د- عبدالله تركماني
يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 21 عاماً، مع إجراء تعديلات جوهرية لربط ماضي جامعة الدول العربية بالحاجة اليوم إلى قيام السوق العربية المشتركة، التي تعتبر من أهم الركائز للتعاطي الإيجابي مع تحديات الشراكات الإقليمية.
خلقت العولمة واقعاً جديداً تجسم على الخصوص في امتداد مستوى التنافسـية، بحيث لم تعد الكيانات القطرية قادرة لوحدها على مواجهة الرهانات التي يفرضها التنافس بين الدول، وهو ما أدى إلى إنشاء تجمعات إقليمية كبرى كقوة فاعلة جديدة في العلاقات الدولية عامة، والعلاقات الاقتصادية خاصة. ومن منطلق المحافظة – بالقدر الممكن – على استقلالية القرار الوطني أو التقليل – بالقدر المستطاع – من درجة تهميشها، اتجهت مجموعات من الدول إلى إقامة تكتلات اقتصادية بحيث تقوّي السيادة الوطنية تجاه الخارج كجزء من سيادة إقليمية أوسع لدول يجمع بينها تطلعات متقاربة.
إنّ التحديات التي تطرحها العولمة فرضت على العالم العربي التكتل لإيجاد قوة عربية فاعلة تستطيع التعامل مع إفرازات هذه التحديات، والملفت أنّ الاتجاه العربي نحو إقامة تكتل اقتصادي/سياسي فاعل مازال ضعيفاً، بالرغم من تأسيس جامعة الدول العربية منذ أكثر من نصف قرن، ومن صدور عشرات القرارات والتوصيات بهذا الخصوص، وبالرغم أيضاً من التغيّرات العالمية والإقليمية العميقة في السنوات الأخيرة. ولعلَّ إقرار إقامة منطقة التجارة العربية الحرة في العام 1998 هو دليل وعي عربي متزايد بضرورة السير في هذا الاتجاه، وتبدو أهمية ذلك إذا علمنا أنّ التكتلات والشراكات الإقليمية مكملة لظاهرة العولمة وتتوافق معها.
ومهما كان الحال فإنّ الشراكات تندرج ضمن عملية إعادة مأسسة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، بحيث يجعل من الكتل الاقتصادية الإقليمية حلقة وسيطة بين الدولة الوطنية من ناحية، والنظام العالمي من ناحية أخرى. ومن ثم فهي تجديد أو إعادة إحياء للنظم الإقليمية التي أصيبت بانتكاسة كبيرة مع المتغيّرات الجديدة في النظام العالمي، ولكنه إحياء من منظور الاقتصاد نظراً لأنّ العالم أضحى أكثر اقتصادية.
وهكذا، يبدو جلياً اليوم أنه بات من المستحيل للدول العربية مواجهة تحديات العولمة، بما تنطوي عليه من قوى احتكارية متوحشة، بالاعتماد فقط على السياسات الوطنية في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ومن هنا تبدو أهمية الرهان على الشراكات الإقليمية.
فما هو مفهوم الشراكة؟ إنها تعنـي: أولا، تجاوز مبدأ الإقصاء، بفضل تهيئة فضاء مشترك متفتح على أشكال انسجام واندماج. فالشراكة، بفضل ما تفرض من تآزرات جهوية، تغيّر هيكلة المواجهة إلى هيكلة تنمية مشتركة. وثانيا، بعكس التعاون تتطلب من الطرفين جهداً متزايداً وقسطاً من التضحيات قصد بعث قيم جديدة تغني الشراكة. وثالثا، في سياق الشمولية والتنافس المتفتح، شكلاً إضافياً للتحالف بقبولها نسبة من الشك والمخاطرة والمقاومة المشتركة للركـود. وينم مفهوم المخاطرة عن عقلية تنافسية، على عكس العقلية التواكلية.
ومع أهمية الشراكات الرأسية ” شمال – جنوب ” فإنّ الشراكات الأفقيـــة ” جنوب – جنوب ” تبدو ذات أهمية كبرى بالنسبة للعالم العربي. فبالإضافة إلى ضرورة تجديد آليات عمل جامعة الدول العربية والسير نحو السوق العربية المشتركة، فإنّ القارة الأفريقية هي مجال حيوي للشراكات العربية الأفقية. ومما قد يسهّل تفعيل شراكة عربية – أفريقية أنّ غالبية أقطار العالم العربي تنتمي إلى القارة الأفريقية، كما أنّ مصر تعتبر أحد أهم الدول المكوّنة للسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيـا ” كوميسا “.
أما الشراكات الرأسية ” شمال – جنوب ” فيبدو أنّ العالم العربي يندرج ضمن إطار تنافس الخطين الاستراتيجيين الأوروبي والأميركي: حيث نجد الدعوة إلى فصل بلدان مجلس التعاون الخليجي عن الدينامية الأورو – متوسطية، إذ يُنظر إلى هذه البلدان كـ ” محميات ” للولايات المتحدة الأميركـية. ومن جهة أخرى، نجد محاولة إدماج إسرائيل في المنطقة عبر المشروعين الشرق أوسطية والمتوسـطية، مروراً بمحاولة فصل المنطقة المغاربية عن المشرق العربي، تحت اسم ” شمال أفريقيا “.
وبالرغم من ذلك، فمن المؤكد أنّ التنمية بمعزل عن العالم أصبحت ضرباً من الوهم، كما انّ تجاهل تأثير التكتلات الاقتصادية على الاقتصاديات الوطنية يحمل دلالات خطيرة، ولهذا نجد عمالقة الاقتصاد تتطلع إلى الانخراط في تكتلات اقتصادية إقليمية.
وهكذا، تثير الشراكات المطروحة على العالم العربي مجموعة أسئلة حول مدى الاستجابة العربية للتحديات المطروحة: هل فهمنا منطق المرحلة الدولية الجديدة؟ هل استجبنا لمنطقها على الأصعدة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وخاصة على صعيد التخطيط والتنظيم والممارسة؟ وما هي الظروف التي ينبغي أن توفرها جامعة الدول العربية لجعل الشراكات ذات جدوى في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية – الإنسانية؟
وبهدف دراسة واقع وآفاق دور جامعة الدول العربية في الشراكات الإقليمية والدولية للعالم العربي، سوف نتناول الموضوع تبعا للمنهجية التالية:
(1) – واقع ومستقبل جامعة الدول العربية.
(2) – تطور مواقف جامعة الدول العربية والشراكات.
- – واقع ومستقبل جامعة الدول العربية
إنّ فكرة الجامعة بنيت على أساس التمحور حول العام والمشترك والجوهري في النشاط السياسي والاقتصادي والثقافي العربي، كما تطلّع العرب إلى أن تكون موضعاً للتشاور ومنطلقاً للدفاع عن المصالح العربية المشتركة في صراعها مع الآخر، وكذلك تخفيف أو إزالة التوتر بين الأطراف العربية بالطرق السلمية. فالأزمة التي تواجهها الجامعة العربية هي – بالتأكيد – أزمة أداء لا أزمة وجود، لأنّ أسباب وجودها لا تزال قائمة، والاحتياج العربي إلى دورها لا يزال باقياً.
ويبدو أنّ الجامعة تدخل مرحلة جديدة ليست مستعدة لها أو قادرة على درء أخطارها إذا ما استمرت على نهجها السابق. ومن ثم فليس أمامها سوى أن تجدد نفسها وإلا فإنها تنفي شرعية وجودها، خاصة إذا ما تمكنت منها الأطر الإقليمية الجديدة الوافدة كالشرق أوسطية أو المتوسطية.
ويبدو الأمر صعباً إذا علمنا أنّ ثمة مجموعة مشاكل اقتصادية عربية متراكمة منذ بضعة سنوات، من أهمها: تفاقم المديونية العربية مما يثقل كاهل الكثير من الدول العربية ويقف حاجزاً ضد برامجها التنموية والتحديثية، وعدم تجاوز التجارة البنية العربية – العربية نسبة 10 %، وعدم قدرة أغلب الدول العربية على إقناع رجال أعمالها المستثمرين في الخارج على العودة إلى أوطانهـــم.
إنّ العالم كلَّه يعيد، في هذا الزمن الصعب، حساباته وتوقعاته وتوجهاته. فأين هي مصالح العالم العربي؟ وكيف يمكن تحقيقها؟ وماذا تعني عملية إعادة الحسابات والتوجهات؟
والأهم من ذلك، سيكون العمل على توفير القدرة العربية على التكيّف مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الجديدة التي ستكون محيطة بهم، على المستوى الإقليمي المباشر وعلى الصعيد العالمي الأشمل. وهذا لن يكون ممكناً إلا من خلال تمكّن العرب من صياغة استراتيجيات مشتركة تكفل لهم التعاطي المجدي مع التحديات والتهديدات المشتركة، وكذلك اقتناص الفرص المحتملة، بهدف تحقيق الحد الأدنى الممكن من أهدافهم وأولوياتهم ومصالحهم المشتركة.
فبعد أن أضحت ظاهرة الاعتماد المتبادل أداة فعالة للنهوض بالعمل الجماعـي، باعتباره يمثل أحد تطبيقات السلوك الدولي المتطور وأحد أبرز الظواهر التي يتسم بها النظام الدولي الراهن، أصبح من واجب حكوماتنا العربية أن تبحث عن أفضل السبل للنهوض بالعمل الجماعي العربي من جهة، وكذلك الحوار والشراكة مع دول الجوار والعالم من جهة ثانية، خاصة وأنّ التغيّرات الإقليمية والدولية تفرض مثل هذه الشراكات مع الآخرين.
إنّ أساس كل تعاون، ثابت ومتطور، هو قيامه على مبدأ المصالح المشتركة بين كل الأطراف المعنية. فإذا غاب هذا الأساس، يصبح التعاون مجرد مساعدة من جهة لأخرى، أي علاقات هشة، غير مستقرة، قابلة للهزات والتراجعات باستمرار. ولذا حتى يُضمن لكل مشروع شراكة إقليمية الديمومة والنجاعة والصلابة، يتوجب أن يُجعل من مبدأ المصالح المشتركة الركيزة الأولى للعمل الجماعي. فبقدر ما تقوى المصالح المشتركة وتتنوع وتتطور يتقلص التمزق الإقليمي، وتحل محله فضاءات مشتركة تسودها روح التعاون.
يبدو أنّ جوهر تلك العملية يعني محاولة التكيّف، إن لم تكن الاستفادة، مع التغيّرات العالمية. وهنا تبرز أيضا أهمية ” الدوائر المتقاطعة ” المفتوحة، والدائمة التحرك بمرونة، إذ تحقق هذه الاستراتيجية لكل دولة عربية استقلالاً عن الأخرى، في جزء من دائرتها العربية. وفي الوقت نفسه، تتقاطع مع دائرة أو دوائر أخرى، حول مصالح مشتركة، تضيق أو تتسع حسب الظـروف، ولكنها لا تستقل أو تنعزل تماماً، وتنشأ نتيجة لذلك نماذج لنظم مختلفة من الأمن والتعاون، في حدود تقاطع الدوائر. وبالتالي تصبح على قدر من المرونة وإمكانية التكيّف والتغيير، من دون عنف أو تكلفة باهظة، مع متطلبات حركة الأحداث الموضوعية، ويحددها المحلل المصري محمد سيد أحمد كما يلي: دائرة البلد العربي الواحد، دائرة النظام العربي، دوائر المجموعات الإقليمية المحدودة، دوائر البلدان الشرق أوسطية، وأخيراً الدائرة المتوسطية.
وهكذا، فإنّ إعادة هيكلة جامعة الدول العربية قد تنعكس إيجابياً على الشراكات الإقليمية فيما إذا اتجهت نحو:
1- التوازن في العلاقات مع الكتل الدولية المختلفة.
2- العمل المؤسساتي من أجل نجاح الإصلاح وإعادة الهيكلة في واقع اقتصادي واجتماعي عربي متأخر.
3- إعادة صياغة العمل العربي المشترك وفقاً لمنظومات عربية وظيفية مرنة: أمنية واقتصادية وثقافية وسياسية.
4- استكمال سياسة الإصلاح الهيكلي ودمقرطة الحياة السياسية والاجتماعية العربية.
5- الاستفادة من الفترات الانتقالية للشراكات بهدف التكيّف الإيجابي مع الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية.
- – تطور مواقف جامعة الدول العربية من الشراكات
كانت معالم النظام العالمي الجديد، الذي أُرسيت دعائمه في نهاية الثمانينات وانطلق في بداية التسعينات، تكشف عن مصادرة الولايات المتحدة الأميركية لتركة الاتحاد السوفياتي السابق في المنطقة العربية، بإعادة ترسيمها في سياق سياسة احتواء جديدة لمقدّراتها وثرواتها.
ومن أجل ذلك، فإنّ الاستراتيجية الأميركية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة السياسية والاستراتيجية لمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، انطلاقاً من النظام الشرق أوسطي (ظهر ذلك جلياً مؤخراً خلال زيارة الرئيس بايدن)، الذي تقوم الولايات المتحدة الأميركية بتوجيهه وإدارته وفق مصالحها الاستراتيجية، وهذا السيناريو يعني أنّ إسرائيل، وفق الدعم الأميركي، سوف تكون ” اليد الخفية ” في إدارة هذا السيناريو.
أو يكون للعرب استراتيجية موحَّدة للتعاون الاقتصادي تمكِّنهم من أن يكونوا مركزا للتفاعل وتملُّك زمام المبادرة، ويكون التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل رهناً بمدى وفائها بالتزاماتها وتعهداتها وتقدّم خطوات السلام على جميع المسارات، طبقاً للمبادرة العربية للسلام. وهو السيناريو الذي تؤكده الحقيقتان التاليتان:
(أ) – أنّ إحداث التوازن يتطلب ضرورة أن تكون الشرق أوسطية ليست بديلاً عن التعاون الاقتصادي العربي والسوق العربية المشتركة، بل تكون الشرق أوسطية هي إحدى دوائر الحركة والحشد الاقتصادي العربي، والذي يمكن أن يتحقق معه، بشيء من التخطيط والتنظيم، شراكة عربية مع الولايات المتحدة الأميركية، تصبح في الأجل الطويل مفتاح الحركة السياسية والتفاعل الأميركي في المنطقة.
(ب) – ضرورة الانتباه إلى القوى الكبرى الأخرى في العالم، التي تسعى لدخول حلبة المنافسة مع الولايات المتحدة الأميركية، خاصة الصين والاتحاد الأوروبي، مما يتطلب أن يكون المكوِّن العربي ذا مكانة في النظام الشرق أوسطي بحيث يصبح المدخل لدوائر التبادل الإقليمي والدولي.
وتبرز المقارنة بين النظامين العربي والشرق أوسطي كم هما متعارضان من حيث منطلقات التأسيس والأهداف الكبرى وآليات التحقيق وبناء المؤسسات، فضلاً عن قائمة القضايا والدعم الخارجي. وهو ما يؤكده باحث اقتصادي بقوله ” إنّ النظامين ينطلقان من نقاط ابتداء مختلفة وبمرجعيات متباينة، لذا فإنهما لا يسيران حتى ولا بخطوط متوازية، وإنما باتجاهات مختلفة تماماً. ولذا فإنهما لا يمكن أن يلتقيا أبداً … إنّ النتيجة التي نصل إليها هي أنّ المشروعين التكامليين العربي والشرق أوسطي هما مشروعان تنافسيان، بعيد بعضهما عن بعض في الغايات والوسائل، الأول منهما عربي المنحى والمضمون والأهداف مع وجود خصائص وسمات ومصالح مشتركة بين أقطاره… في حين لا تتوفر في المشروع الشرق أوسطي مقوّمات الإقليم التكاملي ولا سماته، بل يتفاوت في خصائصه وثقافاته ومصالحه اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، بالإضافة إلى استهداف تثبيت تفوّق إسرائيل كطرف متميّز فيه “.
وفي المقابل علينا أن ندرك أنّ ثمة مجموعة خصوصيات تميّز العلاقة الأوروبية – العربية: خصوصية جغرافية وتاريخية، كثافة الوجود العربي في أوروبا بحوالي 8 ملايين عربي، 66 % من إجمالي التجارة العربية. وفي الواقع فإنّ ميراث أوروبا التاريخي وقربها الجغرافي من منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب شبكة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تربطها بالمنطقة قد جعلت لها دوراً متميزاً ومسؤوليةً خاصة بالنسبة للشرق الأوسط. ويتجسد ذلك في الشراكة الأورو- متوسطية التي تتضمن قضايا الأمن والاستقرار وارتباطهما بالتعاون الاقتصادي والثقافي، وقد تبلورت هذه القضايا في ثلاثة أبعاد متداخلة: البعد السياسي والأمني، والبعد الاقتصادي والمالي، والبعد الاجتماعي والثقافي والإنساني.
ويفترض البعد الثقافي التعمق في أوجه التعاون للتقريب بين المفاهيم والقيم بين شعوب بلدان البحر الابيض المتوسط، وإيجاد تيارات ثقافية تخدم ذلك التواصل. عندئذ تستطيع الشعوب المتوسطية، أوروبيون وعرب وغيرهم، أن يتفهم كل منها مشاكل وقضايا الشعوب الأخرى، ولأن يحدد القضايا المشتركة أيضاً.
وهكذا، يبدو أنّ الفارق الأساسي بين المشروعين الشرق أوسطي والمتوسطي يكمن في الإرادات، أكثر مما يكمن في الوقائع. إذ ثمة بالفعل عدم تكافؤ بين أوروبا والعالم العربي، كما أنّ هناك عدم تكافؤ داخل دول العالم العربي فيما بينها. لكنّ المشروع الأورو – متوسطي يبدو مفهوما ” يحاول أن يصوّر فكرة الشراكة القائمة على قواعد معاكسة تماماً لفكرة الهيمنة التي يقدمها المفهوم الشرق أوسطي المدعوم من الولايات المتحدة الأميركــية وإسرائيل “.
إنّ تحديد أهم العوامل التي أضعفت أداء جامعة الدول العربية يشير إلى خلل بنيوي وسلوكي ، إذ يبدو أنّ الأمر يتعلق بضرورة إعطاء الجامعة سلطة ” ما فوق وطنية ” مقابل تنازل الدول الأعضاء عن جزء من سيادتها ، كما أنّ تحوّلاً سلوكياً في اتجاه التوافق بين الدول الأعضاء على الحلول الوسط يبدو ضرورياً أيضاً .
وهكذا، فإنّ إحياء دور النظام العربي يتطلب تعامله بنجاح مع تحديات خمسة، حدّدها عدد من الخبراء كما يلي:
(1) – المصالحة الفكرية بين الوطني والعربي، أو بين منطق الدولة ومنطق الأمة، فالدولة الوطنية تبقى المدماك لتحويل الأمة من انتماء وجداني إلى واقع حي وفعّال، من خلال التطور المؤسسي الشامل الذي يحقق المشاركة الفاعلة للقوى الاجتماعية والسياسية داخل كل قطر عربي والنجاح في إنجاز تنمية اقتصادية مجدية، كما أنه من المطلوب أيضاً تطبيع مفهوم الانتماء إلى الأمة العربية في الفكر الوطني.
(2) – المصالحة السياسية، من خلال إطلاق حوار سياسي عربي ممأسس ومبرمج يضم فعاليات حكومية وغير حكومية، بغية إعادة صياغة العلاقات العربية – العربية على قواعد ثابتة وواضحة ومستقرة، تسمح بإعادة تشكيل السياج الواقي للنظام العربي، وتساهم في إيقاف الانهيار والتفكك الحاصلين.
(3) – تجديد البناء المؤسسي وتكييفه مع التحديات السياسية والوظيفية الجديدة ليستطيع التعامل معها بفعالية. أما مجالات التجديد التي تستوجب تركيز الإصلاحات عليها فهي:
(أ) – مؤسسة القمة العربية، باعتبارها آلية لاتخاذ القرار بما يضفي الاستمرارية والمصداقية والفعالية على العمل العربي المشترك.
(ب) – تطوير وظيفة الديبلوماسية الوقائية، من خلال إيجاد آلية لتسوية الخلافات العربية – العربية وإدارتها، وتفعيل ميثاق الشرف للأمن والتعاون العربي الذي أُنجز منذ سنة 1995، وإحداث محكمة العدل العربية بعد أن تبين أنّ وسيلتي الوساطة والتحكيم القائمتين على الترضية السطحية والوقتية غير كافيتين لتسوية النزاعات، والنظر في نظام القرارات في الجامعة.
(ج) – دور الأمين العام، من خلال توفير القاعدة القانونية لمنحه صلاحيات واسعة للتحرك والمبادرة.
(د) – المجتمع المدني العربي، من خلال صيرورة الجامعة ” حزام نقل ” في الاتجاهين بين القرار العربي الرسمي من جهة والهيئات والمنظمات غير الحكومية من جهة أخرى، بما يفتح في المجال للقيم السياسية الحديثة مثل: الديمقراطية والشفافية، وبما يعزز البعد العربي للجامعة ويوفر الآليات لمشاركة كافة هيئات المجتمع المدني العربي في صياغة القرارات العربية المشتركة.
(4)- صياغة العلاقات العربية مع دول الجوار، فإذا كان مستقبل العلاقات مع إسرائيل مرتبط بمدى فشل أو نجاح عملية التسوية العربية – الإسرائيلية وما يحمله كل من الاحتمالين من تحديات، فإنّ العلاقة مع إيران وتركيا تستوجب صياغة رؤية عربية استراتيجية لتحديد العلاقة مع كل من الدولتين ضمن أطر شاملة وذات آفاق مستقبلية، مع محاولة إيجاد حلول عادلة لمشكلة المياه بين تركيا وكل من سورية والعراق ومتابعة تنامي العلاقات التركية – الإسرائيلية وتأثيرها على التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وكذلك النفوذ الإيراني في العراق ولبنان وسورية واليمن.
(5) – إعادة صياغة علاقات النظام العربي على الصعيد الدولي انطلاقاً من المتغيّرات الدولية، وذلك من خلال إجراء تقويم بشأن كل علاقة ثنائية مع قوى العالم الجديد.
لقد أصبحت التكتلات الاقتصادية حاجة ملحة للدول العربية للحفاظ على أمنها خاصة الاجتماعي – الاقتصادي أولاً، وديمومتها على المستوى الوطني والسياسي ثانياً. وهنا يجب التأكيد، إذا ما أردنا الخروج من إسار السياسي إلى بناء علاقات شراكة عربية تكاملية تؤمّن لنا حالة من التوازن على المستوى العالمي، على ما يلي:
1 – ضرورة الشروع في إقامة علاقات اقتصادية واسعة، ومحمية بجملة من القوانين النافذة البعيدة كل البعد عن الخلافات السياسية التكتيكية، التي كانت في ما مضى تشكل عقبة في وجه هذه العلاقات. وضرورة القناعة بأنّ العلاقات الاقتصادية وتبادل المنافع هي وحدها الكفيلة بالوصول إلى توحيد الرؤى بل والمواقف السياسية من أي مستجد طارئ قد نواجهه.
2 – تأصيل القناعة بأنّ السياسة، بكل ألوانها ومسمياتها ومدارسها، هي بالأساس تعبير حي عما يسمى بـ ” الاقتصاد المكثف “، وأنّ وحدة المصالح الاقتصادية هي وحدها الكفيلة في التقريب ما بين الفئات الاجتماعية والبنى التحتية العربية، وهي وحدها التي تحدُّ من تقلبات الأهواء والمطامح الشخصية التي تظهر عند هذا النظام السياسي أو ذاك.
3 – ضرورة الاعتراف بأنّ أهم عائق كان ولا يزال يجابه آليات التقارب العربي المشترك، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، يتمثل في غياب المشاركة الشعبية الواسعة عن صنع القرار الاقتصادي والسياسي.
4 – ضرورة القناعة التامة في استرجاع وجذب الأموال والثروات العربية، المستثمرة في الخارج، لتساهم بالشكل المناسب والخلاق في حل مشاكل المديونيات العربية، بهدف إعطاء قوة الدفع الضرورية للارتفاع بالتجارة البينية العربية، سواء من خلال تمويل وضمان المبادلات أو في ما يخص المشاريع ذات الصلة، والتي ستخلق بدورها حالة من التوازي بين هياكل الإنتاج الكفيل بالوصول إلى مرحلة التكامل.
5 – الإقرار بأنّ الشعوب العربية بكل خبراتها وتجاربها ، لا تقلّ عن شعوب البلدان المتحضرة، وهي إذا ما قيض لها القوانين والحماية قادرة على الخروج من جملة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بواقعها، وهي تمتلك القدرة العالية على استخدام آخر ما توصل إليه العلم والذي تمثل بثورة تبادل المعلومات، التي ترشّد إدارة شؤون المجتمعات، وبالأخص منها الشؤون الاقتصادية.
كما لم يعد الوضع يحتمل مجرد كلام أو مواصفات لإنشاء السوق العربية المشتركة، وإنما أصبح يتطلب تحركات عملية عاجلة. ولكنّ المطلوب لإنشاء السوق العربية المشتركة قرارات تنفيذية، وليس توصيات، وعلى أن تصدر من أعلى السلطات العربية للتمهيد العملي لقيامها، وأن تتجه القرارات فوراً إلى جامعة الدول العربية ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية والمنظمات العربية المشتركة للتنفيذ الفوري.
إنّ قيام السوق العربية المشتركة يعتبر من أهم الركائز للتعاطي الإيجابي مع تحديات العولمة والشراكات الإقليمية، ذلك أنّ التكتل الاقتصادي العربي يساهم مساهمة كبرى في رفع مستوى الإنتاجية للاقتصادات العربية وتوسيع قاعدتها، وفي ترسيخ المناخ الاقتصادي الملائم. بل أكثر من ذلك، فإنّ لها مضموناً آخراً تنامت أهميته كثيراً في ظل مسيرة العولمة، وهي القوة التفاوضية المنبثقة عن الوحدة الاقتصادية تجاه الكتل الاقتصادية الكبرى.
كما أنّ قيام التكتلات الاقتصادية الكبيرة يتطلب من الدول العربية أن تواجهها ككتلة اقتصادية واحدة، عوضاً عن أن تتعامل معها كل على حدة كما يحصل حالياً. فمن البديهي أنّ التفاوض أو التعامل العربي الجماعي مع التجمعات الاقتصادية الخارجية يقوّي القدرات التفاوضية للبلدان العربية، ويفتح أمامهـا – بالتالي – فرصاً للإفادة من التعاون والشراكة معها، وهي فرص لا تكون متوفرة في حال تفاوض كل دولة عربية على انفراد.
وفي كل الأحوال، من الضروري التركيز على مسار الشراكة العربية – العربية قبل غيره من المسارات الإقليمية والدولية، الأمر الذي من شأنه رفع قوة المساومة العربية تجاه التكتلات الأخرى. ذلك أنّ المصالح العربية العليا تتطلب التفاوض وإدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية في إطار عربي جماعي، وليس على مستوى الأطراف العربية مجزأة.
إنّ الشراكات الإقليمية والدولية تخلق مجالاً خصبا للتأثر بين الأطراف المتعاقدة، وبالنسبة لنا يبدو أنّ قبولنا بمبدأ الشراكة سيعني قبولاً موازياً في تحوّل نظرتنا إلى العالم، متأثرين بمفاهيم الغرب أكثر من كوننا مؤثرين فيها، فالأقوى الذي أنجز ثورته الديمقراطية وبنى دولته الحديثة، كان وسيبقى الأكثر تأثيراً والأقل تأثراً. وهذا يستدعي منّا مراجعة مجموعة لا يستهان بها من المفاهيم والمفردات المألوفة والسائدة لدينا. فهل سنرضى بإعادة الصياغة المطلوبة؟ وإذا رضينا فهل سنستطيع؟
على أي حال، بين هذا وذاك، يجب ألا ينسى العرب أنهم لن يحصدوا شيئاً إذا لم يعودوا إلى التفكير بذاتهم، ويبقى صحيحاً – على الدوام – أنّ مَن يخسر نفسه لا يفيده إن كسب العالم، بل لا يستطيع أن يكسب أحداً إذا فقد وزنه واحترامه ومكانته وذاته. فهل ستتمكن جامعة الدول العربية، في مؤتمر القمة القادم في الجزائر، أن تسد هذه الثغرة الرئيسية؟
الهوامش
(1) – د. محمد السعيد إدريس: الإقليمية الجديدة ومستقبل النظم الإقليمية – عن مجلة ” السياسة الدولية “، القاهرة – أكتوبر/تشرين الأول 1999.
(2) – عبد الكريم محمد: نحو بناء شراكة عربية تكاملية – عن صحيفـــة ” البيان ” الإماراتية ليوم 11 نيسان/أبريل 2001.
(3) – أحمد ونيّس (السفير): الأمن والشراكة في منطقة البحر الأبيض المتوسط – عن مجلة ” دراسات دولية “، تونس – العدد (79) – حزيران/يونيو 2001، ص 31.
(4) – د. فيصل محمود الغرايبة: دخول العرب إلى القرن الحادي والعشرين/ظروفه وشروطه – عن مجلة ” شؤون عربية “، العدد ( 103 ) – أيلول/سبتمبر 2000، ص 49 – 50.
(5) – جميل مطر: مستقبل النظام الإقليمي العربي – عن مجلة ” المستقبل العربي “، العدد (158) – نيسان/أبريل 1992، ص 11 – 12.
(6) – د. حسن أبو طالب: الفكر العربي والشرق أوسطية – عن المجـلة الفصلية ” عالم الفكر “، العدد (4) الكويت – نيسان/ حزيران أبريل/ يونيو 1997، ص 84 – 85.
(7) – د. طارق عبد العظيم أحمد: الشرق أوسطية … والسيناريو الأرجح – عن صحيفة ” الأهرام ” المصرية 5 آب/أغسطس 1996.
(8) – د. حسن نافعة: الجامعة العربية في ظل التسوية/سيناريوهات المستقبل – عن مجلة ” عالم الفكر “، المرجع السابق.
(9) – لطفي الخولي: عرب؟ نعم وشرق أوسطيون أيضاً، مركز الأهرام للترجمة والنشر – القاهرة – 1994، ص 56 – 57.
(10) – جميل مطر: مستقبل النظام الإقليمي العربي – المرجع السابق، ص 17 – 18.
(11) – د. عبد المنعم سيد علي: التكامل الاقتصادي العربي والنظام الاقتصادي الشرق أوسطي – عن مجلة ” المستقبل العربي “، العدد (214) – بيروت كانون الأول/ديسمبر 1996، ص 24 – 25.
(12) – نيرمين النواوى: الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط – عن مجلــة ” السياسة الدولية “، العدد (142) – القاهرة تشرين الأول/أكتوبر 2000، ص 106 – 107.
(13) – كليب سامي: مؤتمر مرسيليا/تعديل البرنامج السياسي – عن صحيفة ” السفير ” اللبنانية – 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2000.
(14) – يوسف شملال: حوض البحر الأبيض المتوسط فضاء مشترك أم مجال حدودي أم عالم بحد ذاته؟ – عن صحيفة ” الزمان ” العراقية 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1999.
(15) – خورشيد دلي: العرب وأوروبا.. الشراكة الناقصة وأبعاد العلاقة – عن صحيفة ” البيان ” الإماراتية 14 كانون الثاني/يناير 2001.
(16) – مختار شعيب: مؤتمر شتوتغارت/رؤية تقييمية لمسيرة برشلونة – عن مجلة ” السياسة الدولية “، العدد (137) – تونس تموز/يوليو 1999، ص 220.
(17) – مختار شعيب: مؤتمر شتوتغارت… المرجع السابق، ص 222.
(18) – كريم بقرادوني: حوار منشور في أسبوعية ” حقائق ” التونسية 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1995.
(19) – د. طلعت شاهين: لقاء المتوسطية في مرسيليا.. لاتزال الفكرة أكبر من النتائج – عن صحيفة ” البيان ” الإماراتية 1 كانون الأول/ديسمبر 2000.
(20) – محمد صوان: مضمون العمل الجماعي وأسس نجاح التكتل الاقتصادي العربي – عن ” تشرين الأسبوعي ” دمشق 3 نيسان/أبريل 2001.
(21) – د. محمد سعد أبو عامود: العلاقات العربية – العربية في مرحلة ما بعد التسوية (رؤى سيناريوهات مستقبلية) – عن مجلة ” السياسة الدولية ” – تونس تشرين الأول/أكتوبر 1999، ص 131.
(22) – عبد الكريم محمد: نحو بناء شراكة عربية تكاملية – عن صحيفــة ” البيان ” الإماراتية 11 نيسان/أبريل 2001.
(23) – يحيى المصري: السوق العربية المشتركة لا تنشأ من فراغ – عن صحيفة ” البيان ” الإماراتية 3 حزيران/يونيو 2001.
(24) – د. سمير المقدسي: التكتل الاقتصادي العربي والعولمة على مشارف القرن الحادي والعشرين – عن مجلة ” شؤون عربية “، العدد (103) – أيلول/سبتمبر 2000، ص 157 – 158.
(25) – محمد جمال الدين البيومي: مستقبل العلاقات العربية في إطار المشاركة الأوروبية المتوسطية (الحلقة الأخيرة) – عن صحيفة ” الزمان ” العراقية 7 حزيران/يونيو 2000.
(26) – الشاذلي العياري: السياسات التعاونية المغاربية بين الشراكة الأورو – متوسطية والشراكة الأمريكية – عن أسبوعية ” حقائق ” التونسية، العدد (808) – 21 حزيران/يونيو 2001 ، ص 15 – 16.
(27) – صالح بن عبد الرحمن المانع: العلاقات العالمية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية/الواقع والطموح – عن مجلة ” المستقبل العربي “، بيروت العدد (268) – حزيران/يونيو 2001، ص 169 – 170.
(28) – علي العبدالله: شروط إصلاح البيت العربي – عن صحيفــــة ” السفير ” اللبنانية 7 تموز/يوليو2001.
(*) – في الأصل محاضرة في إطار الدورة التاسعة لـ ” معهد العلاقات الدولية/جمعية الدراسات الدولية ” بتونس – سبتمبر/أيلول 2001. نُشرت في المجلة الفصلية للجمعية ” دراسات دولية ” – العدد (82)، يناير/كانون الثاني 2002.