عبد الباسط سيدا
يعاني النظام الإيراني، رغم حرصه على الظهور في هيئة القوي المتحكّم، من أزماتٍ ومشكلاتٍ داخلية عميقة الجذور تهدّد كيانه؛ يحاول التغلّب عليها، أو إرجاء تَفَجُّرها على الأقل، بأكثر أساليب القمع وحشية. وهو يستغلّ المعادلات الإقليمية والدولية، وظروف الاستقطاب الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالات تصاعدها واتّساع نطاقها، فالنظام المذكور، على الصعيد البنيوي الخاص به، يعاني من التناقضات الداخلية بين أجنحة الحكم المتنافسة والتيارات المتشدّدة والإصلاحية. أما على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، فهو يعاني من أوضاع اقتصادية سيئة، نتيجة العقوبات الغربية، وتكاليف الحروب التوسّعية التي يشنها على مختلف الجبهات. كما يواجه تنامي التذمّر بين صفوف الشباب والنساء من مختلف المكونات المجتمعية الإيرانية، وذلك نتيجة البون الشاسع بين تطلعات الإيرانيين والإيرانيات، والسقف الذي تحدّده القواعد والإجراءات التي تتمحور بصورة أساسية حول أولوية حماية النظام واستمراريته. وهذه الأخيرة تشمل اختيار المرشّحين للانتخابات على جميع المستويات، وتنظيم حملات التجييش والإثارة والاحتجاجات المضادّة، وتسويق الأضاليل عبر مختلف وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي والقنوات المجتمعية، واستخدام المؤسسات الدينية لشرعنة سياساته وممارساته.
بالإضافة إلى ذلك، تسبّبت سياسات النظام في التعامل مع القضايا القومية الخاصة بالمكوّنات غير الفارسية من حين إلى آخر في حدوث انتفاضات في مختلف المناطق الإيرانية، خصوصا في منطقة كردستان والأحواز (عربستان وبلوشستان)؛ وهي انتفاضات تهدّد، في حال تفاعلها مع مطالب سائر الإيرانيين، وتحولها إلى مد شعبي عام، وجود النظام نفسه، وهو الأمر الذي لم يحصل نتيجة اعتماد القمع الوحشي في عمليات وأد تلك الاحتجاجات، هذا إلى جانب الأساليب الاستمالية لتمزيق الصفوف.
وقد جاءت حادثة قتل أجهزة النظام الشابة زينا (مهسا) أميني ابنة 22 ربيعاً لتثير الاحتجاجات بين صفوف الإيرانيين المناهضين للنظام في مختلف المناطق، خصوصا في المدن الكبرى وفي مقدّمتها طهران، وكذلك في منطقة كردستان موطن المغدورة، فقد كانت تلك الجريمة الشرارة، كشرارة محمد البوعزيزي في تونس عام 2010/2011، التي أضرمت النار في الهشيم الإيراني الذي يجسّد حصيلة أربعة عقود من الحكم الثيوقراطي المتشدّد الذي بدّد الموارد البشرية والمادية الإيرانية، وتسبب في خلخلة بنية مجتمعات المنطقة ودولها (العراق، سورية، لبنان، اليمن)، وذلك في سياق استراتيجية لفت الأنظار عن انهيارات الداخل ومظالمه، وتوجيهها نحو النجاحات المزعومة في الخارج.
وأمام تنامي نطاق انتفاضة الإيرانيين والإيرانيات واتساعه، اعتمد النظام الخطة ذاتها التي اتبعها بشار الأسد بناء على إرشادات النظام نفسه، لمواجهة ثورة السوريين في غالبية المدن والبلدات السورية، وهي الثورة السلمية التي شارك فيها الشباب بالدرجة الأولى من جميع المكونات السورية المجتمعية. ومحور هذه الخطة تسويق زعم زائف مفاده وجود مؤامرة خارجية تستهدف النظام من خلال تحريك الناس في الداخل؛ هذا إلى جانب اعتماد سياسة إحداث الشروخ بين المكونات المجتمعية، وتسويق الأباطيل عن وجود مخاطر مزعومة تهدّد وحدة الأراضي الإيرانية وسلامتها.
ومن الملاحظ في الحالة الإيرانية أن هناك تركيزاً على العامل الكردي سواء في الداخل الإيراني أم في إقليم كردستان العراق المجاور، فداخلياً وجد النظام ضالته في الأحزاب الكردية الإيرانية ليتهمها بأنها وراء استمرارية الاحتجاجات في منطقة كردستان، في محاولة منها لبلوغ أهدافها التي تهدد وحدة البلد وسلامته وفق مزاعم النظام. ولكن حملات النظام التضليلية، رغم تركيزها على الكرد بصورة أساسية، تتهم العرب والبلوش أيضاً، بل تستغل تلك الحملات النزعات القومية والمذهبية لمنع الإيرانيين من التوافق والوحدة في مواجهته.
يقدّر عدد الكرد في إيران بين ثمانية ملايين وعشرة ملايين (لا توجد إحصائيات دقيقة ولكن تقديرات ترى نسبتهم بين 10-15% من مجموع السكان)، ومعظمهم من السنة، ولديهم تطلّع قوي منذ بدايات القرن الماضي نحو الحصول على حكم ذاتي يحترم خصوصيتهم، ويضمن حقوقهم، ويبعدهم عن سياسات القمع والتمييز التي كانت في مرحلة حكم الشاه، واستمرّت هذه التطلعات في العهد الجمهوري الإسلامي أيضاً.
وتجدر الإشارة هنا إلى جمهورية كردستان ذات الحكم الذاتي التي أعلن عنها قاضي محمد في مدينة مهاباد عام 1946 بدعم من الحكم السوفييتي في عهد ستالين؛ غير أن التسويات الدولية التي جرت لاحقاً، خصوصا التي كانت بين الإنكليز والروس، أدّت في ما بعد إلى القضاء على تلك الجمهورية بعد مرور نحو عام على تأسيسها في عهد حكم محمد رضا بهلوي، وجرى إعدام قادتها، وفي مقدمتهم قاضي محمد نفسه، لكن الصراع بين الكرد ونظام الشاه استمر رغم كل القمع الذي مارسه الأخير ضدهم.
ومع انطلاقة الاحتجاجات والمظاهرات في مختلف أنحاء إيران ضد حكم الشاه عام 1979، كان الكرد في مقدّمة المحتجين والثائرين على ذلك الحكم. وأسهمت أحزابهم وشخصياتهم الدينية في الثورة على نظام الشاه، ويشار هنا بصورة خاصة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب كوملة والشيخ عزالدين الحسيني. وفي البداية، حصل الكرد على وعود من الخميني نفسه بأن الأمور ستكون إيجابية لصالح الجميع؛ ولكن سرعان ما تم التنصّل من تلك الوعود، وبدأت الصدامات والتصفيات، وتم اغتيال الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، عبد الرحمن قاسملو، في أثناء ترؤّسه وفد المفاوضات مع الجانب الإيراني، في فيينا في 13/7/1989، ثم اغتيل خليفته صادق شرفكندي في برلين في 17/ 9/ 1992.
وفي إطار سياسة التمدّد ضمن المجتمع الكردي بغية التحكّم فيه، تبنّى النظام الإيراني حزب العمّال الكردستاني، بالتنسيق مع نظام حافظ الأسد، منذ بدايات ثمانينات القرن المنصرم؛ وما زال هذا التوجه مستمراً. وبعد اعتقال الأمن التركي زعيم الحزب عبدالله أوجلان عام 1998 في كينيا، أجرى الحزب سلسلة من التعديلات التنظيمية، فشكّل تنظيماً خاصاً بالكرد في إيران، حمل اسم حزب الحياة الحرّة الكردستاني (بيجاك) وهو المعادل الإيراني لحزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، فهو الفرع الإيراني لحزب العمّال الكردستاني. ورغم ادعاءاته أنه يعمل لصالح الكرد في إيران، إلا أنه في الواقع أداة بيد النظام الإيراني لمحاربة الأحزاب الكردية والتضييق عليها، وهي الأحزاب المعروفة بتاريخها الطويل في مناهضة النظام.
أما قصف النظام الإيراني المستمر مواقع ضمن إقليم كردستان العراق، فهو أمر يُراد به توجيه عدة رسائل في مختلف الاتجاهات. الأولى موجهة إلى الداخل الإيراني، لتحويل الأنظار نحو خطر الانفصال المزعوم الذي تفكّر فيه الأحزاب الكردية التي لديها مقرّات في مناطق مختلفة من إقليم كردستان. مع العلم أن هذه الأحزاب لا تقوم راهناً بأي نشاط عسكري فاعل ضمن الأراضي الإيرانية، ولا تمثل خطراً على النظام. ولكن الأخير (وهذه الرسالة الثانية) يحاول إحراج القيادات الكردية العراقية، والرئيس مسعود بارزاني تحديداً، عقاباً له على دوره الفاعل في بناء التحالف بين كتلة السيادة السنية في البرلمان وكتلة التيار الصدري إلى جانب كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني، بهدف تأسيس تحالف وطني عراقي عابر للقوميات والمذاهب، ومثل هذه الخطوة إذا ما كانت قد أفلحت فإنها كانت ستوجّه ضربة قاصمة للمشروع الإيراني في العراق. وهذا ما يفسر الضغط الإيراني على الإقليم، تارة بحجّة وجود إسرائيليين هناك، وتارة بحجة الوجود الأميركي، وهذه المرّة بذريعة وجود الأحزاب الكردية الإيرانية.
هذا في حين أن الجميع يعلم أنه لولا غضّ النظر الأميركي، بعد إسقاط نظام صدّام حسين عام 2003، لما وصلت إيران إلى ما بلغته في العراق. كما أن الجميع يعلم أنه إذا كانت إيران جادّة في مواجهة الإسرائيليين والردّ عليهم، فهي تستطيع أن تفعل ذلك في جنوب لبنان أو جنوب سورية، فإسرائيل هناك قريبة جداً، محاذية للحدود مباشرة، وإيران تمتلك هناك الإمكانات العسكرية عبر ذراعها حزب الله وسلطة بشار الأسد، بل عبر قواتها هناك.
وبناء على تقدّم، واضح أن هناك عملية خلط الأوراق، والهدف الحقيقي الضغط على الإقليم، والحزب الديمقراطي الكردستاني تحديداً، لإجباره على التوجه نحو التوافقات مع الأطراف العراقية المرتبطة بالنظام الإيراني أو المحسوبة عليه ضمن الإطار التنسيقي. وتوجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وحلفائها أن مصير الوضع العراقي هو بيد النظام المعني وليس غيره.
انتفاضة الإيرانيات والإيرانيين مستمرّة، وهي في تصاعد مستمر، رغم تصريحات المسؤولين، بمن فيهم الرئيس نفسه، عن قرب السيطرة على الوضع، فالتراكمات السلبية عقودا، والصراعات البينية، سواء المبطنة أم التي تطفو على السطح بين أجنحة الحكم، تؤكّد أن الأوضاع في إيران لن تستمر على ما كانت عليه، وأن نظام ولي الفقيه سيضطر في المدى المنظور لإعادة النظر في كثير من سياساته وممارساته، أو أنه سيتعرّض لعملية تآكل من الداخل، تسفر لاحقاً عن تغييرات بنيوية قد تكون مؤثرة في طبيعته ووظيفته.
المصدر: العربي الجديد