د. كمال القصير
مائة عام مضت من الأفكار التي لم تجد طريقها إلى التحقق في المنطقة، والتحول إلى مؤسسات ووعي شعبي، يحميها من الاختفاء تحت ضغط التحولات القسرية. خاصة أن جزءا من تلك الأفكار ارتبط بالتنظيمات المختلفة من اليسار حتى الإسلاميين، فضعفت بضعفها، أو تراجعت بتراجع آثار تلك المجموعات في الواقع.
مائة عام أخيرة استهلك فيها المسلمون رصيد أهم الأفكار التي استمدوها من تراثهم وتاريخهم لإحياء واقعهم. فقد تم استنفاد المخزون الحقوقي والأيديولوجي والاجتماعي لكثير من الأفكار، التي انطلقت موجتها بعد سقوط آخر شكل من أشكال الخلافة في القرن الماضي. ونفد معها رصيد دينامية المطالبة النضالية بها والمدافعة من أجلها.
في المائة عام الأخيرة لم نجد في المنطقة العربية تنظيرا يمكن أن نقف عنده، حول إعادة بناء العقد الاجتماعي والسياسي. بالمقابل ساد الفكر المطلبي للحقوق التي رأى الفاعلون الأساسيون أنها واجب المرحلة.
مرحلة كمون
يدخل عدد من الأفكار الأساسية التي راجت في المائة عام الماضية مرحلة كمون. أفكار طرحها القوميون واليسار والإسلاميون، وأفكار طرحتها الأنظمة السياسية. إن العامل المشترك بين عدد منها هو افتقارها إلى عنصر”التحفيز” الشعبي. لقد ظهرت فكرة الخلافة مباشرة بعد سقوط الدولة العثمانية بشكل رسمي، ونشأت على قاعدتها كتابات ومشاعر محدودة، لا تنظيرات لهذا النمط من الحكم في الإسلام.
كانت تفكيرا نخبويا لم يخرج عن دائرة المجموعات التي آمنت بإمكانية ذلك. وعلى نفس المنوال مضى التفكير في الدولة الإسلامية، والأمة وتطبيق الشريعة، بعيدا عن التحفيز. أما الفكرة الجهادية فلم تستند إلى مرجعية دينية إجماعية، بل ظلت عبارة عن تأويلات لمجموعات مختلفة، احتاجت توظيفها ضمن إطار الصراع السياسي مع السلطة. لم تتمتع الفكرة الجهادية بالحس المقدس للجهاد، إلا في مرحلة مقاومة الاستعمار الأجنبي. إن قضايا التراث، وأسلمة المعرفة والحداثة والنهضة، لم تتمكن من تحفيز الوعي العام لشعوب المنطقة.
الأفكار التحفيزية
تسببت الفكرة العلمانية في ردة فعل واسعة نحو التمسك بالهوية. ويبدو أن التحفيز هنا يرجع إلى عامل التحدي والشعور بالخطر على الدين. إن أهم فترات النهوض في تاريخ المسلمين كان استجابة للتحدي الخارجي فكريا وعسكريا.
المقاومة، والإصلاح السياسي كانا أكثر تحفيزا لشعوب المنطقة. بالإضافة إلى فكرة الحل الإسلامي، التي حفزت الجانب الشعوري لدى المسلمين. وكان الإسلام السياسي نفسه لفترات طويلة فكرة تحفيزية في القرن الماضي.
أما بالنسبة للمائة عام المقبلة، فإذا لم تحدث موجة “أفكار تحفيزية” في المنطقة، فلن يكون لأي عمليات تغيير قيمة كبيرة. لأن إحداث أي تقدم في التاريخ يحتاج إلى أفكار ونظريات تدافعية.
دينامية التدافع أكبر ضحية
الأفكار المحفزة هي المقدمة الأساسية لاشتغال دينامية “التدافع”، التي تعتبر شديدة الارتباط بوجود الأفكار الكبرى، التي يحتشد حولها الناس. وبغير هذا الصنف من الأفكار، لا قيمة للتدافع كأحد أهم عناصر الهوية الإسلامية. لقد كان الشعور بالتدافع أحد أكبر المحفزات بالنسبة للفكر الإسلامي في القرن الماضي. كان التدافع هو ما جعل الناس العاديين من الآباء والأمهات والأبناء، منذ تسعينيات القرن الماضي يلتصقون بمقاعدهم لمشاهدة برامج الجدال الإعلامي الحاد، بين مكونات المنطقة حول الدين والعلمانية والاستبداد والديمقراطية والحريات والحقوق.
كثير منا مازال يتذكر المشاعر التي كانت تنتابه حينها، انتصارا لفكرة دون أخرى، أو لطرف دون آخر، ممن كانوا يمثلون الآخر المعارض، أو الآخر النظام والسلطة. إنني أشتاق في الآونة الأخيرة أن أمر من إحدى الحارات، وأسمع نقاشا محتدما بين إسلامي ويساري. ولكي تستحق الأفكار أن توصف بأنها كبرى، وجب أن تمتلك عنصر التحفيز للمجتمعات، تفاديا للطابع التجريدي لعدد من الأفكار، التي لم تحرك الناس كثيرا. إن فكرة الهوية والمقاومة والإصلاح السياسي، قد حفزت شعوب المنطقة، لكن أفكارا أخرى مثل تطبيق الشريعة لم تحدث نفس درجة التحفيز، بسبب سوء طرحها في التوقيت والكيفية وسوء عرضها.
لقد طرح المسلمون أفكارا عديدة، فكان بعضها مفتقرا للفاعلية والتحفيز. وبعضها يصعب تطبيقه بسبب غياب الهياكل والمؤسسات، التي يشتغل من خلالها فقط، وفق قانون ميكانيكي، مثل ارتباط تطبيق الشريعة بوجود المؤسسات. في حين أصبحت بعض أهم الأفكار في القرن الماضي سببا للاختلاف المتجدد.
هل ماتت أفكار القرن الماضي؟
ساد تحليل في المنطقة بدءا من منتصف القرن العشرين، يصنف الأفكار إلى كونها ميتة ومميتة وقاتلة. ومع التقدير لأصحابها إلا أن الأفكار حقيقة لا تموت، لكنها تتخذ في بعض المراحل صفة “الكمون”. وقد تعود للاشتغال في أي لحظة تاريخية، إذا توفرت لها شروط التحفيز. إن فشل فكرة الخلافة أو الدولة الإسلامية، والأمة والإجماع، وتطبيق الشريعة، لا يعني موتها كأفكار. بل يعني فقط فقدانها في لحظة معينة، لعامل التحفيز والفاعلية.
لم يتم تقديم الكيفية الافتراضية والعملية لموت الأفكار، وكيفية تحولها إلى أفكار قاتلة. إن البعض يعتقد بموت أفكار المعتزلة مثلا، حتى يتفاجأ بتوظيفها من طرف الحداثيين العرب، بل تصريحهم بالاستناد إلى عدد من مقولاتها. إن فكرة المهدوية التي تأسست على قاعدتها دول في المغرب والمشرق، كانت تظهر أحيانا وتكمن فترات، حتى يكاد يطويها النسيان، ثم تنبعث في زمن ومكان بشكل مفاجئ غير متوقع.
الناس عندما لا يجدون حلولا لواقعهم يسافرون عبر التاريخ، تفتيشا عن حلول وأفكار في مكان ما، لإعادة إحيائها والعمل بها. إن شخصا مثل هتلر كان جالسا في مكان ما، ففكر في استعادة الرايخ الألماني، الذي كان يبدو للكثيرين أنه فكرة ميتة. وبنفس الطريقة فكر إيفان المرعب في روسيا باستعادة فكرة الإمبراطورية الرومانية، في صيغة أورثوذوكسية روسية، لا كاثوليكية رومانية. وفي الثورة الفرنسية استخدم الجمهوريون المتشددون أمثال روبيس بيير، كثيرا من مصطلحات الإمبراطورية الرومانية المقدسة. بل كان العمال الفرنسيون ينظرون أحيانا إلى أنفسهم كأنهم مقاتلو سبارطا المتمردون على الرومان. وسيأتي في المنطقة من يحدث الناس مرة أخرى عن فكرة الخلافة من جديد، بعد أن ظن الناس أنهم قد انتهوا منها، في عالم ما بعد الحداثة.
إن الدراسات الجينية الحديثة المتعلقة بطرق التفكير الإنساني ترفض الاعتراف بموت الأفكار، التي قد تدخل مرحلة كمون، لتظهر من جديد على شكل طفرة جينية في أحد الأجيال. تماما مثل الفكرة الجهادية التي تظهر بحدة في جيل دون آخر. حيث تستدعي لنفسها فكر عالم مضى على موته قرون عديدة.
حرمة الدماء والأموال
الأفكار التحفيزية للمجتمعات ينبغي أن تكون بسيطة، يسهل من خلالها صناعة الوعي العام. لكن دعونا نقول عمليا إن أهم فكرة في اجتهادي بالنسبة للمرحلة القادمة، هي تفعيل مفهوم” حرمة المال والدم” في الوعي العربي والإسلامي، لما لهذا الأمر من سطوة بالغة على السياسة والاجتماع.
إن دماء المسلمين مثل أموالهم، وعلى أهل المقاصد الفكرية والشرعية، أن يشتغلوا على مثل هذا. فلم تُمس الأمة في أكثر من هذين الأمرين، ومن ثم صناعة الوعي العام من حولهما. العقود القادمة ينبغي أن تكون حول الدماء والأموال، فقها وفكرا وسياسة وشعورا مجتمعيا. إن المنطقة تفتقر إلى النبل السياسي والمالي، والممارسة السياسية النبيلة التي تحفظ الدماء والأموال.
لابد من تأجيل الحديث عن إمكانية قيام صحوة في المستقبل القريب، لأن شرطها الأساسي التحفيزي، في أدنى مستوياته حاليا. الاستفاقة تكون بعد صدمة قوية مثل تلك التي حدثت في القرن الماضي، مع حدثين عظيمين، هما سقوط الخلافة والاستعمار الغربي، الذي ولد حالة صحوة في المنطقة. إن أهم فكرة ستكون حاضرة في المستقبل القريب، هي حول إعادة صياغة الإسلام في المنطقة كما تطرحها بعض الدول، وهي نفس الفكرة التي سوف تؤدي إلى رد فعل، في شكل أفكار أكثر جذرية وشمولية، إذا تم الذهاب بها بعيدا.
إعادة صياغة الإسلام وفق مبدأ التماهي مع العالم، من دون أدنى حساب للحدود الثقافية للمسلمين، وبسبب عدم تلبية هذا المنهج لتكوين المنطقة تاريخيا ودينيا وشعوريا، سوف يعجل برفع منسوب التحدي والتحفيز بالنسبة للأفكار الكامنة. سوف يتم التقليل من شأن فكرة التدافع إلى الحد الأقصى في المستقبل. إنك كلما نزلت بمعدل ودرجة حضور فكرة التدافع، إلى حد التماهي مع الآخر، كلما تسببت في تكون رد فعل مضاد شمولي، في تبني التدافع وجعله محور الرؤية من جديد.
إن الأفكار التي طرحتها مختلف الدول العربية في القرن الماضي، لم تكن تتعلق بالإصلاح السياسي. حيث كانت تلك الأفكار تنشأ من منطلق الاستجابة لتحديات الخصوم والمعارضين من اليسار حتى الإسلاميين. نستطيع القول إن أفكار السلطة كانت مجرد توظيف لما هو موجود من المقولات بشكل براغماتي. لقد طرح عدد من دول المنطقة مرارا فكرة إصلاح المؤسسات الدينية، وإعادة تفسير الإسلام في المنطقة، وفق فكرة الوسطية. وهو ما يشترك في طرحه عدد من الإسلاميين. والمحصلة غموض زائد في المفهوم. فما اعتبرته الدول وسطية، اعتبرها كثير من الإسلاميين تراجعا وتراخيا واستهتارا. وما اعتبره الإسلاميون وسطية، رأت فيه الأنظمة تطرفا وتشددا. ومع تزايد الغموض حول فكرة الوسطية، فقدت عنصر التحفيز والفاعلية في المنطقة.
كاتب مغربي
المصدر: القدس العربي