط على أوروبا والولايات المتحدة بهدف وقف الهجوم الأوكراني، ووقف تزويد كييف بأسلحة حديثة.
ويأتي سلاح الطاقة في مقدمة أدوات بوتين للتأثير على الأوروبيين، وفي هذا المجال يمكن وقف ترانزيت الغاز عبر أوكرانيا في شكل نهائي بعدما انخفض إلى أقل من الثُلث في الأشهر الأخيرة بسبب المعارك في إقليم لوغانسك. ومن غير المستبعد وقف الغاز بذريعة إصابة شبكة الأنابيب أو المضخات بأضرار نتيجة المعارك.
والورقة الثانية تتمحور حول استمرار أجواء التوتر في محيط محطة زابوريجيا للطاقة النووية واستخدامها فزاعة لترهيب العالم من مخاطر التسريبات الإشعاعية.
وتكمن الورقة الثالثة والأخيرة في تعطيل اتفاق صادرات الحبوب الذي تم التوصل إليه في يوليو/ تموز الماضي في إسطنبول التركية برعاية أممية وتركية، وعملياً مهد بوتين لذلك الأسبوع الماضي، حين ادّعى في الجلسة الرئيسية لمنتدى الشرق الاقتصادي، أن معظم الحبوب اتجهت نحو أوروبا والبلدان المتقدمة وأن البلدان الفقيرة لم تستفد منه.
وأخيراً، فإن تحرير مقاطعة خاركيف يفتح على سيناريوهات متعددة لا يستبعد منها ضغط روسيا على أطراف أوروبية لإقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالجلوس على طاولة المفاوضات، ولكن الأرجح أن أمد الحرب سيطول أكثر فبوتين لن يقبل بالهزيمة، والغرب سيزيد دعم أوكرانيا، والجانب الأوكراني بات في موقف أقوى، وواضح أن أوروبا اتخذت قراراً استراتيجيا بالتخلي عن سلاح بوتين الأمضى وهو سلاح الطاقة.
المصدر: العربي الجديد