معقل زهور عدي
مانفتقر إليه هو الحوار المعمق حول التجربة التاريخية للسنوات االماضية بين 2011- 2023 , ومثل ذلك الحوار هو الطريق لتحويل الانتقادات العابرة إلى وعي سياسي يتقدم خطوة نحو الأمام .
يصلح كتاب الدكتور برهان غليون ليكون إحدى أدوات ذلك الحوار . ليس مطلوبا الوقوف معه أو ضده في هذه المسألة أو تلك , بل المطلوب استعراض أفكاره الرئيسية ووضعها على الطاولة وإعمال الفكر فيما تعنيه بادىء ذي بدء , بعد ذلك يأتي وقت النقد وتقليب الأفكار حتى يتميز منها مايصلح خميرة لوعي أرقى وما هو غير ذلك.
وكما كتب الدكتور برهان في مقدمة كتابه فبعد انهيار الخيارات العسكرية ووصولها للطريق المسدود أصبح من الممكن والضروري للمثقف السوري إعمال الفكر في مراجعة التجربة التاريخية للثورة السورية التي أجهضها عنف النظام وأجهز عليها الخيار العسكري .
لن أقف عند كثير مما جاء في الكتاب خاصة بما يخص التفاصيل . هذه أتركها لمن يهتم بالتاريخ , سأقف فقط عند بعض الأفكار الرئيسية والأحداث الفاصلة ذات المغزى .
أولا : المثقف والسياسي
يناقش الدكتور برهان العلاقة بين المثقف والسياسة بصورة عامة ثم عن تلك العلاقة في الحالة السورية , وأخيرا عن الظروف الاستثنائية للثورة السورية التي لم تترك للمثقف الحقيقي خيار الابتعاد عن السياسة .
مالم يجد الدكتور برهان متسعا للغوص فيه هنا على نحو كاف هو أن أزمة العلاقة بين المثقف والسياسة كانت في صلب أزمات الثورة السورية .
فالكوادر المثقفة التي برزت في المعارضة وشكلت لاحقا الناطق باسم الثورة أظهرت عجزا في القيادة السياسية , وهكذا ظهرت الثورة وكأنها بدون قيادة , لقد كانت القيادة تسير وراء الجمهور وليس أمامه .
بين الجمود الموروث عن الأحزاب العقائدية وما تركته سنوات السجن الطويلة والقمع وتصحير الحياة السياسية وبين التفاعل الحي مع نبض الواقع المتبدل وما يتطلبه من حركة سياسية فقدت الثورة إحدى أهم أدواتها وهي القيادة .
في تاريخ كل الثورات التي قدر لها النجاح والانتصار – وهي بلاشك الأقل فغالبية الثورات تنتهي في العادة بالهزيمة في لحظتها التاريخية – هناك قيادات متمرسة تضع الخطط والتكتيكات وتكون ممسكة بالمبادرة إلى حد كبير .
في تجربة الثورة البلشفية ولحل مسألة القيادة أدخل لينين مفهوم الحزب الثوري الذي يتمتع بانضباط حديدي وتعمل قيادته كما تعمل رئاسة الأركان في الجيش , وعن طريق الحزب استطاع قيادة الحركة الشعبية نحو السلطة عبر سلسلة طويلة من التكتيكات السياسية الماهرة . .
أما في حالة الثورة الكوبية فقيادتها السياسية كانت منخرطة في العمل المسلح الذي لجأ إلى سلسلة جبال سيرا مايسترا وحرب العصابات لغاية تفكك السلطة ثم المبادرة بهجوم شامل .
اختلف العصر اليوم , كما أن ظروف سورية بعيدة جدا عن ظروف تلك الثورات , لكن العبرة هنا في أهمية وجود القيادة المتمرسة والتي تتفق مع طبيعة الثورة .
يمكن القول إن النظام عاجل الحركة الشعبية بالاجهاض عن طريق العنف الوحشي وتصفية كل الكوادر الشابة التي بدأت بالظهور كالبراعم بعد عصر الجليد السياسي وهذا صحيح تماما .
من أجل ذلك يبقى الحديث عن الكوادر التي جربت شيئا يشبه التحدث باسم الثورة أكثر من قيادتها لكنها لم تنجح حتى في ذلك .
أزمة القيادة واستقالة المثقفين الشيوخ عن الإضطلاع بها واستبدال ذلك بالإرتماء خلف الحركة الشعبية كانت بداية التحولات التي أسفرت أخيرا عن تصفية كل المعاني الوطنية الديمقراطية والسلمية للثورة السورية .
لايمكن قيادة ثورة شعبية في هذا العصر بدون كوادر على مستوى العصر وعيا وثقافة , بغير ذلك ستتحول لحريق يدمر الدولة والمجتمع .
في لحظة التحول نحو الخيار العسكري برز عجز المثقفين الذين شكلوا الطبقة السياسية المعارضة , وكذلك فإن قصور وعيهم السياسي , واستسلامهم لهذا الخيار , وتبرير معظمهم له , لعب دورا في كل المراحل اللاحقة . ذلك مالم يتم التعرض له على نحو كاف ولابد من مناقشته بالتفصيل لاحقا , لكن ماينبغي تسجيله هنا هو عجز المثقف السوري المتخم بالقوالب النظرية الماركسية سابقا والمتحولة لاحقا إلى ليبرالية عقائدية عن الاضطلاع بدور السياسي .
وكان من نتائج ترسخ الخيار العسكري أن القيادة الفعلية خرجت من يد الطبقة السياسية على نحو متصاعد , فكما يقول مكيافلي في كتابه ” الأمير” : ” شتان بين رجل مسلح ورجل أعزل , ومهما كان الأمر فلن نرى رجلا مسلحا يطيع رجلا أعزل وهو بكامل إرادته , ولن نرى أعزل سالما بين أتباعه المسلحين , فمن المستحيل أن يعمل الاثنان معا في سلام”
ثمة علاقة داخلية بين سلمية الثورة واستنادها للحركة الشعبية وبين دور المثقفين السياسي , وحين يتم إجهاض الحركة الشعبية وظهور الخيار العسكري وتسيده للموقف يتقلص دور المثقف السياسي ويحل مكانه العسكري أو زعيم الحي أو الرجل الذي يأخذ صفة التدين بغض النظر عن ثقافته وفهمه للعصر بل ولأبسط قواعد الحرب والسياسة .
حين استسلم المثقف السوري المعارض للخيار العسكري سواء عن قناعة منه أو باعتبار ذلك الخيار قدرا مقدورا كما يحاول أكثر المثقفين عقلانية تبرير موقفهم الخاطىء في تلك اللحظة التاريخية فقد كان يسلم بوعي منه أو دون وعي مفاتيح الثورة السورية للآخرين , ويستقيل من عمله السياسي ليحجز مكانا له في إطار هامشي كسفير للنوايا الحسنة يتنقل بين الدول والمؤتمرات بدون رصيد مما جعله في موقف لايحسد عليه من الضعف استثمره النظام بنجاح تام .
وبينما نجح المثقف السوري في إيقاد شعلة الحياة السياسية وإخراج جذوتها من تحت الرماد خاصة في الأعوام بين 2000- 2011 فقد فشل لاحقا في دوره الريادي السياسي , وكان فشله سببا مهما في انتكاسة الثورة السورية إذا أردنا التركيز على الجانب الذاتي ووضع الظروف الموضوعية جانبا في السعي لاستخراج الدروس للمستقبل .
.
ثانيا : من أين جاءت الأخطاء الكبرى ؟
في السياسة كما في الحياة لاشيء يولد من العدم , والأخطاء الكبرى لاتحدث بدون أن يكون لها أسباب ومقدمات , وعادة ماتبدأ الأخطاء في الفكر قبل الممارسة لكن الممارسة يمكن أن تؤدي إلى تصحيح تلك الأخطاء أو تراكمها لتقطع الطريق على المراجعة والنقد .
في قيادة هيئات المعارضة السياسية منذ البداية ( المجلس الوطني ) كان هناك تياران رئيسيان تيار ليبرالي وتيار إسلامي , وقد ارتضى التيار الإسلامي إعطاء التيار الليبرالي صدارة المشهد واكتفى بإمساك خيوط الفعاليات الحركية من الداخل مما يعطيه هامشا أكبر في المناورة في انتظار نضوج الظرف الموضوعي .
لم يدخل التيار الليبرالي المجلس الوطني خالي الوفاض بل كانت لديه رؤيا فكرية محددة مسبقا أهم عناصرها
أن الهدف الوحيد للسوريين اليوم هو الديمقراطية والخلاص من الاستبداد . *
* أن الوصول لذلك الهدف يمر عبر التحالف مع السياسة الأمريكية المعنية بنشر الديمقراطية في المنطقة . وقد تم إيضاح ذلك بصورة جلية بنظرية الصفر الإستعماري حيث أعاد الاحتلال الأمريكي العراق من مرحلة ما تحت الصفر الإستبدادي إلى الصفر الاستعماري وهو نقلة تقدمية نحو الأمام لابد منها .
أن على الديمقراطيين السوريين الإمساك بهذه الفرصة التاريخية وعمل مايمكن لاستثمارها في سعيهم نحو الديمقراطية *
لأجل ذلك ينبغي التركيز على كل ما من شأنه المساهمة في الدفع نحو الأمام باتجاه التحول الديمقراطي وإسقاط كل الأفكار والأطروحات الأخرى مثل الأفكار القومية.
مثل ذلك التفكير أصبح عند التيار الليبرالي شيئا يشبه العقيدة , بالتالي حين حصل الربيع العربي وأمكن إزاحة زين العابدين في تونس وحسني مبارك في مصر , وبصورة خاصة حين تدخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في ليبيا عسكريا وتم إسقاط النظام الليبي أصبحت الطريق لدى التيار الليبرالي واضحة وضوح الشمس فالهبة الشعبية السورية ستكون مسألة مؤقتة , بعدها سوف تتدخل الولايات المتحدة كما تدخلت في ليبيا .
ولكون التيار الليبرالي يتصف بالعقائدية ( الدوغما ) فهو لم يفكر كثيرا في الشروط الموضوعية التي تختلف بها سورية عن ليبيا في موقعها الجيوسياسي , كما لم يفكر في علاقات النظام السوري الإقليمية والدولية وشبكة الحماية التي نسجها عبر عشرات السنين.
بل لم يفكر في الشروط الداخلية السورية التي أصبح النظام فيها متماهيا مع الدولة السورية بحيث أن إسقاطه بالعنف وبضربة واحدة يعني المخاطرة بانهيار الدولة أو الحرب الأهلية .
كل ذلك لم يكن موضع اهتمام ذي قيمة لدى التيار الليبرالي مثلما هي العقائدية في السياسة أحيانا كثيرة .
والمفارقة أن ذلك التصور لم يتأثر كثيرا عندما وضعته الممارسة على المحك .
ففي اجتماعاته الأولى مع المعارضة السورية قال لهم السفير الأمريكي في سورية السيد روبرت فورد وبطريقة صريحة للغاية : ” إياكم أن تفكروا بإسقاط النظام ” لكن ذلك لم يكن كافيا لمراجعة تصور كان قد تصلب كحجر. .
لم يكن السيد فورد يمزح , ولم يكن يقول رأيه الشخصي , كان يعبر عن موقف الدولة العميقة في الولايات المتحدة , وهو الموقف الذي لم يتغير قط , دعك من مسألة التعاطف مع مأساة الشعب السوري , أو السعي لايجاد حلول وسط تلبي بعض مطالب المعارضة ولا تسقط النظام .
بالتالي كان يمكن لتفكير سياسي مرن وحيوي أن يستنتج مبكرا أن المراهنة على التدخل الأمريكي مراهنة خاسرة , وأن معركة الديمقراطية في سورية ستكون طويلة ومتعددة المراحل , وأن أي خيار عسكري سيؤدي إلى حرب أهلية ودمار كبير .
وبدلا من تلك المراجعة ومصارحة الشعب بالحقائق والبحث عن مخارج واقعية فقد قاد التيار الليبرالي حملة تخوين ضد كل من لايقول بالتدخل العسكري الخارجي وكأن الغرب والولايات المتحدة يقفون ببوارجهم على شاطىء سورية بانتظار أن يحسم السوريون أمرهم بطلب التدخل العسكري !
وبصورة متسقة فقد استقبلت عسكرة الثورة بترحيب فمهما كان التوازن مختلا بين مجموعات صغيرة تحمل أسلحة فردية وجيش من أقوى جيوش المنطقة مزود بآلاف الدبابات والمدافع والطائرات والصواريخ فإن تلك المعركة لن تكون سوى معركة مؤقتة ريثما يتم التدخل الخارجي , بل هي أيضا ضرورية لتسريع ذلك التدخل وإجبار الدول الكبرى عليه في فعل يشبه الاستغاثة كما حصل في ليبيا .
كل ماجرى بعد ذلك كان مرتبطا بتلك الخلفية من التفكير التي سرعان ما أصبحت شعبية ولاقت صدى واسعا لدى الشباب المتحمس الذي يفتقد الخبرة السياسية .
بدلا من تبديد وهم التدخل العسكري المنقذ , ومراجعة استراتيجية النضال الديمقراطي , والتحذير من الإنزلاق نحو العسكرة سلكت هيئات المعارضة الطريق المعاكس .
وبسلوكها السابق ساهمت بفتح الطريق أمام العسكرة , لكنها بدون وعي كانت تحفر لنفسها فقد حملت العسكرة معها تلاشي نفوذ تلك الهيئات لصالح قادة الفصائل ومن يمولهم ويرعاهم .
يقول الدكتور برهان غليون : ” لم يراودني الشك في أن الانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة المسلحة سوف ينقل القيادة السياسية والتوجيه العام من القوى المدنية التي كانت المفجرة للثورة والتي حملتها على أكتافها في مرحلتها الأولى إلى القوى الاسلامية التي تفاعلت منذ البداية بشكل ايجابي أكبر مع السلاح , مما يفسح المجال كما حصل لبروز الخيارات الجهادية والسلفية التي ستبتلع الثورة المدنية والديمقراطية وتسعى إلى تجييرها لحسابها , وزجها من ثم في دائرة الصراعات الدولية التي جعلت من المستحيل بعد ذلك على قيادتها مهما كانت التحكم بقواها وقرارها”
نعم هذا ماحصل بالفعل , ويبقى السؤال الذي يضعه كثيرون كمتراس بوجه النقد : ألم يكن الخيار العسكري قدرا لابد منه بوجه الخيار العسكري العنيف للنظام بمواجهة الحركة الشعبية ؟
وماذا كان سيفعل الشعب السوري بعد أن هب بالملايين مطالبا بحريته فتمت مواجهته بالرصاص ؟
وفي الحقيقة فإن هذا السؤال يخفي وراءه قدرا كبيرا من التهافت بمقدار مايبدو منطقيا للوهلة الأولى .
لنترك قليلا الإجابة عليه بالحجج المنطقية ولنرجع إلى ماحصل في الواقع .
يذكر الدكتور برهان في كتابه ( عطب الذات ) أن حمل السلاح بدأ لاحقا بعد شهور من مواجهة النظام للمظاهرات السلمية بالرصاص , حيث تكونت مجموعات متناثرة من المسلحين الذين ضموا جنودا منشقين كانت مهمتهم الرئيسية حماية المتظاهرين السلميين .
ثم يذكر الدكتور برهان أن تلك المجموعات سرعان ما وصلت إلى طريق مسدود وبدأت بالتفكك .
بعد ذلك دخلت الدول الإقليمية والكبرى على الخط وتدفقت الأسلحة والتمويل وتم إنشاء غرفتين قياديتين لمراقبة وتوجيه العمل المسلح واحدة في تركيا وأخرى في الأردن بإشراف عدة دول على رأسها الولايات المتحدة .
ماذا يعني ذلك ؟
ببساطة يعني أن خيار العسكرة في البداية كان خاطئا ووصل بسرعة إلى طريق مسدود حين كان مايزال بعيدا عن الأجندات الدولية .
أما في المرحلة التالية فالدفاع عن الخيار العسكري سيكون أصعب بكثير , ورأينا كيف سقط مدويا ليس بفعل ضربات النظام وحلفائه فقط ولكن أيضا بفعل الأوامر التي جاءته لاحقا من غرف التحكم والقيادة في تركيا والأردن.
هذا مايقوله الواقع عن الخيار العسكري , أما إذا انتقلنا للحجج المنطقية التي يسوقها البعض خاصة عن الخيار العسكري في مرحلته الأولى فمجرد التأمل قليلا في حجة الدفاع عن المتظاهرين السلميين يكفي لإظهار تهافت هذه الحجة.
فهل يكفي بضعة مسلحين بأسلحة خفيفة لمواجهة جيش نظامي متماسك ومزود بأحدث الأسلحة ؟
هل كانوا يحمون المتظاهرين أم أن المتظاهرين كانوا يحمونهم ؟
بل لعلي أزعم أن النظام قد استفاد كثيرا من وجود بعض المسلحين لتحويل الصراع إلى صراع مسلح وهو ميدانه المفضل.
أما عن السؤال الآخر : فلايقل تهافتا عما سبق , فالبديل عن الغرق ليس الرمي في النار , والبديل عن النضال السلمي ليس الخيار العسكري غير العقلاني والذي لاتوجد له شروط النصر بل التدمير الشامل .
الخيار العقلاني هو ذاته الذي يطرح اليوم بعد كل ماحصل , أي النضال الوطني السلمي الديمقراطي ذو النفس الطويل وليس الخيارات الانقلابية العنيفة.
لقد دفعت سورية ثمنا باهظا جدا , وعلينا أن نبحث عن الأسباب في أخطائنا ونعترف بها , وذلك هو السبيل الوحيد لعدم تكرارها مستقبلا .
١