كينيث إس روغوف
في أعقاب التباطؤ الاقتصادي الناجم عن الجائحة، فاجأت أزمة التضخم التي شهدتها السنتان الماضيتان قسماً كبيراً من العالم على ما يبدو. وبعد ثلاثة عقود من ارتفاع الأسعار بمعدلات بطيئة، في مختلف الاقتصادات المتقدمة في العالم، واجهت المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومنطقة اليورو فجأة تضخماً يقارب معدله مستوى 10 في المئة أو يتجاوزه. وترتفع الأسعار في كثير من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية في شكل أسرع، بل تجاوز معدل التضخم 80 في المئة في تركيا، وشارف على 100 في المئة في الأرجنتين.
صحيح أن معدل التضخم في مختلف أنحاء العالم، في عشرينيات القرن الـ21، لا يقارن إلى الآن بأسوأ أزمات التضخم في العقود الماضية. فخلال سبعينيات القرن الـ20 ظلت الزيادة السنوية في الأسعار، في الولايات المتحدة، أعلى من ستة في المئة لـ10 سنوات، فبلغت 14 في المئة عام 1980، وسجل معدل التضخم في اليابان والمملكة المتحدة ذروة فاقت 20 في المئة. وفي البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، كانت أوائل التسعينيات أسوأ من ذلك فتجاوزت معدلات التضخم، في أكثر من 40 بلداً من هذه البلدان، 40 في المئة، وبلغ بعضها ألفاً في المئة أو أكثر. وعلى رغم ذلك، تحرك الاقتصاد العالمي عامي 2021 و2022 في اتجاه يبعث قلقاً عميقاً، مع اكتشاف الحكومات والجهات الواضعة للسياسات متأخرة أنها تواجه زيادات جامحة في الأسعار، وذلك في خضم حرب في أوكرانيا وصدمات أخرى واسعة النطاق.
والناخبون لا يحبون التضخم ولا الركود. وفي استطلاع أجراه “مركز بيو للبحوث” في أغسطس (آب) 2022، قال أكثر من ثلاثة من أربعة أميركيين شملهم الاستطلاع (77 في المئة) إن الاقتصاد هو مسألتهم الانتخابية الأولى. وحتى في سبتمبر (أيلول)، عندما استقرت الأسعار في الولايات المتحدة بعض الشيء، تبين في استطلاع أجراه “معهد ماريست” أن التضخم ظل المسألة الرئيسة في نظر الناخبين، قبل الإجهاض والرعاية الصحية. وعلى غرار كثير من الانتخابات، قد تدور انتخابات منتصف الولاية الرئاسية عام 2022، في نهاية المطاف، حول مسائل غير اقتصادية، لكن حال الاقتصاد تتبوأ مكانة عالية على صعيد تفضيلات الناخبين المتوقعة، ويدرك الساسة ذلك.
وعلى رغم أن قسماً كبيراً من المناقشة حول التضخم الجديد يركز على العامل السياسي والحوادث العالمية، لا تقل مسألة سياسات المصارف المركزية والقوى التي تتولى صوغها أهمية. ولسنوات، افترض خبراء اقتصاد كثر أن التضخم روض في شكل دائم، بعدما أصبحت المصارف المركزية مستقلة. وبدءاً من التسعينيات، بدأ محافظو المصارف المركزية في عديد من البلدان تحديد مستويات مستهدفة للتضخم، وأصبح المستوى المستهدف، البالغ اثنين في المئة، جزءاً واضحاً من سياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي عام 2012. والواقع أن أغلبهم، في مرحلة متقدمة من جائحة كوفيد-19، حسبوا العودة إلى المعدل المرتفع للتضخم الذي شهدته سبعينيات القرن الـ20، غير معقولة. وخوفاً من ركود تتسبب فيه الجائحة، انشغلت الحكومات والمصارف المركزية، بدلاً من ذلك، بإعادة تشغيل اقتصاداتها. فاستبعدت الأخطار التضخمية التي تنجم عن الجمع بين برامج الإنفاق الواسعة النطاق ومعدلات الفائدة الشديدة الانخفاض. ولم ير سوى عدد قليل من الاقتصاديين أخطار حزم التحفيز الضخمة التي وقعها الرئيسان الأميركيان دونالد ترمب في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وجو بايدن في مارس (آذار) 2021، وضخت تريليونات الدولارات في الاقتصاد. ولم يتوقعوا المدة التي يستغرقها حل مشكلات سلاسل الإمداد من تلقاء نفسها، بعد الجائحة، ولم يقدروا مدى ضعف الاقتصاد العالمي في مواجهة تضخم مرتفع ومستدام، إذا وقعت صدمة جيوسياسية كبرى، على ما حصل حين غزت روسيا أوكرانيا. وبعدما انتظرت المصارف المركزية وقتاً أطول مما ينبغي، قبل أن ترفع معدلات الفائدة مع تفاقم التضخم، جهدت للسيطرة عليه من دون دفع اقتصاداتها، بل واقتصادات العالم أجمع، إلى ركود عميق.
وإلى معاناتها من العواقب المترتبة على التفكير الاقتصادي القصير النظر، حرفت أيضاً تغيرات سياسية واقتصادية ضخمة المصارف المركزية عن مسارها. وذلك أن عشرينيات القرن الـ21 بدأت الدخول في المرحلة الأكثر صعوبة في عمل المصارف المركزية منذ سبعينيات القرن الـ20، عندما كان الاقتصاد العالمي يعاني، في آن، من الحظر النفطي العربي وانهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم تبدو الصدمات العالمية العريضة والواسعة النطاق، مثل الحرب والجائحة والجفاف، متتالية بل متزامنة. ومن ناحية أخرى، تحولت قوى العولمة التي أسهمت، طوال قسم كبير من السنوات الـ20 الماضية، في دعم النمو البعيد الأجل، إلى رياح معاكسة، جراء الشيخوخة السكانية الداهمة في الصين والنزاعات الجيوسياسية المتنامية بين الصين والولايات المتحدة. ولا يصب أي من هذه التغيرات في مصلحة الإنتاجية والنمو، بل تساهم كلها في ارتفاع معدل التضخم، اليوم وفي المستقبل.
وتعتبر صدمات العرض، بطبيعتها، تحدياً يصعب على المصارف المركزية التصدي له. وإذا وقعت صدمة بسيطة من صدمات الطلب، إفراط في التحفيز مثلاً، وسع المصارف المركزية أن تستخدم معدلات الفائدة لتحقيق الاستقرار في مجالي النمو والتضخم. ولكن مع صدمات العرض، يتعين على المصارف المركزية أن تحتسب موازنات صعبة بين خفض معدل التضخم وبين الأكلاف التي تتحملها الشركات والعاملون نتيجة لانخفاض النمو وارتفاع معدل البطالة. وإذا كانت المصارف المركزية على استعداد لرفع معدلات الفائدة، على حسب الحاجة، لمعالجة التضخم، فإن استقلالها تقلص كثيراً عما كان عليه قبل عقدين. فالأزمة المالية، عام 2008، أضعفت شرعية المصارف المركزية السياسية من خلال تقويض افتراض أن سياساتها تعمل، في نهاية المطاف، لمصلحة الجميع. والحق أن كثيرين فقدوا مساكنهم ووظائفهم في أسوأ انتكاسة اقتصادية طرأت منذ الكساد الكبير. وبينما تناقش المصارف المركزية اليوم مقدار ضبط الطلب الواجب عليها فرضه، عليها أن تفكر في ما إذا كانت راغبة في المجازفة بالتسبب في ركود عميق آخر. وإذا كانت شبكة الأمان الاجتماعي الحكومية غير كافية في أثناء مدد الركود، ألا يتعين على المصرف المركزي أن يأخذ ذلك في الاعتبار؟ أما هؤلاء الذين يستبعدون مخاوف كهذه، بوصفها خارجة عن السياسة النقدية، الأرجح أنهم لم يقرأوا خطابات محافظي المصارف المركزية العقد الماضي.
وفي خضم سلسلة لا تنتهي من صدمات العرض، ربما تواجه المصارف المركزية أيضاً تحولاً بعيد الأجل، لم يأخذه في الحسبان إلى الآن لا واضعو السياسات ولا الأسواق المالية. وعلى رغم أن بعض المحركات المباشرة للارتفاع غير العادي في الأسعار، عامي 2021 و2022، ستتبدد في نهاية المطاف، إلا أن عهد التضخم الشديد الانخفاض والدائم لن يعود قريباً. وجراء مجموعة من العوامل، من بينها التخلي عن العولمة، والضغوط السياسية المتفاقمة، وصدمات العرض المستمرة مثل التحول إلى الطاقة الخضراء، قد يدخل العالم الآن مدة طويلة من المرجح فيها أن يستمر التضخم المرتفع والمتقلب، إنما بمتوسط لا يتجاوز 10 في المئة ولكنه يفوق اثنين في المئة إلى حد كبير. ويصر معظم محافظي المصارف المركزية على أنه ليس في مستطاعهم ارتكاب خطأ أكبر من السماح بدوام التضخم المرتفع مدة طويلة، يبدأ معها دفع توقعات التضخم البعيد الأجل بأي قدر ملحوظ. ومن الإنصاف القول إن أغلب خبراء الاقتصاد في وول ستريت يقبلون هذه الحجة. لكنهم ربما يواجهون اختيارات أكثر إيلاماً في العقد المقبل، وبكل تأكيد في المستقبل القريب. والواقع أن العواقب الاجتماعية والسياسية المترتبة على ركود عميق ينجم عن سياسات المصرف المركزي، ويأتي بعد أسوأ ركودين منذ الكساد الكبير (عامي 2008 و2020) – عميقة للغاية.
تقاذف المسؤوليات
ومنذ بدأ معدل التضخم الشهري في الولايات المتحدة في الارتفاع، في شكل حاد، في ربيع 2021، تنقسم مواقف واشنطن بين أولئك الذين يلقون التبعة على إنفاق إدارة بايدن المفرط على التحفيز، وأولئك الذين يرون أن السبب يرجع، في الأغلب، إلى عوامل عالمية خارجة عن سيطرة واشنطن. وكلتا الحجتين غير مقنعة إلى حد كبير. فمن الواضح أن وجهة النظر التي تنحي باللائمة على التحفيز مبالغ فيها إلى حد كبير، فبلدان العالم اليوم تشهد معدلات تضخم مرتفعة، على رغم الفروق الشاسعة في مدى تحفيزها لاقتصاداتها. وعلى رغم أن حزم التحفيز في المملكة المتحدة ومنطقة اليورو كانت أقل كثيراً، تعاني الاثنتان معدلي تضخم أعلى، حتى مقارنة بالولايات المتحدة، في حين تقل معدلات التضخم في أستراليا وكندا ونيوزيلندا. ويشير بعضهم إلى القيود التي فرضتها إدارة بايدن على خطوط الوقود الأحفوري واستكشافه، باعتبارها عاملاً مساهماً في التضخم، ولو أن الآثار الرئيسة في الإنتاج والناتج ربما تظهر في المستقبل.
وعلى رغم هذا، فمن قبيل الخطأ إلقاء معظم اللوم في شأن التضخم على حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، أو حرب الرئيس الصيني شي جين بينغ على كوفيد-19، أو أعطال سلاسل الإمداد بعد الجائحة. فمن ناحية، كانت الأسعار ترتفع بالفعل في الولايات المتحدة عام 2021، قبل مدة طويلة من غزو بوتين أوكرانيا. وتجلى التضخم، في البداية، في بلدان مختلفة بأساليب مختلفة تماماً. وفي أنحاء كثيرة من العالم، كانت أكلاف الأغذية والطاقة من أرجح العوامل الرئيسة. وفي الولايات المتحدة أصابت الزيادات البارزة أسعار الإيجارات والمركبات والملابس والترفيه. وفي المرحلة الحالية، تنتشر آثار الجولتين الثانية والثالثة في الاقتصاد، وتؤثر زيادات الأسعار بصورة أوسع في كثير من القطاعات.
يعتقد كثير من خبراء الاقتصاد أن الجاني الحقيقي هو مجلس الاحتياط الفيدرالي، الذي لم يبدأ برفع معدلات الفائدة حتى مارس 2022، وفي هذا الوقت كان معدل التضخم يرتفع ارتفاعاً حاداً منذ سنة. وكان هذا التأخير خطأ فادحاً، وإن كان اعتباره كذلك إدراكاً متأخراً وسهلاً، مع العلم بأن أسوأ آثار الجائحة كان يمكن السيطرة عليها بسرعة. وجذر الخطأ ليس في مجلس الاحتياط الفيدرالي وحده وفي موظفيه، بل في إجماع واسع النطاق، في صفوف خبراء الاقتصاد، الذين كانوا متشبثين إلى حد كبير برأي مفاده بأن قدراً أكبر مما ينبغي من التحفيز على مستوى الاقتصاد الكلي، أحوال عجز مرتفعة، ومعدلات منخفضة جداً للفائدة، أفضل كثيراً في أغلب الوقت من تحفيز أقل مما ينبغي من ذلك.
ولم يشكك أي أحد تقريباً في برامج الإنفاق الضخمة التي أجريت في مختلف أنحاء العالم، في المراحل المبكرة من الجائحة. والهدف من تمكين الحكومات من قدرة مالية عامة هو على وجه التحديد امتلاكها الموارد اللازمة لاتخاذ إجراءات واسعة النطاق لحماية الضعفاء في حال وقوع ركود عميق أو كارثة. والمشكلة هي موعد وقف هذه الإجراءات. وما لا شك فيه أن الإنفاق التحفيزي عمل سياسي، وفي الأغلب الذين يروجون لحزم إنقاذ كبيرة يدفعهم إلى ذلك فرصة لتوسيع البرامج الاجتماعية التي قد يكون من المستحيل، في الأوقات العادية، حصوله على موافقة الكونغرس عليه. وهذا أحد الأسباب التي تكبح إلى حد كبير النقاش حول تقليص التحفيز فور انتهاء الأزمة.
وبايدن تعهد، خلال حملته الانتخابية، توسيع الإنفاق الحكومي في حال انتخابه، لأهداف منها تيسير التعافي الاقتصادي في مرحلة ما بعد كوفيد، لكن الهدف الأساسي كان تشارك منافع النمو على نحو أكثر مساواة، وضخ موارد كبيرة في المعالجة الوطنية لتغير المناخ. وحاول ترمب، في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، إحباط طموحات منافسه الفائز، فيمرر حزمة خاصة به لإنعاش الاقتصاد من آثار كوفيد-19 بلغت قيمتها 900 مليار دولار. وذلك في ديسمبر 2020، على رغم أن الاقتصاد كان يتعافى تعافياً قوياً. وبعد ثلاثة أشهر فقط، وعلى رغم أن الاقتصاد كان يواصل التعافي، نجح الديمقراطيون في عهد بايدن في تمرير حزمة تحفيز جديدة بقيمة 1.9 تريليون دولار، مع تشجيع عدد من الاقتصاديين البارزين، بمن فيهم كاتب العمود في “النيويورك تايمز” الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان. وجادل كروغمان وآخرون بأن الحزمة ستعزز التعافي، وتوفر ضمانة في وجه موجة جديدة من الجائحة، وأن أخطار إشعالها التضخم لن تتجاوز الحد الأدنى.
دعهم ينفقون
أوائل عام 2021، كانت هناك أسباب تدعو إلى التشكيك في حكمة التحفيز الذي أقره بايدن. وفي تطور هو الأبرز، بادر لورنس سامرز، الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد ووزير الخزانة الأميركي السابق، إلى التحذير من إفضاء مشروع القانون المزمع إلى التضخم. وعلى رغم أن التضخم الخطر توارى طوال عقود، قدم سامرز معطى بسيطاً ومقنعاً. قال إن ضخ تريليونات الدولارات في اقتصاد يشهد قيوداً شديدة على العرض، إلى بعض النقص المتواضع في الطلب، يترتب عليه أثر تضخمي بالضرورة. فإذا حاول عدد أكبر مما ينبغي من الناس شراء السيارات في الوقت نفسه، ويملكون المال اللازم للقيام بذلك، ارتفعت أسعار السيارات.
وكان أحد العناصر الرئيسة في حجة سامرز أن النهم الاستهلاكي الذي غذاه التحفيز لن تلبيه جهات موردة أجنبية، بما في ذلك الصين. وعادة، عندما ينهمك المستهلكون الأميركيون في الإنفاق، يوفر العجز التجاري الأميركي منفذاً جزئياً على الأقل للضغوط السعرية الداخلية، إذا تجاوز الطلب الأميركي الإنتاج الأميركي، يمكن أن يستمر الأميركيون في شراء منتجات مستوردة. ولكن في ربيع 2021، مع خروج الاقتصاد الأميركي من الجائحة بوتيرة أسرع من معظم الاقتصادات ومع وقوع خطوط الإمداد العالمية في فوضى أكبر مقارنة بخطوط الإمداد الأميركية المحلية، كان توافر البضائع الأجنبية محدوداً. وعلى رغم اختلاف خبراء الاقتصاد حول الرقم الدقيق، يقدر تخمين معقول أن الطلب الزائد كان مسؤولاً عن نصف الارتفاع التراكمي في الأسعار، في الولايات المتحدة بعد الجائحة مباشرة.
في مواجهة هذه الفجوة الضخمة بين الطلب والعرض المتاح، كان بوسع مجلس الاحتياط الفيدرالي أن يتدخل ويتخذ التدابير اللازمة. ولا يستطيع المجلس تغيير طريقة اختيار الحكومة استعمال أموال التحفيز أو إبطال وجوه القصور التي قد تترتب عليها. لكن المجلس يملك أداة قوية تمنع الطلب الزائد من توليد تضخم مرتفع، هي، على وجه الدقة، معدل الفائدة القريبة الأجل الذي يسيطر عليه فعلياً. فمن خلال رفع معدلات الفائدة، يزيد مجلس الاحتياط الفيدرالي كلفة اقتراض المال، مما يخفض بدوره أسعار الأصول البعيدة الأجل كلها، من الأسهم إلى الأعمال الفنية. ومن بين الأمثلة الأكثر أهمية لهذه الظاهرة سوق الإسكان، التي تعد إلى حد كبير العنصر الأكبر في الثروة الشخصية لأغلب الأميركيين. ذلك أن معدلات الرهون العقارية الأعلى يجعل شراء المساكن أكثر كلفة، مما يخفض في نهاية المطاف قيمة المساكن. ويحد أثر التقلص في الثروة من الاستهلاك. وفي شكل أعم، لا تشجع معدلات الفائدة الأعلى الاقتراض وتشجع الادخار، ما يؤدي إلى تثبيط الطلب الاستهلاكي. وتدعو معدلات الفائدة الأعلى الشركات إلى إعادة تقويم مشاريع الاستثمار البعيدة الأجل، وخفض طلبها على العاملين في شكل مباشر وغير مباشر.
لكن قبل أن يقرر مجلس الاحتياط الفيدرالي سلسلة من الزيادات على معدلات الفائدة، كان عليه التأكد من أن ارتفاع معدل التضخم خطر جسيم فعلاً. وعلى رغم مكانة سامرز البارزة، بقيت وجهة نظره استثناء. ومع أن قلة من خبراء الاقتصاد المحترمين، بما في ذلك كبير خبراء الاقتصاد السابق لدى صندوق النقد الدولي أوليفييه بلانشار، سايروا تحذيراته، انتقدتها وول ستريت وأغلب الأكاديميين. ذلك أن معدل التضخم لم يرتفع إلى أكثر من أربعة في المئة لعدة عقود، وكان التقدميون الذين يهيمنون على فريق بايدن الاقتصادي يعتقدون أن الآثار التضخمية المترتبة على حزمتهم التحفيزية ستكون ضئيلة. فبأي حق يقاوم مجلس الاحتياط الفيدرالي سياسة راجحة انتهجتها إدارة وصلت إلى السلطة بناء على وعد بمساعدة الأميركيين العاديين، وتحظى بدعم كثير من خبراء الاقتصاد التقدميين؟ ولو بدأ مجلس الاحتياط الفيدرالي رفع معدلات الفائدة في ربيع 2021، ووقع ركود آنذاك لأي سبب كان، مثل تحول سيئ في جائحة كوفيد-19، لربما كان تعرض المجلس إلى انتقادات حادة، وعرض استقلاله في المستقبل إلى الخطر. ونظراً إلى هذه الاعتبارات، من غير المستغرب أن المجلس تردد في التحرك.
غير أن مجلس الاحتياط الفيدرالي تأخر في اتخاذ أي إجراء حتى بعدما اتضح أن معدل التضخم يرتفع. وبحلول خريف 2021، بعد ستة أشهر من إقرار بايدن خطته التحفيزية، كان الاقتصاد ينشط بسرعة، وعلى رغم ذلك ترك مجلس الاحتياط الفيدرالي معدلات الفائدة بلا تغيير. ومن الصعب التستر على واقع أن ولاية جيروم باول، كرئيس لمجلس الاحتياط الفيدرالي، كان من المقرر أن تنتهي نهاية ذلك العام وأن بايدن لم يكن أعلن بعد إعادة تعيينه. ولو اختار باول إجراء سلسلة زيادات على معدلات الفائدة، لكان من المحتمل تماماً أن يعين بايدن محله رئيساً آخر، ربما لايل براينارد. لقد اعتبرت الأسواق المالية براينارد، الخبير الاقتصادي المحترم والمسؤول السابق البارز في وزارة الخزانة خلال عهد إدارة أوباما، أكثر حمائمية [الحمائم في الاقتصاد يؤيدون أسعار فائدة منخفضة] في مسألة معدلات الفائدة، وأكثر استعداداً للمخاطرة بارتفاع معدل التضخم من أجل دعم النمو. وعلى هذا، امتنع مجلس الاحتياط الفيدرالي عن رفع معدلات الفائدة، وفي نهاية المطاف جدد بايدن ولاية باول. وآنذاك فقط، ومع اطمئنان باول في ولايته الجديدة، قرر مجلس الاحتياط الفيدرالي أخيراً رفع معدلات الفائدة في ربيع 2022. ولو كانت الإدارة تريد من المجلس أن يرفع معدلات الفائدة في وقت أقرب، كما زعم بعضهم في وقت لاحق، لكان التحرك الصحيح يقضي بإعادة تعيين باول في صيف 2021، الأمر الذي كان يمنحه تفويضاً واضحاً بالعمل وفق ما كان المجلس يعتبره مناسباً.
التفكير النقدي السحري
وسط ضغوط واشنطن، تأثر مجلس الاحتياط الفيدرالي بعنصر متعاظم الهيمنة من عناصر النظرية الاقتصادية الكينزية، وزعم أن المجال كان واسعاً لاستخدام التحفيز الاقتصادي الكلي في شكل أكثر حزماً. وقبل مدة طويلة من بداية الجائحة، خلص كثير من خبراء الاقتصاد إلى أن من الممكن زيادة الإنفاق الحكومي زيادة كبيرة (و/ أو خفض الضرائب) من دون الاضطرار إلى رفع معدلات الفائدة، ومن دون التسبب في تضخم. فبعد ما يقرب من عقد من المعدلات المنخفضة للفائدة والتضخم، تصور بعضهم أن الضغوط التي ترفع الأسعار يمكن تجنبها حتى إذا مولت الزيادة في الإنفاق “طباعة النقود”، أي إذا ضخ المصرف المركزي المال في شرايين الاقتصاد من طريق شراء الدين الحكومي. ولعل “النظرية النقدية الحديثة” هي النسخة الأكثر شهرة من هذا النهج، على رغم أن النسخ الأكثر اعتدالاً تحللت في التيار السائد.
من بين الأفكار البارزة في هذا الصدد أن إدارة الاقتصاد إدارة “ساخنة”، من خلال الإنفاق الحكومي المرتفع ومعدلات الفائدة المنخفضة إلى حد كبير، يمكن أن تضطلع بدور فاعل في الحد من التفاوت بين الناس. فإدخال عاملين ذوي أجور متدنية إلى سوق العمل، يكسبهم مهارات من شأنها أن تترجم إلى مكاسب أكبر مدى الحياة. فيسفر التحفيز الموقت القوي عن مكاسب دائمة، أو هكذا افترض كثر. ولم يقتصر دعم هذا النهج على واضعي السياسات ذوي الميول اليسارية. وكثيراً ما روج فريق ترمب الاقتصادي لأثر الاقتصاد القوي والمستند إلى خفض الضرائب في مداخيل العاملين والمنتمين إلى الأقليات ذوي الأجور المنخفضة.
وفي عام 2019، عندما استفتى مجلس الاحتياط الفيدرالي آراء أكاديميين كبار في مراجعة إطاره النقدي الأساسي، وكان كثير من خبراء الاقتصاد يدرسون تحفيز الاقتصاد المقاوم بعناد للتضخم والتحفيز النقدي، حتى بعدما انخفضت معدلات الفائدة إلى الصفر. وتخوف خبراء من حصول “تضخم متدن”، أي تضخم يقل معدله كثيراً عن اثنين في المئة، وهي مخاوف كانت سبباً رئيساً في التزام مجلس الاحتياط الفيدرالي جانب السكون بعد سنتين. وإلى عديد من خبراء الاقتصاد الأكاديميين، خلص مجلس الاحتياط الفيدرالي إلى أن الزيادات السريعة في الأسعار لم تعد مصدراً للقلق الشديد، لأنه قادر في الأوقات كلها على رفع معدلات الفائدة وكبحها، متناسياً صعوبة تحديد التوقيت المناسب، والتحديات السياسية التي قد تنشأ عن ذلك. وفي أغسطس 2020، أعلن مجلس الاحتياط الفيدرالي نتائج مراجعته سياساته، وأوضح أنه لن يستبق بعد الآن مكافحة التضخم لمجرد أن أسواق العمل تتقلص، فهو سينتظر إلى أن يظهر الاقتصاد علامات واضحة تشير إلى أن التضخم بدأ يترسخ بالفعل.
ولكن على رغم مخاوفه من التضخم المتدني، فشل مجلس الاحتياط الفيدرالي في تبني ابتكار ربما أسهم في وقوع الأزمة التالية، سياسة معدلات الفائدة السلبية. أي أنه كان في وسعه ترك معدلات الفائدة القريبة الأجل تهبط إلى ما دون الصفر، من أجل رفع توقعات التضخم ومعدلات الفائدة الأبعد أجلاً في اقتصاد منكمش. وقد يبدو من غير المعقول أن تساعد أداة كهذه في التعامل مع التضخم. فلو امتلك مجلس الاحتياط الفيدرالي عام 2021 “بازوكا” [صاروخ قريب المدى] كهذه في ترسانته، إذا أعدنا صياغة مقولة لوزير الخزانة السابق هانك بولسون، لربما وسعه استباق رفع معدلات الفائدة، وهو يعلم أنه لو بالغ في رفعها، كان في مقدوره أن يخفضها بالقدر المطلوب من دون بلوغ “الحد الصفري” المخيف.
وينبغي الاعتراف بأن تطبيق عدد من التغييرات القانونية والمؤسسية والضريبية كان واجباً، وأن مجلس الاحتياط الفيدرالي سيحتاج إلى تعاون وزارة الخزانة والكونغرس من أجل تفعيل سياسة معدلات الفائدة السلبية في شكل كامل. ولعل التحدي الوحيد والأكثر أهمية في منع معدلات الفائدة السلبية الكبيرة، مثلاً ناقص اثنين في المئة أو أدنى، من التسبب في تحول المستثمرين من الحسابات المصرفية وسندات الخزانة إلى العملة الورقية التي يبلغ معدل الفائدة عليها صفراً. وإلى الآن، حتى اليابان وأوروبا، وهما فرضتا بحذر معدلات فائدة سلبية، تجنبتا هذه المسألة. ولكن هناك حلين من شأنهما منع ترجيح كفة العملة الورقية. ينطوي الأول على تحديد سعر صرف بين العملة الورقية واحتياطات المصارف المركزية (هي احتياطات رقمية) تنخفض قيمته، مع مرور الوقت، انخفاضاً يكفي لإبطال كون العملة الورقية، بمعزل من كلفة التخزين والتأمين، قد تبدو جذابة في إطار تغلب عليه معدلات الفائدة السلبية. ويقوم الثاني على إلغاء العملة الورقية بالكامل، مع ضمان إتاحة الخدمات المصرفية الأساسية والمجانية للجميع، إما من خلال “سك” [طرح] العملة الرقمية الخاصة بالمصرف المركزي أو إلزام المصارف بتوفير حسابات أساسية مجانية إلى الأفراد غير المشاركين في الخدمات المصرفية (كما تفعل اليابان مثلاً). وبين هذين الحلين، ربما جاز إعمال معدلات سلبية منخفضة للفائدة قد تصل ربما إلى ناقص ثلاثة في المئة، وذلك من خلال الإلغاء التدريجي للعملات الورقية ذات القيم الاسمية الكبيرة (المئات والخمسينات) واتخاذ خطوات تنظيمية أخرى تجعل تكديس العملات ومراكمتها، بمليارات الدولارات، أمراً غير عملي.
وفي هذه الحال، استبعد تبني سياسة المعدلات السلبية للفائدة من النقاش عمداً في مراجعة مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي عام 2019 خوفاً من تداعيات سياسية، على رغم أن من شأن الإجراء المساعدة في إخراج الاقتصاد من الركود العميق في ما لو طبق في شكل فاعل. (الواقع أن زيادة التحفيز القريب الأجل من شأنه أن يرفع معدلات الفائدة الأبعد أجلاً بسبب ارتفاع توقعات النمو والتضخم). وعندما يعيد مجلس الاحتياط الفيدرالي النظر في إطار سياساته المرة المقبلة، يأمل المرء في نظره في التغييرات القانونية والمؤسسية التي قد تكون ضرورية للسماح له باستخدام أدوات كهذه.
وفي اختصار، كان فشل مجلس الاحتياط الفيدرالي في الاستجابة للتضخم عام 2021 في مثابة بيان لمدى أثر التيارات الخفية السياسية والفكرية في استقلال المصارف المركزية، في أغلب الأحيان، لاسيما في أثناء الانتخابات وكذلك عندما تكون الحكومة خاضعة لضغوط شعبوية. ولكنه يظهر أن مجلس الاحتياط الفيدرالي يحتاج، في بيئة اليوم، إلى توسيع مروحة أدواته لتحفيز الاقتصاد في أوقات الركود الشديد، إذا كان صادقاً في عزيمته على مكافحة التضخم عندما يفرط الاقتصاد في الحيوية.
مستوى مستهدف ثابت
ويتناول أحد الأسئلة المتكررة حول التضخم، في المدة 2021- 2022، شبه المسار الحالي بالتضخم الكبير الذي طرأ في سبعينيات القرن الـ20. فإلى أي مدى قد يتردى الوضع؟ محافظو المصارف المركزية يصرون على أنهم لن يسمحوا أبداً بمزيج التواطؤ والرضا عن الذات في الإدارة الاقتصادية الذي غلب على ذلك الوقت. ففي بداية سبعينيات القرن الـ20، ترك رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي آنذاك آرثر بورنز السيولة المالية تتوسع على غاربها، في خطوة رأى كثر فيها محاولة لمساعدة الرئيس ريتشارد نيكسون في سعيه إلى إعادة انتخابه. ثم عام 1978، خلف بورنز جي ويليام ميلر، الذي شجع على طباعة النقود للإبقاء على معدلات الفائدة القريبة الأجل منخفضة إلى حد فشل معه في إدراك كون توقعات ارتفاع التضخم سبباً في رفع معدلات الفائدة البعيدة الأجل، واستجابة مطالبة المقرضين بمردود أعلى يتيح لهم مجاراة التضخم. وفي عهد ميلر، ارتفع معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى أكثر من 10 في المئة.
ولم يخط مجلس الاحتياط الفيدرالي نحو التغلب على المشكلة إلا مع تعيين بول فولكر الذي خلف ميلر بعد سنة ونصف السنة. ويذكر فولكر بأنه رفع معدل فائدة المجلس القريبة الأجل إلى أكثر من 19 في المئة، مما أدى، في نهاية المطاف، إلى خفض معدل التضخم من ذروته التي بلغت 14 في المئة عام 1980. ولكن ما لا يحظى بالملاحظة الوافية هو أن مجلس الاحتياط الفيدرالي، بقيادة فولكر، امتنع من التحرك في مستهل الأمر، خشية أن يؤثر الركود في الانتخابات الرئاسية عام 1980، وسمح، بدلاً من ذلك، وفي البداية، لمعدل التضخم بالارتفاع، وكان ذلك سبباً في تفاقم حدة الركود لاحقاً. وفي عام 1982، كان مجلس الاحتياط الفيدرالي خفض معدل التضخم السنوي إلى حد ثلاثة إلى 4.5 في المئة. وبقي هذا المعدل على الحال نفسها إلى حين تولى ألان غرينسبان رئاسة المجلس عام 1987. وعلى رغم شهرة غرينسبان بأنه قاد الاقتصاد ببراعة، وهو خفض معدل التضخم إلى مستويات أدنى، استغرق مجلس الاحتياط الفيدرالي وقتاً قبل أن يبلغ اثنين في المئة. وقياساً على مؤشر أسعار المستهلكين، ارتفع معدل التضخم السنوي أثناء السنوات القليلة الأولى من عهد غرينسبان، فبلغ أكثر من خمسة في المئة قبل أن ينخفض في شكل حاسم في منتصف التسعينيات. والحق أن هذه المهمة كانت بالغة الصعوبة في ذلك الوقت، حين كانت توقعات التضخم قوية. وفي أثناء الأزمة الحالية، زادت توقعات التضخم إلى اليوم زيادة متواضعة نسبياً، على رغم قلق محافظي المصارف المركزية من احتمال ارتفاع هذه التوقعات إلى مستويات أعلى كثيراً.
وفي زمن التضخم الكبير، واجهت المصارف المركزية تحديات مختلفة تماماً. فقد ألغى تفكيك نظام بريتون وودز أسعار الصرف الثابتة في أوائل سبعينيات القرن الـ20، وفك علاقة العملة بالذهب. والولايات المتحدة بين بضعة بلدان قليلة أناطت بمصرفها المركزي المستقل الحفاظ على استقرار الأسعار جزءاً مهماً من تفويضها. وبمرور الوقت، أثبت هذا التفويض أنه لا يقدر بثمن، باعتباره ثقلاً يوازن الضغوط السياسية الرامية إلى الحد من زيادة معدلات الفائدة. ويجد محافظو المصارف المركزية أنفسهم يقاتلون هذه الضغوط من جديد اليوم، ويريد الساسة من محافظي المصارف المركزية التساهل مع معدلات الفائدة المرتفعة أكثر مما يرجونهم رفعها، ولاسيما في السنة السابقة للانتخابات.
وعلى رغم ذلك فإن ثمة أوجه شبه قوية بين أزمة التضخم الحالية والأزمة السابقة. وفي المقام الأول، حفزت أنواع جديدة من صدمات العرض كلا الأزمتين. وكان الحظر النفطي الذي فرضته “منظمة البلدان المصدرة للنفط” (أوبك) في 1973-1974 في مثابة الصدمة الكبرى التي شهدها الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. ويزعزع غزو روسيا أوكرانيا أركان النظام الاقتصادي العالمي، مفاقماً إلى حد كبير المشكلات في سلاسل الإمداد العالمية، المتوترة بالفعل جراء الجائحة. وفي كلا الأزمتين، حظيت سياسات تحفيزية، ذات توجه كينزي، برواج كبير بين خبراء الاقتصاد الأكاديميين والمعلقين على السياسات، بينما بقيت اقتصاديات العرض طي النسيان.
واليوم يبدو محافظو المصارف المركزية واثقين من أمرهم عندما يقولون إنهم يعرفون كيف يقلصون معدل التضخم إلى اثنين في المئة، لكنهم أقل إقناعاً عندما يصرون على أنهم لن يألوا جهداً في سبيل إرجاع معدل التضخم إلى المستوى المستهدف. ويتعين عليهم أن يدركوا أن رفع معدلات الفائدة يهدد باستدراج ركود عميق. ويدرك محافظو المصارف المركزية أن الركود العميق سيصيب بقوة، على نحو خاص، ذوي الدخل المنخفض والشباب والعاملين من الفئات المحرومة تاريخياً. وهي، على وجه التحديد، الجماعات التي يسعى مجلس الاحتياط الفيدرالي صراحة، في إطار سياساته الجديد، إلى مساعدتها. وفي ضوء الأحداث الأخيرة، سيكون لزاماً على مجلس الاحتياط الفيدرالي أن يعيد النظر في تركيزه، ومساعدة الجماعات المحرومة تبقى أولوية من غير شك.
ويذهب بعض خبراء الاقتصاد إلى أن المصارف المركزية ما كان ينبغي لها أن تجمع على مستوى تضخم مستهدف يبلغ اثنين في المئة في المقام الأول. ولا شك في أن مستوى مستهدفاً يبلغ ثلاثة أو حتى أربعة في المئة كان ليبدو أفضل. ووفق هذا الرأي، ستتمتع المصارف المركزية بصلاحية خفض معدلات الفائدة في الأزمات من طريق تضمين معدلات الفائدة المقررة معدلات متوقعة أعلى للتضخم. وهذه مناقشة معقدة تشمل كثيراً من الفروق الدقيقة. وفي الجوهر، يتيح رفع المعدل المستهدف بديلاً لسياسة معدلات الفائدة السلبية. ويرى محافظو المصارف المركزية العيب في إصرارهم على التزامهم المطلق بمستوى مستهدف بعيد الأجل للتضخم يساوي اثنين في المئة، مما يجعل أي تغيير، ولاسيما من موقف ضعيف، يقوض صدقيتهم، ويدل على إمكان رفع المستوى المستهدف في المستقبل. فإذا استقر الاقتصاد عند معدل تضخم أعلى لعدة سنوات، من المرجح أن يقول محافظو المصارف المركزية إنهم، على رغم تسامحهم مع معدلات تضخم أعلى نسبياً في الوقت الحالي، لا يزالون يعتزمون العودة لاثنين في المئة في المستقبل، وسيبحثون عن سبل مناسبة لتحقيق ذلك بسلاسة ومن دون التسبب في انكماش بعيد الأجل. وهناك عيوب أخرى تؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم على الدوام، فالأجور والأسعار ستتكيف في نهاية المطاف، ما يجعل السياسة النقدية أقل تماسكاً، وفي حال الركود الشديد قد لا يكون الهامش الإضافي لخفض معدلات الفائدة كافياً.
ثمن الاستقرار
ورغم شكاوى الناخبين من التضخم، لا يملك المرء إلا أن يتساءل عن استعدادهم لركود عميق آخر. ولا شك في أن مجلس الاحتياط الفيدرالي يشعر بقلق إزاء نتيجة كهذه. وهناك خطر آخر يتمثل في دوام ارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية البعيدة الأجل، أي أسعار الفائدة المعدلة تبعاً للتضخم، وهذه الأسعار انهارت بعد الأزمة المالية عام 2008، لأجل طويل، ويميل المعدل إلى التراجع بنسبة 1.6 في المئة في القرن، لكنه لا يقترب أبداً من الانخفاض بنسبة ثلاثة في المئة، على ما حصل بعد سنوات قليلة من الأزمة المالية. وهذا من شأنه أن يزيد كلفة اقتراض الحكومات المال، وأن يفرض مزيداً من الضغوط على المصارف المركزية لحملها على الإبقاء على معدلات الفائدة منخفضة، وخفض قيمة الديون الحكومية بواسطة التضخم. والواقع أن التغيرات التي طرأت على المشهدين السياسي والاقتصادي أصبحت عميقة إلى حد يجعل من غير المرجح، في المستقبل المنظور، أن يختار مجلس الاحتياط الفيدرالي خفض معدل التضخم إلى مستويات ما قبل الجائحة وإبقائه عندها.
وتخلف السياسة النقدية أثراً كبيراً في المجال السياسي. والدورة الاقتصادية قرينة على الانتخابات، في كل مكان في العالم تقريباً. وعلى ما أوضحت الأزمة الحالية، يؤثر المجال السياسي في السياسة النقدية. ويجهد المصرف المركزي الأوروبي في سبيل شرح السبب وراء اضطراره إلى الاستمرار في شراء كميات ضخمة من ديون بلدان أوروبا الطرفية، ولاسيما إيطاليا. وسوق لهذه السياسة في الأساس بذريعة مكافحة الانكماش، لكن المصرف المركزي الأوروبي أعاد تعريف البرنامج في وقت يرفع فيه معدلات الفائدة لمكافحة التضخم. وبطبيعة الحال، كان السبب الحقيقي وراء هذه السياسة إظهار التزام بلدان شمال منطقة اليورو بدعم ديون حكومات جنوب منطقة اليورو، وهو في العمق هدف سياسي. وفي المملكة المتحدة، دافعت ليز تراس، التي أصبحت رئيسة للوزراء في سبتمبر 2022، علناً عن السيطرة على بنك إنجلترا، في اللحظة التي من المرجح أن تمارس فيها سياساتها المالية العامة ضغوطاً تصاعدية على معدل التضخم البعيد الأجل.
وذات يوم، قال الاقتصادي ميلتون فريدمان إن التضخم ظاهرة نقدية في كل زمان ومكان. وهذا طبعاً، مبالغة جدلية. وتؤثر عوامل كثيرة، على ما يرى، في معدل التضخم، بما في ذلك التحفيز الإنفاقي الحكومي وصدمات العرض العالمي. ولا شك في أن المصارف المركزية قادرة على تطويع معدلات التضخم البعيدة الأجل وإنزالها على إرادتها إذا كانت تتمتع بما يكفي من الصبر والاستقلال. إلا أنه من غير الواضح إلى أي مدى قد تذهب المصارف المركزية إذا استمر الاقتصاد العالمي في المعاناة من هزات مزلزلة. ومن إيجابيات هذه المرحلة من التضخم المرتفع أنها قد ترغم الساسة على نحو متزايد على الاعتراف، مرة جديدة، بأن معدل التضخم المنخفض والمستقر لا يمكن اعتباره أمراً مفروغاً منه، وعلى المصارف المركزية أن تحصل على الحرية والتركيز الضروريين لإنجاز تفويضها الأساسي. وينبغي لمحافظي المصارف المركزية، من جانبهم، أن يكونوا أكثر انفتاحاً على استخدام أدوات جديدة مثل سياسة معدلات الفائدة السلبية غير المقيدة لمكافحة الركود الحاد. وقد توفر هذه أدوات مساعدة حاسمة في مقاومة الضغوط السياسية الرامية إلى خفض معدلات الفائدة في ظل اقتصاد مفرط الحيوية. وسواء تمكن مجلس الاحتياط الفيدرالي من هندسة “الهبوط الناعم” في الأزمة الحالية أو لم يفعل، من المرجح أن تكون التحديات التي سيواجهها في العقد المقبل أصعب كثيراً من التحديات التي واجهته في عالم ما قبل الجائحة.
*كينيث إس روغوف أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد وزميل أقدم في مجلس العلاقات الخارجية. تولى منصب كبير خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي في الفترة 2001-2003.
مترجم عن فورين أفيرز، وفمبر (تشرين الثاني) / ديسمبر (كانون الأول) 2022
المصدر: اندبندنت عربية