شادي علاء الدين
احتل الاتفاق السعودي الإيراني المرعي صينيّا واجهة الأحداث، وأطلق موجة قراءات تنظر إليه بوصفه مدخلا لمرحلة جديدة من التسويات والتهدئة، ستنعكس على كلّ المنطقة، وتنتج حلولا تطول كل الملفات الكبرى، وتبعد شبح الحرب والتصعيد.
ولكن رياح الأمور لا تجري بما تشتهيه سفن المتفائلين والمحللين والمتشائمين، بل تخضع للعناوين التي ولد الاتفاق تحت ظلالها والمرتبطة بثنائية الأمن والاقتصاد.
تسعى السعودية لتمكين نوع جديد من الاقتصاد القائم على الاستثمار في التكنولوجيا الفائقة ما يتطلب الانكفاء عن خوض الحروب الخاصة، وعدم التدخل في أيّ من الصراعات القائمة في المنطقة.
ظروف قبول إيران للاتفاق تحكمه أولويّة أمنيّة تجبرها على تقديم تنازلات كبيرة في سبيل المحافظة على نظامها، إذ يقدم لها إمكانية اقتصاديّة قد تتيح لها الحصول على عائدات مالية جيدة، وتسهم في الإفراج عن أموالها المحتجزة في مقابل تيسيرها للحلول في اليمن.
كل ذلك من شأنه أن يحولها من دولة تتصل مصالحها بالمشاغبة وتعطيل حركة الاقتصاد في المنطقة إلى دولة مشاركة في حفظ أمن الاقتصاد والمساهمة في تسييله.
لا يعني ذلك تغييراً في طبيعة النظام الإيراني، ولكنّه يعني خضوعه لتنازلات إجباريّة في مقابل الحفاظ على نفسه.
الصين تنظر إلى الموضوع برمته على أنه توسيع لدائرة نفوذها وتمتين لعلاقاتها الاقتصادية مع أكبر موردي النفط، ما يمنحها القدرة على خوض الكباش مع أميركا في المجال الوحيد الذي يهمها فعلا وهو التكنولوجيا الفائقة المتمثلة في تايوان التي تجتهد لإحكام سيطرتها الاقتصادية والعسكرية عليها.
كل هذا المناخ لا يؤثر على ما يجري من استعدادات إسرائيلية لخوض حرب ضد إيران برعاية أميركية.
الظروف الداخلية الإسرائيلية التي تشهد احتجاجات كبيرة ضد حكومة نتنياهو لجمت هذا التوجه مرحليّا، ولكن توالي العمليات العسكرية ضد إيران في سوريا وارتفاع وتيرتها، يقول إن هذا التوجه لم يخرج من التداول، بل قد يكون الدرب الذي ستسلكه حكومة اليمين المتطرف للخروج من أزماتها، وخصوصا أنه كان عنوان حملتها الانتخابيّة وتحالفاتها.
الحديث عن لجم مشروع إيران الخارجي كنتيجة مباشرة لمفاعيل الاتفاق السعودي الإيراني أو كصيغة متضمنة فيه يجافي الواقع، بل فقد يكون الأقرب إلى الصواب، التأكيد أن بنية الاتفاق تنطوي على نزعة سعودية وصينية في تحييد نفسيهما عن الحرب القادمة والتركيز على مشاريعهم الخاصة.
عدم ممانعة أميركا للاتفاق بالتوازي مع استمرار التنسيق العسكري والمناورات العسكرية مع إسرائيل والتي تحاكي حربا شاملة ضد إيران، يقود إلى التأكيد أن التسويات المنتظرة ستكون مسبوقة بحروب تنهي الحالة الإيرانية في المنطقة أو تلجمها إلى حد بعيد.
الميدان الأوسع لتلك الحرب المنتظرة يبقى في سوريا، ولعل الإشارات التي تؤذن بقرب انفجار هذه الحرب قد وصلت إلى رئيس النظام السوري الذي يحاول اعتماد سلوك المشاغبة والتشويش على أي اتفاق، ومحاولة فرض شروط على القوى الفاعلة والمؤثرة في الميدان السوري، والاستفادة من الإشارات العربية الموحية بنضوج جو التقارب معه وإعادة تعويمه والاعتراف به، بينما تخاض الأمور عبره وليس معه.
استدعاؤه إلى روسيا يتخذ طابع تبليغه بضرورة القبول بالاشتراطات الجديدة التي تتضمن شروعه في التفاهم مع تركيا في إطار الاجتماع الرباعي الذي يشمله مع روسيا وتركيا وإيران.
لعل توقيت الدعوة الروسية إلى عقد مثل هذا الاجتماع في هذه اللحظة بعد الاتفاق السعودي الإيراني الذي كانت الصين مرجعيته، يوحي بالرغبة في إقامة توازنات تتطلب فرض تنازلات على النظام السوري وعلى إيران التي تساعدها في حربها على أوكرانيا مقابل الحفاظ على الحياد العربي في هذا الشأن.
وكان لافتاً أن استهدافات إسرائيل في سوريا في الفترة التي سبقت هذا الاجتماع شملت مناطق ومنشآت خاضعة للنظام السوري، وكأنها تطلق رسالة مفادها أنه قد بات محسوبا على إيران، وأنّ عليه الانفصال عنها إذا شاء أن يكون طرفا مقبولا في الفترة القادمة.
ظروف الحرب ضد إيران تنضج، ولعل روسيا تدرك أنها لا تستطيع لجمها، كما لا ترغب في تحمل أعباء الدفاع عن إيران التي انتعشت علاقتها معها بعد إقدامها على مدها بطائرات مسيّرة من دون طيار استعملتها في أوكرانيا.
خريطة انتشار إيران المتوسعة في سوريا ليست أمرا مرغوبا فيه بالنسبة لروسيا، التي يمكنها بيع الموافقة على ضربها باتفاق يناسب مصالحها مع أوكرانيا، وتفعيل علاقاتها مع جل القوى الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، وخصوصا الدول العربية التي ستكون الممول الأكبر لمشروع إعمار سوريا.
من هنا فإن ضرب إيران في سوريا وفي إيران والمنطقة بات محل التقاء مصالح عريض إقليمي ودولي يرجح أن تنطلق شراراته الأولى من سوريا ومن لبنان حيث يجد أبرز استثمار إيراني خارجي، أي حزب الله، نفسه غارقا في دوامة الانهيار الاقتصادي الضخم، وعاجزا عن التغطية عليه بمشروع خارجي.
الدفاع عن إيران يستوجب إعادة تفعيل العنوان العقائدي واستخدامه للتغطية على كل شيء.
اللامبالاة التي تسم التعامل العربي والدولي معه في موازاة الانفتاح العربي على الأسد ليست سوى عناوين الحرب على إيران التي تقول إن ترك البلد الواقع تحت سطوة حزب الله يختنق سيحوله من ميزة تفاوضية إلى أزمة مفتوحة تنفجر في وجهه، وتفرض عليه تنازلات كبرى أو تمهد لإخراجه من الساحة.
لا يريد الحزب فتح حرب مع إسرائيل، ولعل إسرائيل كذلك حين تنظر إلى الوضع اللبناني تجد أن تدخلها قد يتخذ طابع إنقاذ للحزب، ولكنها من ناحية أخرى ترى الوضع سانحا ومناسبا لخوض حرب ضد إيران تعاد بعدها رسم خرائط منطقة لا يوجد فيها دول أو كيانات معادية لها.
بعد أن ضمنت تفوقها التكنولوجي والعسكري قد يكون ضرب إيران مدخلها الأساسي لتكريس دورها في المنطقة، والتفرغ لقمع داخل إسرائيل غاضب من ممارسات اليمين، والاستمرار في ارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين من دون أن يرف للعالم جفن.
تلك الحرب القادمة تؤدي وظيفة ضبط الإيقاع قد نكون بعدها أمام تسويات تبقي الأسد في الواجهة في سوريا أو تستعيض عنه بصيغة ما توازيه، وتخرج إيران من معادلات التأثير والفعالية في المنطقة، ولكنها في الآن نفسه تجعل منها المنطقة التي لا وزن لها في العالم، والتي يمكن إنقاذها وضبط الأمور بفتات موارد النفط والتكنولوجيا.
زمن الصواريخ سيأتي مكانه زمان الإحسان العربي والدولي الذي يعني استدامة المرض وتقنين العلاج، والاكتفاء بمنح جرعات محدودة منه تكفي لإدامة الاحتضار الطويل من دون أمل في الشفاء.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا