طارق الشامي
تقنية ثورية جديدة تسمح بإعادة تدوير الوقود النووي بما يعزز ريادة بكين، فقد نجح معهد الفيزياء الحديثة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم أخيراً في اختبار نموذج أولي لما يسمى “مدفع شعاع الجسيمات” الذي يعد تقنية أشبه بالخيال العلمي، كونه يسمح بإعادة تدوير الوقود النووي المستهلك، مما يجعله أرخص وأقل خطورة، الأمر الذي سيعزز ريادة الصين العالمية في الطاقة والتكنولوجيا ويوفر لها مئات المليارات من الدولارات، مما يقلق خبراء الطاقة في الولايات المتحدة الذين يطالبون بمزيد من الاستثمارات الأميركية في الابتكارات المماثلة لجعلها قابلة للتطبيق ومنافسة الصين، بخاصة أن أميركا توقف حالياً تشغيل 21 مفاعلاً نووياً، بينما يتوقع أن تنفق الصين 440 مليار دولار حتى عام 2035 لبناء 150 مفاعلاً نووياً إضافياً.
عصر جديد
على رغم أن المطالبات بإغلاق 440 محطة طاقة نووية حول العالم تنتج نحو 10 في المئة من الكهرباء في 30 بلداً، كانت قد تزايدت خلال السنوات الأخيرة بسبب خطورة النفايات النووية وصعوبة التخلص منها أو إعادة تدويرها، فإن أزمة الطاقة الدولية التي تكشفت بعد حرب أوكرانيا جعلت بعض الدول تعيد النظر في إغلاق مفاعلاتها النووية مثل ألمانيا والسويد، فضلاً عن سبب آخر يتعلق بتفاقم مشكلة الاحتباس الحراري على الأرض، بسبب إنتاج 60 في المئة تقريباً من الطاقة الكهربائية العالمية من محطات تعمل بالفحم والبترول، وتنتج قدراً هائلاً من ثاني أكسيد الكربون، الذي يرفع بشكل مستمر درجة الحرارة على الأرض.
ولأن استخدام الطاقة النووية يسبب إنتاج نفايات ذات إشعاعات عالية تتطلب تخزين الوقود النووي المستهلك في أحواض مائية بغرض تبريدها، وامتصاص أشعتها الضارة وتخفيض درجة إشعاعيتها التي تستمر قروناً، عملت مراكز البحوث النووية في كل أنحاء العالم على إيجاد تكنولوجيا حديثة لحل تلك المسألة، إلى أن كشفت الصين أخيراً عن تقنية جديدة تنبئ بعصر جديد قد يجعل المفاعلات النووية أكثر أماناً من خلال إعادة تدوير النفايات النووية وإنتاج طاقة مستمرة وتوفير مليارات الدولارات.
تقنية ثورية
وتعد تقنية “مدفع شعاع الجسيمات” الذي أكمله أخيراً “معهد الفيزياء الحديثة” التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، بمثابة تقنية ثورية من شأنها أن تتيح إعادة تدوير النفايات الخطرة التي تنتجها المفاعلات النووية، ويمكن لهذا الاختراق الجديد الذي يعد ثمرة الاستثمار الصيني الضخم في أنظمة الطاقة النووية المتقدمة، أن يدفع البلاد نحو تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة ويعزز ريادتها العالمية في مجال التكنولوجيا النووية بشكل عام والتكنولوجيا الصديقة للمناخ بشكل خاص.
ولتبسيط الاختراق الصيني الجديد، ينبغي شرح ما يحدث في مفاعل الانشطار النووي التقليدي، إذ تتفكك ذرات النظائر الثقيلة مثل اليورانيوم 235، وتطلق طاقة تنتج أيضاً نيوترونات إضافية، تصطدم مع ذرات أخرى وتفككها في تفاعل متسلسل، وتصبح الذرات المكسورة هذه وقوداً مستنفداً أو مستهلكاً، يتم تبريده لبضع سنوات ثم يخزن بعناية لعدة قرون، لكن ابتكار نوع جديد من المفاعلات المبنية على “مدفع شعاع الجسيمات أو الجزيئات” وهو عبارة عن مسرع أو معجل البروتون يمكن أن يعيد تدوير هذا الوقود المستهلك، مما يجعل توليد الكهرباء أرخص وأكثر أماناً.
ووفقاً لتوماس كوربيت وهو محلل أبحاث في معامل “بلو باث” للتكنولوجيا، يتكون النظام الذي يحركه المعجل، المعروف باسم “أي دي أس” من ثلاثة أجزاء، أولها مسرع البروتون الذي يطلق البروتونات، والثاني هو الهدف الانشطاري الذي يحتوي على العنصر الثقيل المراد تقسيمه أو تفكيكه، أما الجزء الثالث فهو المفاعل الذي يحتوي على الوقود الذي يسبب الانشطار. وتجري العملية عندما يطلق المعجل النووي البروتونات على عنصر ثقيل محاط ببطانية من الوقود المستهلك ومواد انشطارية مثل “الثوريوم 232” أو “اليورانيوم 238″، فينقسم ويتفكك الهدف، مطلقاً نيوترونات يمتصها الوقود المستهلك، فتحوله مرة أخرى إلى نظائر ثقيلة الانشطار، أي وقود نووي جديد.
أكثر أماناً
غير أن أهم ما في هذه العملية أنها لا تنطوي على خطر حدوث تفاعل متسلسل أو انهيار، ويعد استكمال معهد الفيزياء الحديثة نموذجاً أولياً من هذا المعجل بمثابة خطوة كبيرة نحو نظام كامل يحركه المعجل “أي دي أس”، ومثالاً رئيساً على أن الاستثمار الصيني الضخم في أنظمة الطاقة النووية المتقدمة، يعود بالفائدة على الابتكارات الجديدة.
وعلى عكس عديد من الحكومات الغربية التي بدأت بالتخلي عن الطاقة النووية ترى الصين أن الانشطار النووي هو مفتاح لمستقبل أكثر أماناً، نظراً إلى أن الطاقة النووية أكثر كفاءة من طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية، وهي على عكس الوقود الأحفوري لا تنبعث منها غازات الاحتباس الحراري ولا تلوث الهواء.
حل مستقبلي
ولأن الصين تحتل المرتبة الثانية في العالم من حيث الاستهلاك اليومي للنفط، وتستورد 70 في المئة من البترول من مناطق تتطلب المرور في نقاط اختناق بحرية، فقد قررت أن تنفق 440 مليار دولار من الآن وحتى عام 2035 لبناء 150 مفاعلاً نووياً إضافياً في الأقل، وإذا تمكنت بكين من الاستمرار في تطوير تقنية النظام الذي يحركه المعجل “أي دي أس”، فستستطيع أن تستخدم نفايات المحطات النووية بشكل جيد وإعادة تدويرها لإنتاج مزيد من الطاقة لتلبية احتياجاتها المتزايدة.
وفي حين أن كارثتي فوكوشيما وتشيرنوبل النوويتين هما أشهر الأمثلة على ما يمكن أن يحدث بشكل خاطئ، واجهت الصين مشكلاتها الخاصة في يونيو (حزيران) 2021 عندما حدث تسرب إشعاعي محتمل في محطة تايشان للطاقة النووية في مقاطعة غوانغدونغ، بينما تهدف بكين أيضاً إلى تقليل احتمالية التسريبات الإشعاعية والتفاعلات المتسلسلة غير المنضبطة من خلال تطوير أنظمة جديدة أكثر أماناً بطبيعتها، كما تخطط الصين لإنفاق ما يقرب من 10 مليارات دولار على جيل جديد من محطات الطاقة النووية العائمة المرتبطة بالمحيط، مع استكشاف الاندماج النووي كبديل أكثر أماناً للانشطار.
من ينفق أكثر؟
تنفق الصين أكثر من الولايات المتحدة في المجال النووي، فمنذ عام 2009، منحت وزارة الطاقة الصينية نحو 900 مليون دولار لتحسين البنية التحتية النووية والقدرة على الصمود وفقاً لما نشرته وسائل الإعلام الصينية الرسمية آنذاك. وفي المقابل أعلنت وزارة الطاقة الأميركية عن مبلغ إضافي قدره 48.8 مليون دولار لبرنامج الطاقة النووية المجمع -بما في ذلك 24 مليون دولار لأبحاث تطوير دورة الوقود، وقد تكون هناك أموال إضافية للمشاريع النووية في إدارة الطاقة النظيفة- التابع لوزارة الطاقة والذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار، والذي يستهدف ابتكار مصادر طاقة جديدة.
ومع ذلك، يجري حالياً بناء محطتين نوويتين جديدتين في الولايات المتحدة، هما وحدتا “فوغتل 3 و4” بالقرب من وينسبورو في ولاية جورجيا، بينما لا يزال مفاعل نوسكيل في مرحلة التخطيط، وقبل ذلك كانت أحدث المحطات النووية في الولايات المتحدة التي تم افتتاحها في عامي 1996 و2016 على التوالي، بينما يجري في الوقت الراهن إيقاف تشغيل 21 مفاعلاً نووياً في الولايات المتحدة.
صراع مستمر
على رغم أن تحسين التكنولوجيا النووية الأميركية أبقى حصة الطاقة النووية من الكهرباء في البلاد عند نحو 20 في المئة، فإن التوقعات المستقبلية للطاقة في الولايات المتحدة لعام 2050 تظهر انخفاضاً ملحوظاً في حصة الطاقة النووية.
في المقابل فإن عمل بكين الدؤوب في مسرع شعاع الجسيمات والنظام الذي يحركه المعجل (أي دي أس) يمثل أهمية قصوى لصناعة الدولة الصينية واستراتيجيتها في مجال الطاقة، وريادتها العالمية في مجموعة واسعة من القضايا، من التكنولوجيا إلى تغير المناخ. ولهذا يرى كثير من خبراء الطاقة في واشنطن أنه إذا استمرت الولايات المتحدة في ضخ مزيد من الاستثمارات في الابتكار، فقد تصبح هذه الخيارات والتقنيات الجديدة قابلة للتطبيق بالنسبة إلى أميركا أيضاً، بخاصة أن معظم الخبراء يتفقون على أن المصادر المتقدمة للطاقة النووية التي تم تطويرها من خلال مناهج مثل النظام الذي يحركه المعجل (أي دي أس)، هي أكثر أماناً بكثير من سابقاتها ويمكن أن تكون حاسمة بالنسبة إلى العالم لتحقيق أهدافه المناخية في العقود المقبلة، وبينما تتسابق الصين بالتأكيد نحو تحقيق هدفها في الريادة التكنولوجية في مجال الطاقة، فإن هذا لا يعني أنها ستظل الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تستفيد.
المصدر: اندبندنت عربية