بقيت مجزرة حماة الشهيرة ( 2 – 2 – 1982 ) طيلة ثلاثة عقود حبيسة في ذاكرة جيل الستينيات من السوريين، ولم تحظ باهتمام عموم السوريين قبل آذار من العام 2011 ، علماً أنها إحدى الفظائع التي تفرّد بها نظام الأسد في تاريخ سورية الحديث، إلّا أن جملةً من العوامل حالت دون أن تكون تلك الجريمة مفصلاً نوعياً في سيرورة الوعي السوري، من شأنه – آنذاك – أن يكون حائلاً دون التصالح مع حكم التوحّش والإبادة، من هذه الأسباب ما هو موضوعي ربما يتجاوز قدرة السوريين وإمكانياتهم، ولكنّ ثمة أسباباً ذات صلة وثيقة بثقافة المُوات والاستلاب النفسي والسياسي التي نجح حافظ الأسد في إرسائها، ومن ثم أفلح في تعزيزها، وما تزال لوثاتها عالقة بالوعي الجمعي لدى الكثير من السوريين. وبصراحة – ربما تكون موجعة – يمكن التأكيد على أن الحضور الحيّ لمجزرة حماة قد اقتصر على أصحاب الوجع بالدرجة الأولى، أعني أهالي الضحايا وذويهم الذين لم يكونوا بمنأى عن التنكيل بعد فقد أحبتهم، فعلى أعقاب المجزرة قامت السلطات الأمنية باعتقال الآلاف من أبناء حماة، ممّن هم دون سن ( 16 سنة) وقد وُضعوا في مهاجع خاصة في سجن تدمر العسكري، أُطلق عليها ( مهاجع الأحداث)، ومعظم هؤلاء قضى في السجن مدة تتراوح من ( 10 – 20 ) عاماً، فقط لأن ذويهم تعرّضوا لتصفيات جسدية من جانب قوات النظام، ثم تأتي شريحة ثانية ممّن اعتقلوا في سجون الأسد، وكانوا قد تقاسموا المعاناة مع ذوي ضحايا المجزرة، وسمعوا منهم الشؤون الدقيقة من تفاصيلها، فضلاً عن كونهم شهوداً على الوحشية الأسدية في أعلى درجاتها عنفاً، ومن ثم تاتي شريحة ثالثة وهم مجمل العاملين بالشأن العام، سواء داخل البلاد أو خارجها، فهؤلاء – وعلى الرغم من الظروف الأمنية القاسية – قد أسهموا بالكشف عن فظائع النظام وممارساته، سواء من خلال نشاطهم السياسي والإعلامي، أو من خلال نشاطهم الصحفي والثقافي، ويمكن أن تكون رواية ( القوقعة ) للكاتب مصطفى خليفة، إحدى نتاجات تلك المرحلة، ولعلها من المفارقات المُحزنة أن يتساءل الكثيرون ممن قرأ رواية ( القوقعة) عن مدى صدقيتها، أهي من الخيال المحض، أم مزيج بين الواقع والخيال، علماً أن اهتمام الرواية بالوقائع والتفصيلات كان طاغياً، بل يمكن القول: إن ثمة جوانب من شقاءات سجن تدمر ظلت غائبة عن الرواية، ليس بسبب تقصير من الكاتب او لسبب لا تتيحه طبيعة العمل الأدبي، بل لأن ثمة أنماطاً من الشقاء يمكن للغة أن تصفها أو تحيط بمناخاتها البرّانية، ولكن لا يمكنها تجسيد الأحاسيس الجوانية كما يشعر بها المعتقل في ذروة المعاناة، فحين يُبَلّغُ السجين مساءً بعقوبة سوف يواجهها في صباح اليوم التالي، ولا يعرف سقف هذه العقوبة التي تبدأ بدولاب وربما تنتهي بالموت، تلك الفترة المفعمة بالخوف و الممتدة من التبليغ بالعقوبة وحتى لحظة تنفيذها، لا يدرك عمق شقائها إلّا صاحبها، وكبير السن أو المريض الذي يُجبر على التبوّل أو التغوّط في فراشه ولا يُسمح له بالنهوض أو التقلّب ذات اليمين أو الشمال طيلة ساعات الليل، إذ يمكن الحديث ببساطة عن هكذا مشهد، ولكن تجسيد الإحساس الحقيقي للمريض أو كبير السن ذلك ما هو مُتعذّر على اللغة. وثمة مواقف شديدة الحرج تعرّض لها الكثير من المعتقلين المُفرج عنهم في بداية الألفية الثالثة، وكاتب هذه السطور واحد منهم، ومكمن الحرج حين كنا نتحدّث عن بعض وقائع الإجرام في السجون، كنا نواجَه ببعض ملامح الريبة التي تخفي الشك أو عدم التصديق من الكثيرين، بل ربما ذهب البعض إلى أن تلك مبالغات ناتجة عن اختلال عقلي أو نفسي لدى السجين الذي بدا حديثه أقرب إلى الأساطير منه للواقع،
لقد تمكّن حافظ الأسد من أن يجعل من مذبحة حماة ومجزرة سجن تدمر والمشارقة وجسر الشغور وسواها في بداية عقد الثمانينيات، إنعطافة نوعية في حياة السوريين نحو التشيؤ والاتضاع، ولعل المسألة لا تنحصر بأبعادها السياسية فحسب، بل تطال عمق البنية الأخلاقية بل منظومة المعاني الإنسانية برمتها، ولئن كان من الصحيح أن ثمة عوامل موضوعية كانت كابحة لانتفاضة الضمير وصيحة الحق، كاشتداد سطوة القمع وانفلات حيواني للمخابرات و بعض فرق الجيش الرديفة للأمن من أي عقال قانوني أو إنساني، الأمر الذي راكم طبقات سميكة من الخوف في نفوس عموم السوريين، إلّا أنه – من جهة أخرى – ثمة قطاعات واسعة لم تكن مُنكفئةً بدواعي الخوف من السلطة، وبعيدة عن العمل أو الاهتمام بالشأن العام نتيجة افتقاد البلاد لمقوّمات العمل السياسي أو أي نشاط مدني آخر كما هو حال الكثيرين، بل هناك من بادر ليكون جدراناً شكليةً في قَوام السلطة التي من الصحيح أنها اعتمدت على الساطور الأمني، ولكنها كانت بحاجة أيضاً إلى هياكل سلطوية أخرى لشرعنة الساطور الأمني ومشاطرته المسؤولية الأخلاقية لجميع موبقاته، وبالتالي لاستمرار إنتاجه، فكان هناك ما يدعى مجلس شعب يتهافت المرشّحون إليه ويبذلون الغالي والرخيص للحظوة بشرف عضويته، وكان جميع أعضاء هذا المجلس – باستثناء حالات نادرة جداً – يؤيدون ممارسات السلطة ويدعمونها بالمطلق، ليس عبر نقاشاتهم واستخلاصاتهم الفكرية أو السياسية، بل تعبيراً عن الولاء لرأس النظام حفاظاً على امتيازاتهم الخاصة فحسب، وكان ثمة أيضاً جبهة وطنية تقدمية تتألف من عدة أحزاب سياسية من بنى إيديولوجية وسياسية مختلفة، وما هو مُحقق أن تلك الأحزاب كانت أشد ولاءً للسلطة من ولائها لأفكارها، و كذلك كان ثمة علماء دين ومشايخ يُضفون على حافظ الأسد هالة من القدسية، بل وفي ذروة أحداث مجزرة حماة لم يتردّد هؤلاء بالدعاء له بالنصر على المنابر، وذلك بالتزامن مع استمرار السلطات في سجن تدمر بتطبيق أقسى العقوبات الجسدية على أي سجين يقوم بممارسة شعائر العبادة، وثمة رهط كبير من القوى السياسية اليسارية التي بدت داعمة لنظام الأسد في تلك المرحلة، بذريعة الخصومة مع الإخوان المسلمين الذين بادروا بإشعال المواجهة الدامية مع السلطة، فاكتفوا بمقاربة المشهد من جانبه الإيديولوجي، وغاب البعد الأخلاقي والإنساني عن المسألة. كما يمكن الحديث في هذا السياق عن طوابير كبيرة من المثقفين والإعلاميين والفنانين ووو، وجميع هؤلاء ومن سبقهم لم يكونوا مجرّد موظفين مهنيين في دولة الأسد، بل كانوا من المؤثرين النوعيين والفاعلين العضويين في منظومة السلطة، كما أن هناك – بالطبع – الكثير من أكاديميين وموظفين ومثقفين وفنانين وعلماء وووو، من كافة مؤسسات الدولة وهياكلها، هم مهنيون ووطنيون مخلصون وحالهم لا يختلف كثيراً عن حال بقية المواطنين المغلوب على أمرهم.
المؤسف أولاً: أن مجزرة حماة وسواها من فظائع الحقبة الأسدية الأولى كان من الممكن أن تبقى حبيسة الذاكرة السورية لولا انطلاقة ثورة آذار 2011 ، بل يمكن التأكيد على أن الوعي السوري الجديد الذي قارب مجازر الحقبة الثانية من حكم آل الأسد ما بعد 2011 ، هو المعول الذي نبش الذاكرة السورية وأزاح عنها رواكم الخوف وحرّر سجلّها المُتخم بالفظائع، والمؤسف ثانياً: أن سكوت السوريين طيلة عقود عن مجازر الحقبة الأولى لتجنّب المزيد منها، كان أحد الأسباب التي جعلتهم يتجرّعون أضعاف المزيد الذي كانوا يتحاشونه.
المصدر: تلفزيون سوريا