محمد بدر الدين زايد
كل ما يحدث كان أصلاً مرتبطاً بالمرحلة الانتقالية الدولية الراهنة وبحث الأطراف عن أوراق ومراكز نفوذ. يبدو أن كل التطورات السلبية التي يمر بها العالم تنعكس سلباً على جميع جبهات الصراع والتوتر في المنطقة العربية، والشاهد أن حال الركود النسبي التي رصدناها وغيرنا منذ أعوام تتعمق ولا تنفرج.
بعضهم يرى أن ملفات الصراع تقتصر على سوريا واليمن وليبيا ويضيفون فلسطين كملف مزمن وفي الحقيقة أنه لا يمكن تجاهل العراق ولبنان أيضاً من بين ملفات النزاع والتنافس.
لكن مراجعة كل هذه الملفات معاً تكشف عن الترابط بينها وارتباطها بمشهد الصراع الدولي الشامل، ومن ثم تفسير حال الركود وعدم الوضوح الراهنة.
التدهور في الموقف السوري
على رغم أن التهديدات التركية تتركز حالياً على الشمال العراقي وليس السوري، تظل هذه أيضاً جبهة محتملة للتصعيد، وعموماً ليس هناك أفضل من وصف المشهد في سوريا بأنه أحد أكثر المشاهد العبثية في تاريخ الصراعات الداخلية ذات الامتدادات الدولية.
فلا يبدو أي أفق لتغيير حقيقي في الوضع ولا أحد يتحدث عن أي تسوية حتى لو شكلية لجانب من جوانب الصراع، ناهيك عن الصراع ذاته، والوجود العسكري الأجنبي مستقر، فالقوات التركية منتشرة بشكل صريح في شمال غربي البلاد وفي محافظة إدلب، حيث تتمركز أيضاً ميليشيات لتنظيمي “القاعدة” و”داعش” لا تقتصر على عناصر سورية وإنما أيضاً آلاف العناصر الأجنبية.
في الشمال الشرقي هناك قواعد عسكرية أميركية تضم قوات أميركية ربما لا تزيد على ألفين برفقة عسكريين غربيين آخرين، في ظل سيطرة أرضية لقوات سوريا الديمقراطية الكردية السورية (قسد)، وتتخلل ذلك اتهامات تركية بأن المنطقة تستضيف أيضاً قوات للتنظيمات الكردية التركية المسلحة المعارضة لأنقرة.
وعلى امتداد بقية الأراضي السورية يأتي الوجود العسكري الإيراني ومعه قوات من “حزب الله” اللبناني و”الحشد الشعبي” العراقي والسوري وقواعد عسكرية روسية ضخمة، خصوصاً في السواحل الشرقية السورية على البحر المتوسط وسيطرة جوية روسية في معظم أنحاء البلاد.
واستكمالاً للمشهد العبثي لا يزال ملايين السوريين المهجرين والنازحين خارج ديارهم ولم تبذل أي جهود دولية أو سورية لعودتهم، بل يشيع خصوم النظام السوري من دون نفي مضاد كاف أن دمشق لا ترحب بعودتهم.
وهي عودة عموماً شديدة الكلفة تقتضي إعادة إعمار ومليارات عدة لم يوفرها أحد ولا يريد أحد أن يفعل ذلك إلا بشروطه، فضلاً عن أن تداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية تركت ندوباً حادة على الاقتصادات الغربية لا تجعلها قادرة على ذلك، ودول الخليج التي تملك ذلك نسبياً لها شروطها المنطقية لكي تكون ضمن صفقة الترتيبات وليس من المنطقي أن تكون ممولاً لنصر إيراني، والأخيرة غير قادرة ولم يكن لها تاريخ دعم خارجي في غير مجال السلاح والتدخل العسكري الخارجي.
هكذا كان المشهد السوري قبل الحرب الأوكرانية كجزء من المشهد الدولي وقوامه محاولة واشنطن منع عودة روسيا لأن تكون لاعباً دولياً.
الفيتو الأميركي على النصر الروسي
من هنا كان ما سميته منذ أعوام الفيتو الأميركي على النصر الروسي في سوريا، وإلى جواره التردد الإقليمي العربي وعدم القدرة على وقف الزحفين الإيراني والتركي في قطر عربي رئيس، مما أسفر في النهاية عن حال الجمود التي جاءت الحرب الأوكرانية لتكرس بقوة من طبيعتها.
فلا يمكن لأحد الآن تصور أن واشنطن التي تشن حرب استنزاف ضد موسكو في أوكرانيا ستسلم الآن لها في سوريا، بل سيكون الطبيعي أن تتمركز حول قواعدها وموقفها وتجهض أي تحركات تعزز من وضع روسيا.
ولأن المشهد فيه من العبث ما يكفي نسمع أخيراً عن محاولات روسية لتحقيق انفراجة بين أنقرة ودمشق، بل تصاحب ذلك تصريحات مشجعة من أردوغان.
لكن الجانب السوري، وفقاً لوكالة “رويترز” يتململ من أي انفراجة مع أردوغان، فمستويات العداوة والحملات المتبادلة بين الأخير والنظام السوري ورئيسه بشار الأسد بشكل خاص بلغت من الشدة ما يجعل مثل هذه الانفراجات صعبة نفسياً أو في الأقل محل مقاومة لا يستهان بها.
ليصل بنا هذا إلى المشهد الراهن، الركود والانسداد واستمرار الغموض أمام الشعب السوري الذي عليه أن يخوض بمفرده تجربة إعادة الإعمار والاستقرار في أجواء غير مضمونة وصعبة.
اليمن والجبهات الأخرى للصراع
أخشى أن الجمود أصبح مصير اليمن العزيز بعد التهدئة التي هي خيار منطقي وسليم في حالة الأوضاع اليمنية الصعبة، لكن بشرط أن تصحبها جهود حقيقية للتوصل إلى ترتيبات سلام حقيقية.
تلك الجهود يجب أن تتضمن انتخابات تحت إشراف دولي يحرر اليمن من قيام طرف داخلي مسلح مدعوم من الخارج بالسيطرة على مساحات شاسعة من شمال البلاد، معتمداً على طبيعتها الجبلية القاسية وصعوبة العمليات العسكرية ومحاولته فرض مذهبه السياسي والديني على بقية المجتمع بالقوة، في مقابل عجز الشرعية عن استعادة الأراضي لأسباب عدة واضطرارها إلى تحالفات وترتيبات أيضاً لا تريح قطاعات كثيرة من المجتمع اليمني.
وفي الخلف من المشهد أيضاً إيران التي تتحالف وتدعم هذا التيار الحوثي الذي عبر تقدمه ترسخ سمة جديدة في المشهدين الدولي والإقليمي، هي المساحة الكبيرة لحركة لاعب إقليمي وعدم قدرة الأطراف الإقليمية العربية، وكذلك القوى الكبرى على التأثير الكافي في المشهد، ومرة أخرى يأتي الانشغال الدولي بالحرب الأوكرانية ليعزز من هذا العجز.
ليبيا… الجمود سيد الموقف
في ليبيا يبدو الجمود هو سيد الموقف أيضاً، ما بين إصرار الدبيبة رئيس الوزراء المنتهية ولايته على الاستمرار رغم أنف مجلس النواب ومعظم القوى السياسية، وجهود عبثية للتوصل إلى تذليل العقبات والخلافات الدستورية أمام عقد الانتخابات الرئاسية.
وفي الحقيقة أن تكرار كلمة الانتخابات تحدث لمناسبتين، الأولى اجتماعات ومحاولات مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح ومجلس الدولة برئاسة المشري بغية التوصل إلى تفاهمات في هذا الصدد.
والثانية بإعلان الدبيبة المتكرر عن أنه مستمر حتى عقد الانتخابات، وفي الوقت نفسه لا تبدو أي جهود دولية نشطة في هذا الصدد، علماً أن هذه التحركات لم تسفر عن شيء سابقاً عندما كانت نشطة منذ أعوام قليلة، وبعضها كان يضيف طبقة أخرى من التعقيدات إلى ما هو معقد بشكل كاف.
وبجميع الأحوال يتحرك المبعوث الدولي على استحياء بسبب الانشغال الدولي والقلق في شأن الملف الأوكراني، كما أن الأمور في ليبيا لا تنفصل عن ملفات الصراع والتنافس الدوليين، وأنه في غياب إرادة داخلية أو دولية كافية لا تتوافر فرص حالياً لتسويات حقيقية.
وبدوره عاد المشهد اللبناني للجمود حول ملف الفراغ الرئاسي الذي سبق أن مر بالظروف نفسها، فالكفة التي مالت في التسوية الرئاسية السابقة لمصلحة “حزب الله” وإيران وما زالت كذلك بدرجة كبيرة تصادف دوماً تحديات وترتيبات معقدة داخلية في لبنان تجعل هذا الطرف المسيطر يدخل في مواءمات وترتيبات معقدة لاحتواء بعض حلفائه وكذلك بعض خصومه.
لبنان أرهق الجميع عدا إيران
في الحقيقة أن لبنان أرهق اللاعبين الدوليين والإقليميين في ما عدا إيران التي ليست بحاجة لأن يكون الانشغال بأوكرانيا سبباً جديداً في مشكلاتها، لكن في الأقل اللاعب الفرنسي الذي يتحرك من دون نتائج معظم الوقت منشغل بدوره بما يحدث على المسرح الأوروبي، أما لبنان، فتجارب الأعوام الطويلة الماضية وصعوبة وتشابك الأطراف الداخلية والخارجية ترشحها دوماً للدخول في هذه المزالق الصعبة.
ما نريد قوله من دون التطرق إلى بؤرتين أخيرتين للصراع في فلسطين والعراق اللتين تستحقان وقفة أطول، إن كل ما يحدث في هذه البؤر كان أصلاً مرتبطاً بالمرحلة الانتقالية الدولية الراهنة وبحث الأطراف عن أوراق ومراكز نفوذ، وإن الحرب الأوكرانية جاءت لتصعد بالصراع الدولي إلى مستويات أعلى.
وهذا يعني انتقال بؤر الصراع إلى هذه المستويات وجمود الأوضاع الإقليمية الراهنة، وهو جمود يكرس مكاسب الأطراف الإقليمية التي تمددت في الأعوام الأخيرة، ويكرس أيضاً الأوضاع المتدهورة للشعوب محل هذه الصراعات التي تعيش استمرار الجمود والتردي.
المصدر: اندبندنت عربية