أكرم البني
3 حقائق يمكن استخلاصها بعد اجتياح «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) لمدينة عفرين ومحاصرة الفيلق الثالث بمنطقة كفر جنة، الذي يضم فصائل متعددة، منها «الجبهة الشامية» و«جيش الإسلام»، ما أدى لسقوط كثير من القتلى والجرحى، قبل تدخل القوات التركية وإجبار الهيئة على الانسحاب باتجاه إدلب، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
أولاً، أكد الاجتياح الماهية الحقيقية لـ«هيئة تحرير الشام»، كمنظمة إرهابية متشددة وأمينة لنهج «القاعدة»، وأسقط محاولاتها الخادعة خلال الأعوام المنصرمة لتغيير جلدها وإظهار نفسها كطرف معتدل يمكن التعاطي معه، خاصة بعد إعلان زعيمها «الجولاني» (عام 2016) فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة»، والتخلي عن اسم «جبهة النصرة» على أمل أن يساعده الاسم الجديد والمعارك التي أكره على خوضها ضد «تنظيم داعش»، في التخلص من وصمة الإرهاب؛ حيث لم يطل الوقت حتى رجعت حليمة لعادتها القديمة، وأظهر الهجوم العسكري المفاجئ لـ«هيئة تحرير الشام» على عفرين أنها لا تزال تنتهج النهج التصفوي القديم نفسه تجاه المنافسين لها، وتالياً فضح زيف الادعاءات التي روجت لها منذ مطلع عام 2019، تاريخ آخر مواجهة لها مع فصائل «الجبهة الوطنية للتحرير» حول رغبتها في العمل التشاركي وتخليها عن فكرة الاستئثار والإقصاء وعن أساليب استخدام القوة لإنهاء وجود جماعات إسلاموية لا تتفق معها، زاد الطين بلة مناصرة «هيئة تحرير الشام» في اجتياحها لعفرين لجماعات مسلحة متهمة بالانتهاكات والفساد وترويج المخدرات وبعمليات اغتيال أهم ناشطي المجتمع المدني، مثل فرقتي «الحمزة» و«السلطان سليمان شاه» ثم قراراتها الجائرة بفرض نمط حياتها المتشدد، وخاصة تجاه المرأة، في المناطق التي اجتاحتها.
ثانياً، ما كان لـ«هيئة تحرير الشام» أن تتجرأ على اجتياح عفرين لولا وجود ضوء أخضر خفي من الجانب التركي، وما كان لها أن تخرج من المدينة وتعود إلى مواقعها السابقة إلا استجابة لطلب أنقرة، ليس فقط لأن ثمة موقفاً أميركياً دعا على الفور لانسحاب الهيئة من عفرين، وأعلن عدم قبوله سيطرة «منظمة إرهابية» على المنطقة، أو لأن هذا التطور يمنح روسيا وإيران والنظام ذريعة قوية لاستهداف المناطق التي تقع تحت النفوذ التركي، وإنما أساساً لأن لأنقرة مصلحة في إدارة ما جرى وبالحدود التي تمت، والقصد توسلها عصا «هيئة تحرير الشام» لتحقيق بعض الأهداف المباشرة، بدءاً بتأديب بعض فصائل الجيش الوطني وإعادتها إلى الخنوع بعد تواتر التصريحات من قادة عسكريين عن رفضهم احتمال التقارب بين تركيا والنظام السوري، وتوجه بعضهم لإجراء اتصالات مع القوات الأميركية في شرق سوريا ومع حليفتها «قسد» لتفادي ما ينتظرهم، إن تم التقارب، وفي الطريق «قرص أذن» سكان الشمال الذين سيروا مظاهرات رافضة لانفتاح حكومة أنقرة على النظام وصلت إلى إحراق العلم التركي، مروراً بتخفيف عبء التحفظات والتحذيرات تجاه ما تمارسه من ضغوط لإجبار اللاجئين السوريين على العودة، بما في ذلك تسويغ السيطرة المباشرة لقواتها على معابر تجارية ومدنية مهمة، تضمن من خلالها أمن التبادل التجاري والتنقل مع مناطق سيطرة النظام، انتهاءً بتوظيف التلويح بوجود قوة إسلاموية متشددة يمكنها تسلم منطقتي نفوذها «درع الفرات» و«غصن الزيتون» من أجل تمرير وترسيخ التغييرات الديموغرافية التي أحدثتها في عفرين وما حولها.
لقد فعلت تركيا ما ينبغي كي يرى العالم ما يمكن أن يحدث فيما لو وقفت على الحياد، ولتثبت أنها الأقدر على ضبط «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الفصائل الإسلاموية المسلحة، متوخية نيل المشروعية لتعزيز حضورها العسكري في شمال البلاد، ما يقوي أوراقها في تقرير المصير السوري ومحاصرة الوجود السياسي والعسكري الكردي وتحجيم مخاطره.
ثالثاً، وضوح موقف شعبي رافض بقوة لتمدد «هيئة تحرير الشام»؛ حيث خرج الأهالي بمدن أعزاز ومارع وصوران بريف حلب الشمالي، والباب وجرابلس بريف حلب الشرقي، في مظاهرات حاشدة ورافضة لدخول «جبهة النصرة» إلى مناطقهم، ربما لأن السوريين لا يرفضون فقط «هيئة تحرير الشام» لأنها تمثل الجهة الأسوأ من الفصائل الإسلاموية، وإنما أيضاً لأن لهم مآخذ كثيرة عليها، تتعلق بسياساتها وارتباطاتها، وبغموض هوية أهم قادتها وخاصة زعيمها «الجولاني»، فكيف الحال حين يكشف اجتياحها لعفرين عن حجم ونوعية من الأسلحة والمعدات العسكرية التي تمتلكها لم تظهرها في معاركها مع النظام وحلفائه، من دون أن يغيب عن الذاكرة انسحاباتها العسكرية غير المبررة من بعض البلدات والقرى لتستولي عليها قوات النظام السوري بسهولة!
ولا يغير الحقيقة السابقة وجود أصوات أبدت الارتياح لقدوم «هيئة تحرير الشام» لحكم مناطقهم، ليس حباً فيها، بل ربما انتقاماً أو كردّ فعل على ما عايشوه من فوضى الفصائل والجماعات المسلحة وتزايد انتهاكاتها وفسادها، وربما يحدو بعضهم رهان على أن تفضي سيطرة تنظيم مصنف على قوائم الإرهاب على عفرين إلى تسهيل عملية طرده من قبل قوات التحالف كما حصل مع «تنظيم داعش».
والحال، أدرك غالبية السوريين أخيراً أنهم نكبوا بنظام مارس كل أنواع الفتك والتنكيل والتدمير ضدهم، وأيضاً بمنظمات إسلاموية متطرفة هدرت تضحياتهم، وبلورت زعامات دينية مستبدة تعادي حقوقهم وشعاراتهم، مستقوية بثقافة أرستها عقود من الاستبداد، تعزز الغلو والتطرف وروح التفرد والأنانية والاستئثار، ما يفسر إجماع هذه المنظمات على استسهال هدر دم البشر في محاولات التنافس المحموم على توسيع النفوذ، أو بحثاً عن موارد ومصادر تمويل من نفط وآثار وغاز وسيطرة على المنافذ الحدودية وغيرها، والأهم ابتزاز الناس ومصادرة ممتلكاتهم والاستئثار إرهاباً، بما يقدم لهم من مساعدات ومعونات عربية ودولية، هذا عدا دورها المدمر لشروط حياتهم بما تشهده مناطقها من تدهور صحي وتعليمي، وغلاء فاحش وغياب فرص العمل وشيوع الفوضى وانتشار التهريب وتجارة المخدرات، وغيرها من الظواهر التي حوّلت عيش السوريين في الشمال إلى جحيم لا يطاق، والأسوأ إجماعها على ممارسة كل أنواع القهر والاضطهاد وعلى اعتقال واغتيال الناشطين والمعارضين وجعل البشر حطب محرقة ومجرد دروع بشرية تخوض بهم حروباً عبثية لم يعد لهم فيها ناقة ولا جمل.
المصدر: الشرق الأوسط