د- عبدالله تركماني
في سياق بحثنا عن سبل ارساء الديمقراطية على صعيد الدولة وتكريس قيمها على صعيد المجتمع، يجدر بنا تحديد أهم التحديات التي تعيقها:
1 ـ لقد تميز وضع الدولة في العالم العربي، قديماً وحديثاً، بوحدانية الحاكم. وعليه فإنّ من جملة متطلبات غرس الديمقراطية في المجتمع العربي إحداث تغيير في وعي أفراده، تغيير قوامه الفصل تماماً بين ميدان الألوهية الذي يقوم في عقائدنا الدينية على الوحدانية وبين الحاكمية البشرية التي يجب ان تقوم على الشورى، مع الارتفاع بمضمونها ووسائل تطبيقها الى مستوى عصرنا، المستوى الذي يتجسم في النظام الديمقراطي الحديث. وتلك مهمة يتطلب إنجازها ليس فقط التبشير بالديمقراطية لفائدة الحاضر والمستقبل بل أيضاً – ولربما كان هذا أكثر أهمية – نقد الأسس النفسية والاجتماعية التي قام عليها الاستبداد في ماضينا.
2 ـ ويواجه التحوّل الديمقراطي تحدياً آخر يقع على صعيد البنى الاجتماعية، ويتجه هذه المرة بوظيفة الديمقراطية إلى إحداث تغيير اجتماعي يجعل من التعدد السلبي تنوعاً إيجابياً خصباً. ذلك لأنه إذا كانت ” الوحدانية ” هي الظاهرة المهيمنة على صعيد الممارسة السياسية في العالم العربي، فإنّ التعدد – بل التشرذم في بعض الحالات – هو الواقع السائد على الصعيد الاجتماعي. والديمقراطية، بما تعنيه من حرية التفكير والتعبير والتعددية السياسية، هي الإطار الصالح لجعل هذه الكثرة تحقق نفسها بصورة إيجابية. ذلك لأنه ليس هناك من سبيل للحيلولة دون تحوّل الطائفية والعشائرية والتعددية الإثنية إلى أطر اجتماعية للعمل السياسي التناحري الذي يدور بصاحبه في حلقة مفرغة، ليس من سبيل للحيلولة دون ذلك غير التعددية السياسية التي هي من أبرز مظاهر الحياة الديمقراطية.
إنّ الأحزاب عندما تكون تمثيلية حقاً، وعندما تنبني تنظيماتها على اختيارات سياسية وفكرية واضحة، تصبح أداة سلمية طبيعية لاختراق جمود الأطر الاجتماعية التقليدية الموروثة، فتعمل على تطوير العلاقات الاجتماعية داخلها بما تحركه فيها من تناقض في المصالح والمآرب، الشيء الذي يفتح الباب ليس فقط أمام عملية الاندماج الاجتماعي، بل أيضاً أمام الانتقال السلمي للسلطة السياسية والاقتصادية والعلمية من النخب التقليدية، من ارستقراطية مدينية وعشائرية وطائفية، إلى النخب الشعبية العصرية المتنامية (قوى الثقافة والعمل).
3 ـ تواجه الديمقراطية في العالم العربي، كما في الأقطار التي رزحت تحت وطأة النظم الاستبدادية الكليانية، مشكلة الانتقال من هذه النظم ذاتها إلى النظام الديمقراطي. لأنّ النظام الشمولي تتماهى فيه السلطة والدولة والمجتمع وتندمج كلها في شخصية الحاكم الفرد. والديمقراطية تقتضي أولاً، وقبل كل شي، الفصل بين سلطة الدولة والمجتمع المدني. وهذا الفصل يتطلب إما انسحاب كامل الجهاز الاداري والأجهزة السلطوية التي يقوم عليها النظام الكلياني، وإما دمقرطة أجهزة الدولة من داخلها بصورة جذرية بالفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. كما يتطلب من جهة أخرى الحرص على ألا تتحول التعددية، الضرورية للديمقراطية، إلى تفتيت لمكونات المجتمع وانفكاك لأواصر وحدته، مما يفسح المجال لقيام شكل جديد من الديكتاتورية او لاستشراء فوضى وضعية اللادولة. والحل الأمثل لهذه المشاكل يكمن في الانتقال التدريجي المخطط والسريع نحو الديمقراطية، بحيث تتم عملية دمقرطة هياكل السلطة وبنى المجتمع في آن واحد في إطار مسار توافق على مضمونه ومراحله مجموع القوى الوطنية، ضمن ميثاق وطني في كل قطر عربي لإقرار الديمقراطية.
وبالإضافة إلى ما ذكرناه أعلاه ثمة تحديات وإشكاليات أخرى أهمها:
1ـ تدني موقع قضية الديمقراطية في الوعي الاجتماعي والسياسي لدى قطاعات واسعة من المواطنين العرب، فغالبية الجماهير العربية لا تعتبر الديمقراطية أولوية ملحة، وهذا لا يعني أنها ضد الديمقراطية، ولكن يعني أنّ هناك مشكلات وقضايا أخرى أكثر إلحاحا من قضية الديمقراطية، تتمثل في تأمين العمل والصحة والسكن. ومن المؤشرات ذات الدلالة، بعد موجتي ربيع الثورات العربية، بالرغم من إسدال الستار عليها مؤقتاً، أنّ المؤشر العربي لعام 2022، الذي يعده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ سنة 2011، بيّن أنّ 72 بالمئة من المستطلعين الـ 33300 في 14 دولة عربية أيدوا النظام الديمقراطي، ولم يعارضه سوى 19 بالمئة، حيث أعلن المؤيدون ” إنّ النظام الديمقراطي، وإن كانت له مشكلاته، هو أفضل من غيره من الأنظمة “.
2 ـ غياب الديمقراطية على صعيد مؤسسات المجتمع التي تقوم بدور التنشئة الاجتماعية والسياسية للفرد، كالأسرة والمدرسة والجامعة والحزب والنقابة. فالمواطن العربي يمر عبر مراحل حياته المختلفة بشبكة مترابطة من المؤسسات والعلاقات التسلطية، وهي جميعها تصبُّ في تعميق وتكريس قيم الطاعة والإذعان والاتكالية لديه.. وبذلك يصبح أكثر استعداداً لقبول التسلط والخضوع له. ولذلك فإنه لا يمكن إنجاز تحوّل ديمقراطي حقيقي على صعيد الحكم والإدارة دون إنجاز تقدم ديمقراطي على صعيد مؤسسات المجتمع المختلفة التي تشكل الوعي السياسي والاجتماعي للمواطن العربي. ولا غرو أن نؤكد هنا بأنّ المجتمع المدني هو الضامن لمسيرة التقدم الحقيقي والدائم. فقد حققت بعض المجتمعات الشمولية تقدماً اقتصادياً في ظروف تاريخية معينة، ولكن سرعان ما تبين أنه لم يكن تقدماً حقيقياً، بل كان طفرة اقتصادية ساعدت فيها ظروف سياسية معينة، ولما تغيّرت الظروف انكشفت الحقيقة المرة.
3ـ ازمة المجتمع المدني في العالم العربي، ومن أبرز مظاهر هذه الازمة ضعف مؤسساته في العديد من الدول العربية وافتقارها إلى الاستقلالية عن أجهزة السلطة، وافتقار تنظيماته، في حالة السماح بقيامها، إلى القواعد الاجتماعية الواسعة، وتمركزها في فئات اجتماعية ومناطق جغرافية محدودة. والأخطر هو أنّ العديد من هذه المؤسسات تفتقر إلى الديمقراطية الداخلية، وتعاني من كثرة الانشقاقات والانقسامات الداخلية، وهو الأمر الذي يهزُّ من مصداقيتها أمام الشعوب العربية، ويحدُّ من دورها في الحياة العامة.
4 ـ شيوع مظاهر عدم العدالة الاجتماعية وضعف الطبقة الوسطى في العديد من البلدان العربية، وهو الأمر الذي يساهم في خلق المزيد من المشكلات في طريق التطور الديمقراطي. ويرجع فشل النظم العربية في حل المشكلة التوزيعية إلى عوامل عديدة منها طبيعة أنماط التنمية التي اتبعتها هذه النظم، ووجود جوانب عديدة للقصور شابت السياسات والإجراءات التي اتبعتها أغلب النظم العربية. وقد نجم عن كل ذلك استمرار ضعف الطبقة الوسطى وهشاشتها في البلدان العربية، ومن المعروف أنّ هذه الطبقة هي الركيزة الأساسية لأي تطور ديمقراطي حقيقي.
إنّ تجاوز هذه المعوّقات ليست حتمية تاريخية، بل تتطلب إرادة ذاتية تركز على:
– زعزعة استقرار الجماعات والنخب السلطوية ودفعها في اتجاه التسليم بحتمية التغيير.
– تصعيد الخطاب النقدي وتنظيم حركة المجتمع وتنسيقها من خلال أنشطة الأحزاب والنقابات والاتحادات المهنية.
– إنعاش الحياة السياسية من خلال تفعيل الحياة الحزبية والتعددية، واعادة تكوين النخب، والتأكيد على سيادة القانون، وتقييد السلطة بدستور ومؤسسات تحول دون إهدار حقوق الانسان العربي.
– تفعيل المجتمع المدني بالحد من هيمنة سلطة الدولة على تكويناته.
– العمل من أجل دستور ديمقراطي يقر التعددية الحزبية وحرية تكوين الهيئات والمنظمات النقابية والثقافية والاجتماعية، ونشر الثقافة الديمقراطية داخل الأسرة والمدرسة والنقابة.
– تفعيل الإعلام من خلال اقناع صناع القرار بأهميته والحد من السيطرة المبالغ فيها التي تمارسها الجهات الرقابية على وسائل الاتصال.
– توجيه التعليم إلى تنمية التفكير العقلاني العلمي والنقدي، وتهيئة الفرص لخلق مواطن يرفض الخرافات ويؤمن بالعلم.
أما الاشكاليات ذات الطابع القانوني والمؤسسي فتتمثل أهمها في سيادة حكم الأفراد على حساب حكم المؤسسات والقانون، وحتى الدساتير والقوانين في حالة وجودها فهي تدعم من حكم الفرد وتعمق الاختلال بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لحساب الأولى. فضلاً عن شيوع العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية في العديد من البلدان العربية، وهي تضع قيوداً شديدة على حقوق المواطنين وحرياتهم، كما أنّ هناك تناقضاً بين الدساتير والتشريعات العادية في عديد من الحالات. فالتشريعات العادية تأتي متناقضة مع بعض مواد الدستور نظراً لضعف دور الاجهزة المنوط بها مراقبة دستورية القوانين في الدول العربية، أضف إلى ما سبق عدم تجذر قيمة احترام القانون في بلاد العرب على مستوى الحكام قبل المحكومين، إذ هناك فئات وأشخاص فوق القوانين.