راتب شعبو
شهدت محافظة السويداء في سورية، على مدى السنتين الماضيتين، احتجاجات عديدة، محرّكها الأساسي تدهور شروط الحياة، من جهة المواد الأساسية للمعيشة، ومن جهة أساسيات الحياة الآمنة. تجاه هذه المحافظة التي تتميز بقدر كبير من التضامن الأهلي، اعتمد نظام الأسد سياسة أمنية خاصة، أساسها العمل على التلغيم الداخلي، أي إنشاء مليشيات محلية تابعة لأجهزته الأمنية، وتوظيفها في القمع والتقييد والإرهاب وتجارة المخدرات والخطف… إلخ، للتغلب على التماسك الجماعي لأبناء المحافظة، وتفكيكه لتسهيل الاختراق والسيطرة.
بالفعل، اخترقت الأجهزة الأمنية النسيج الاجتماعي للمحافظة على حوامل محلية، وهكذا ظهرت المليشيات المحلية وزادت قوتها، ولم يعد يكفي الأهالي، لكي يتخلصوا من مليشيات، مثل “قوات الفجر” المدعومة من الأمن العسكري، والتي عاثت فساداً، أن يرفضوا هذه المليشيا، ويقفوا في وجهها، بل وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى الاعتماد على فرع أمن آخر (أمن الدولة). أي أن تشكيلات العنف المحلي باتت سلطات أقوى من قدرة الأهالي على الخلاص منها. كما لا يمكن أن ينسى أهالي السويداء هجمات “داعش” على قرى المحافظة ومركزها في يوليو/ تموز 2018، وراح ضحيتها أكثر من 200 قتيل، ولا تزال في الذهن أسئلة كثيرة بشأنها.
كرّر أهالي المحافظة خروجهم واحتجاجاتهم ضد سلطات الأسد التي تسمّي نفسها “دولة”، وتفشل في حماية المحكومين من العنف المنفلت والتدهور المعيشي. خرج، في يناير/ كانون الثاني 2020، مئات من الأهالي في السويداء باحتجاجات “بدنا نعيش”. ثم تجدّدت الاحتجاجات في يونيو/ حزيران من العام نفسه مع مزيد من تراجع مستوى المعيشة. وفي صيف 2021، تحرّك الأهالي وتمكّنوا، بمساعدة قوات “رجال الكرامة”، من وضع حد لإحدى المليشيات التي كانت تخطف وتنهب وتذل الناس. وفي فبراير/ شباط من هذا العام، خرجت مظاهرات ضد قرار قطع الدعم الحكومي عن مئات آلاف العائلات. ثم تكرّر الاحتجاج في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، وصولاً إلى احتجاج بضع مئات قبل أيام واقتحامهم مبنى المحافظة، بعد أن ألقيت على المحتجّين قنبلة صوتية، أدّت إلى جرح اثنين منهم. وأمام مقر قيادة الشرطة ووجهوا بالرصاص الحي، ما أدّى إلى مصرع أحد الشباب المحتجين وجرح آخرين، كما قتل أحد عناصر الشرطة من دون تحديد مصدر النيران بعد.
ليس من المفاجئ خروج الناس في السويداء تحت ضغط الفشل العام لنظام الأسد في تأمين أبسط حاجاتهم، المستغرب عدم خروج من لم يخرج. وليس من المفاجئ أن يعبّر المتظاهرون عن رفضهم بالتكسير والحرق، فمن تُنتهك كرامته يمكن أن يقدم على أعمال عنيفة، لا سيما بعد تكرار الاحتجاج مرّات من دون جدوى. ولكن من المفاجئ أن يقابل النظام المتظاهرين، هذه المرة، بالرصاص الحي، فقد كان التعامل مع احتجاجات السويداء أكثر مرونة… والواقع أن الأسد لم يعد يملك ما يقدّمه لمحكوميه سوى الرصاص.
لن نتوقف عند اعتبار المتظاهرين في السويداء “خارجين عن القانون” حسب بيان الداخلية، فعنف المليشيات وتجارة المخدّرات وعمليات الخطف والتهريب التي يرعاها النظام، هي القانون الذي تحترمه الداخلية. ولن نتوقف عند متكلمين يعيبون على المتظاهرين عنفهم وينسبونهم إلى العمالة إلى هذه الجهة وتلك، ذلك أن موقف هؤلاء المتكلمين من أي احتجاج ضد النظام، سيكون دائماً كموقف بخيل الجاحظ الذي قال لصاحبه “لو خرجت من جلدك لن أعرفك”.
سوف نتوقف عند قول روتيني يتكرّر، إن ثمّة تطوّراً في الاحتجاجات، ذلك أنها هتفت، هذه المرّة، بإسقاط النظام. ولم يعد في سورية فارق مهم بين المطالبة بالخبز والمطالبة بسقوط النظام، فالأولى باتت تعني الثانية بتطابق شبه تام. حين تعجز سلطةٌ ما، عجزاً تاماً ودائماً، عن تأمين متطلبات الحياة الأساسية، تنعدم المساحة التي تسمح بتتبع “تطوّر” الاحتجاجات من مطلبية إلى سياسية، لأن أي مطلبٍ معاشي بسيط سوف يعني تلقائياً المطالبة برحيل السلطة.
لم يعد نظام الأسد يعني شكلاً محدّداً من الحكم يحتج السوريون لتغييره إلى شكل آخر، هذا قول بعيد عن الدقة بعد الدولة السورية عن مفهومها العام. لم يعد بمقدور سلطة الأسد أن تخرج من حقيقة أنها متماهية مع جوع السوريين وفقرهم، وأن استمرارَها بات يعني استمرار حال السوريين على حاله هذا، وأن من الوهم التفكير بالفصل بين استمرار سلطة الأسد واستمرار الانهيار العام. تماهي سلطة الأسد مع التدهور العام لمعيشة السوريين ولبلدهم يكافئ التماهي الذي أنجزته هذه السلطة خلال العقود الخمسة المنصرمة، بينها وبين الدولة السورية. وكما جعلت هذه السلطة من المستحيل “إسقاطها” من دون تدمير الدولة السورية، كذلك جعلت من المستحيل استعادة كرامة السوريين من دون تدمير هذه السلطة.
لم يعد نظام الأسد شكلاً من الحكم، لم يعد نظاماً سياسياً للإدراك العقلي، فقد بات مجرّد كتلة متجانسة (صبّة وحدة) متماهية مع القمع والجوع والبرد والتشرد والفساد والموت…، كتلة مرفوضة بذاتها، وقد أقول مكروهة، فقد قلّص هذا التماهي أو ألغى المسافة بين المشاعر والعقل، على الأقل منذ أطلق نظام الجوع حملة “منحبك” التي تعلن قتل السياسة لصالح المشاعر، وتفتح الباب أمام دعوات التجانس الفاشية، الباب الذي يوصل إلى كل الشرور التي عاشها السوريون من الرصاص إلى الكيميائي إلى الجوع والبرد والفاقة.
تدرك الطغمة الأسدية جيداً أنها تجاوزت في عدائها الشعب السوري كل حدّ، وأنها باتت منبوذة ليس فقط من الخارج الذي يجد حرجاً في الانفتاح على نظامٍ كهذا، بل ومن الداخل، سواء منه من خرج مع الثورة أو من لم يخرج، وتدرك أنها عاجزة بتكوينها الفاسد ومحدودية مواردها عن تأمين أولويات حياة محكوميها، والنتيجة أنها باتت تدرك أن المطالبة بالرغيف باتت تعادل المطالبة بإسقاط السلطة، حرفاً بحرف.
المصدر: العربي الجديد