بلال تركية
للمرّة الثالثة، تتأكّد مسؤولية نظام الأسد في استخدام الأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً ضد المدنيين العُزّل في سورية، وذلك بحسب التقرير الثالث لفريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT) التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) والمعني بالتحقيق في حوادث استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، والذي صدر في لاهاي يوم الجمعة 27 يناير/كانون الثاني 2023. واستغرق العمل عليه عامين تقريبا، وركّز على الهجوم المرتكب في 7 إبريل/ نيسان 2018، الذي استهدف مدينة دوما المحاصرة، فقد خلص التقرير إلى أن طائرة هليكوبتر واحدة على الأقل تابعة لجيش النظام، والتي عملت تحت قيادة ما يُعرف باسم “قوات النمر”، أسقطت أسطوانتين تحملان غاز الكلورين السام بتركيز عالٍ على مبنيين سكنيين في وسط المدينة، ما تسبب في استشهاد 43 شخصاً تم توثيقهم بالأسماء، وإصابة عشرات آخرين.
خلص هذا التقرير (139 صفحة) إلى هذه النتائج بعد استيفاء التحقيق في كل الأدلة والنظر في شهادات الشهود، وبالاستناد إلى المنهجيات المعتمدة لدى المنظمة. ونظراً إلى محاولات التشكيك بهذه النتائج، فقد استرسل التقرير في سرد أدقّ التفاصيل عن آليات العمل والتوصل إلى الاستنتاجات. إذا ذكر التقرير أن آلية عمل الفريق (IIT) شملت التدقيق في المعلومات التي تم الحصول عليها من بعثة تقصي الحقائق (FFM)، والدول الأطراف في الصراع، والاستماع إلى إفادة 66 من الشهود، وتحليل بيانات من 70 عيّنة. كما شملت أيضا تحليلاً لصور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو والصور الموثّقة، وأجرت نمذجةً لمحاكاة سقوط الأسطوانات، فضلاً عن استشارة الخبراء والمتخصّصين في الطب الجنائي. وقد قام الفريق، بحسب التقرير، بمراجعة 19,000 ملف تجاوزت مساحتها 1.86 تيرابايت من البيانات. ويُشار إلى هذه المنهجيات والجهود المستفيضة بما لا يدع مجالاً للشك أو الطعن في دقّة مخرجات التقرير، الذي يمتلئ بإشارات واضحة إلى عدم تجاوب الجهات المعنية في نظام الأسد مع طلبات فريق التحقيق، وهي استراتيجية لطالما برع فيها هذا النظام، حيث يعمد إلى المراوغة والمماطلة، بغرض تعطيل المسارات القانونية.
وقد تأسّس فريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT) في يونيو/ حزيران 2018، وباشر أعماله بعد عام من التأسيس تقريبا. وقد جاء هذا الفريق خلفاً لبعثة تقصّي الحقائق (FFM) التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) التي تشكّلت في عام 2014، وخلصت نتائج عملها إلى التأكيد على حدوث هجمات باستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، إلا أنها لم تكن تملك صلاحية توجيه الاتهام لأي جهة، بل يقتصر دورها على التحقّق من وقوع الهجمات وتحديد نوع الغاز المستخدم. لذلك جرى تشكيل لجنة التحقيق المشتركة (JIM) بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة في 2015، وقد قدّمت اللجنة سبعة تقارير توجّه الاتهام بشكل واضح لجيش النظام الأسدي، ما دفع روسيا إلى استخدام حقّ النقض (الفيتو) ضد تجديد ولاية اللجنة في أواخر العام 2017. وكإجراء أخير، أسست منظمة حظر الأسلحة الكيميائية فريق التحقيق (IIT).
ولا يفوتنا، في معرض الحديث عن هذه الآليات الدولية، أن نتقدّم بالتقدير والاحترام للأبطال المجهولين من السوريين الذين عملوا وراء الكواليس لحفظ الأدلة ونقلها، إذ تعمّدت قوات النظام بشكل متكرّر طمس الأدلة وإخفاءها، إلا أن الفرق الطبيّة العاملة في الميدان تنبّهت إلى ضرورة توثيق الجرائم وجمع الأدلة، وخاطر أفرادها بحياتهم لنقلها معهم خارج مناطق الهجوم لتصل إلى أيدي المحققين الدوليين. كما لا يمكن أن تنسى جهود الشهود الذي تعرّضوا لضغوط شديدة لكي يعدلوا عن البوح بالحقيقة، إذا قام النظام مراراً وتكراراً بترهيبهم والضغط عليهم، مستخدماً في ذلك أساليب ابتزازهم بإلحاق الأذى بأحبّتهم من أقاربهم الذين ما زالوا في متناول أيدي عناصر مخابرات الأسد. وقد جاءت هذه الشجاعة المطلقة والجهود الفريدة إيماناً من السوريين بضرورة تحقيق العدالة والانتصار لإرادة الحرية والكرامة.
ويمكن اعتبار هذا التقرير الصادر حديثا خطوةً صغيرةً نحو تحقيق العدالة الدولية، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً. إذ إن ولاية، أو نطاق اختصاص، فريق التحقيق وتحديد الهوية محصورة بتقصّي الحقائق، فهو ليس هيئة ملاحقة قضائية أو كيانا قضائيا، كما أنه ليس مسؤولاً عن تحديد المسؤولية الجنائية للأفراد أو المنظمات أو الدول. ولذلك، يجب أن تكون الخطوات التالية، على الساحة الدولية، عبر تفعيل آليات المحاسبة الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، في استخدام نتائج هذه التحقيقات، وتتبع سلاسل القيادة ضمن جيش النظام، والبدء بمحاكماتٍ ضد من تجاوزوا كل الأعراف والقوانين الدولية، وبصورة تثير الاشمئزاز في النفس البشرية السويّة. كما أن هذه النتائج يجب أن تعيد إلى الأذهان أن المجتمع الدولي يجب أن يحرص على مثول المسؤولين عن هذه الجرائم أمام القضاء، وتلقّيهم الجزاء العادل، وفاءً لأرواح الأبرياء التي أزهقوها، ولا تزال أيديهم تقطُر دماً. كما لا يمكن القبول بأي مبرّرات تدعو إلى إقامة علاقات مع مثل هؤلاء، فهم وصمة عار في جبين البشرية، وجرحٍ غائرٍ في ضمير الإنسانية.
لم تفاجئ نتائج هذا التقرير أحداً، فقد أعادت التأكيد على حقائق يعلمها الجميع منذ البداية، ووضعت ما هو معروف للجميع في إطاره الجنائي. وكان التقرير الثاني للفريق (12 إبريل/ نيسان 2021) قد توصل إلى أن طائرة خاضعة لسيطرة “قوات النمر” ألقت أسطوانة واحدة تحتوى غازاً ساماً على الأقل، في هجوم نظام الأسد على مدينة سراقب في 4 فبراير/ شباط 2018، مودية بحياة 12 شخصاً معروفين بالاسم. وبشكلٍ مماثل، حمّل التقرير الأول، الذي أصدره الفريق في 8 إبريل/ نيسان 2020، قوات جيش النظام مسؤولية ثلاث ضربات كيميائية في مدينة اللطامنة في ريف حماة، والتي وقعت في مارس/ آذار 2017. كما أن النتائج التي تمحور حولها التقرير لا تختلف جوهرياً عما توصل إليه تقرير المخابرات الفرنسية، والذي أتيح للعلن في 14 إبريل/ نيسان عام 2018، أي بعد أسبوع فقط من الهجوم.
لم يكن خافياً على أحد أن هذا النظام لم يتورّع عن استخدام شتى صنوف الإجرام تجاه الشعب السوري، في محاولة مستميتة لكسر شوكة الشعب، وخنق صوته الهاتف بالحرية، فقد حمل السوريون في ذاكرتهم، وعلى امتداد العقد الماضي، صورا عديدة مؤلمة، فما تكاد تنتهي مأساة حتى تبدأ أخرى. ولا يزال عديدٌ من هذه المشاهد حاضراً في أذهان السوريين، وهم يشاهدون طائراتٍ دفعوا أثمانها من جيوبهم لكي تحميهم، وهي تُغير فوق رؤوس الآمنين، وتتفنن في أساليب الدمار والتخريب. ومن بين تلك الجرائم الوحشية، احتلت مجازر الأسلحة الكيميائية حيزاً خاصاً من اهتمام المجتمع الدولي. إذ يتذكّر العالم بكل أسى صور الأطفال يختنقون بغازات سامّة، وسط ذهول الأمهات، وعجز الكوادر الطبيّة من هول الفاجعة. وقد بدأ النظام تنفيذ هذه الهجمات في 21 أغسطس/ آب 2013 على الغوطة، متحدّياً بذلك الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي أوباما في حينه. ويمكننا القول إن غياب المساءلة عن مجزرة الغوطة أعطى إشارة بأن الخط الأحمر تحوّل إلى ضوء أخضر. فمنذ العام 2011، جرى تنفيذ أكثر من 336 هجوماً بالأسلحة الكيميائية في سورية، وفي هجمات الغوطة وحدها، ارتقى أكثر من 1,400 شهيد من المدنيين.
وعلى الرغم من أن مرتكبي هذه الجرائم ما زالوا طلقاء، إلا أن السوريون عازمون على مواصلة الجهود في سبيل تحقيق المساءلة، وأن يدفع هؤلاء المجرمون ثمن ما اقترفت أيديهم. وهنا نؤكّد على ما قاله المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، السفير فرناندو أرياس: “يعرف العالم الآن الحقائق، والأمر متروكٌ للمجتمع الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة”.
لقد أصبح نظام الأسد موصوما بكل الأوصاف التي تناسب المجرمين، حيث أصبح يُدعى “نظام الكيماوي” أو “نظام الكبتاغون”، فهو لم يكتف فقط بارتكاب الجرائم ضد أبناء سورية، بل وصل أذاه إلى كل شعوب المنطقة، حيث بات خبر القبض على كميات مهرّبة من المخدّرات بأنواعها الخبيثة متكرّرا على صفحات الأخبار. هذا النظام وعصابته التي باتت مصدر إزعاج وقلق للمنطقة والأمن والسلم الإقليميين، على الجميع ألا يدّخر جهدا في إيصالهما إلى منصّات القضاء الدولية، وبذل كل ما هو ممكن لزيادة عزلته ونبذه من كل منصّة وفضاء. ولا جدل بعد كل ما تقدّم أن التطبيع مع نظامٍ كهذا خطأ جسيم، ولا يمكن إلا أن يعود بالضرر والأذى للجميع. ويتساءل السوريون بدورهم: متى يتحرّك المجتمع الدولي لمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة؟
وفي هذا الصدد، نعبّر عن شكرنا وتقديرنا لبيان وزارة خارجية دولة قطر، والذي عبّر عن دعم الدوحة الجهود الدولية لمحاسبة النظام الأسدي على استخدامه الأسلحة الكيميائية في دوما. ونحن على ثقة كاملة في ثبات الموقف السياسي والأخلاقي لدولة قطر وجهودها المستمرّة تجاه القضية السورية. وقد جدّد البيان التأكيد على المواقف الثابتة والمبدئية لدولة قطر في الوقوف إلى جانب أشقائهم في سورية، واتخاذ مواقف قاطعة ضد الجرائم المروّعة والمجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ المدنيين الأبرياء. كما عبّر البيان عن القيم الأخلاقية لدولة قطر التي تقف إلى جانب العدالة ودعمها جهود المساءلة الدولية. وندعو أشقاءنا وأصدقاءنا إلى تبنّي مواقف مماثلة لدولة قطر، والعمل على توحيد الجهود لضمان المحاسبة والمساءلة، والعمل من أجل حلٍّ سياسيٍّ في سورية وفقًا لبيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن رقم 2254. حيث إن السوريين عازمون على تحقيق مطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة في سورية موحّدة ومستقرّة وآمنة.
المصدر: العربي الجديد