رشيد خشانة
هرع وفدان عسكريان أمريكي وفرنسي، إلى ليبيا، في زيارتين منفصلتين، لمتابعة تطور الأوضاع العسكرية في السودان، وتقدير تداعياتها على دول المنطقة بأسرها. وتُعتبر ليبيا حاليا المكان الأفضل لمراقبة ما يجري في السودان، لاسيما في ظل التحركات المحتملة لميليشيات ليبية تدعم «قوات الدعم السريع» بالوقود والرجال، انطلاقا من الحدود الليبية التشادية. كما ناقش الوفدان العسكريان وضع خطة زمنية لمغادرة القوات الأجنبية ليبيا، ومكافحة التهريب عبر حدودها الجنوبية. أما الملف الثالث الذي تم بحثه، فيتعلق بتشكيل قوة عسكرية ليبية مشتركة، من المنطقتين الشرقية والغربية، بدعم من رئاستي الأركان في المنطقتين. وحسب مصادر فرنسية، فإن قوافل مُحملة بالبنزين والأسلحة تحركت باتجاه الحدود الليبية مع السودان. وتؤكد هذه التحركات وجود اتصال بين الميليشيات وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وهي مستقرة في مدينة الكفرة الليبية، الواقعة على مقربة من المثلث الحدودي السودان ليبيا تشاد.
وتثير مثل هذه التحركات قلق الحكومات الغربية، لأن الجيش النظامي الليبي لا يسيطر على هذه المنطقة، حيث ترتع عصابات التهريب وجماعات الإرهاب بلا رقيب. وتُعتبر تلك الشبكات أقوى من الجيش الليبي، الذي يملك قدرات محدودة، وتنقصه تكنولوجيا المراقبة الذكية للحدود. في هذا السياق أكدت صحيفة «ذا أوبزرفر» التابعة لصحيفة «ذا غارديان» البريطانية أن القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر يعمل على إخفاء حوالي عشرة آلاف برميل من النفط يوميا، من شركة حكومية، بهدف إعادة تكريرها في «مصفاة السرير» الليبية، بجودة عالية، ثم نقلها برا إلى السودان عبر الحدود، لصالح قوات الدعم السريع. أما صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية فأفادت أن قوات الدعم السريع تلقت نحو 30 ناقلة وقود وشحنة إمدادات عسكرية على الأقل، من أحد أبناء حفتر. وأوضحت الصحيفة أنها حصلت على تلك المعلومات من مسؤولين ليبيين ودبلوماسيين. وهذا الدعم غير مُستغرب، بحكم التحالف المتين بين الثالوث «فاغنر» و«الدعم السريع» وجيش حفتر. وكان حميدتي أرسل قواته إلى ليبيا للقتال إلى جانب قوات حفتر، لدى الهجوم الفاشل على طرابلس في 2019. كما أن «فاغنر» و«الدعم السريع» نفذتا تدريبات بالذخيرة الحية في ليبيا خلال العامين 2021 و2022. وعلى الصعيد الإقليمي يتسببُ تباعد المواقف من الصراع في السودان، بين حفتر، المؤيد لحميدتي، من جهة، والحكومة المصرية، الداعمة للمؤسسة العسكرية، من جهة ثانية بأكبر أزمة في العلاقات بين الطرفين، والتي ستكون لها تداعيات واستتباعات مهمة، ليس فقط على الصعيد الثنائي، وإنما أيضا على مستقبل العلاقات بين مجمل أطراف الصراع.
ولعل هذا ما حمل واشنطن على إيفاد السفير نورلاند، مبعوثها الخاص لدى ليبيا إلى تشاد، لمحاولة ضبط الأمور، على الحدود المشتركة مع ليبيا، لضمان عدم تسلُل عناصر إرهابية بين النازحين إلى خارج السودان، فرارا من لهيب المعارك. وفي الوقت نفسه طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن من الطرفين إنهاء القتال، مُلوحا بـ«فرض عقوبات جديدة على الجهات المسؤولة عن إراقة الدماء».
لكن اللافت أن الوفود الأجنبية التي تأتي إلى ليبيا لمحاولة التقريب بين الفرقاء، لم تعد تقتصر على الدبلوماسيين والسياسيين، وإنما باتت تشمل العسكريين أيضا، ربما لتداخل الملفات. ولوحظ أن وفدا من وزارة الدفاع الأمريكية برئاسة العقيد بحار مارك امبلوم، وهو مُلحق الدفاع الأمريكي لدى ليبيا، زار طرابلس أخيرا واجتمع مع رئيس الأركان العامة التابع لحكومة الوحدة الوطنية الفريق محمد الحداد، بمقر رئاسة الأركان العامة بطرابلس. والأرجح أن الاجتماع تطرق للحرب الأهلية في السودان والتمدُد السريع لعناصر «فاغنر» الروسية في القارة الأفريقية، بالإضافة للتقدم الذي أحرزته أعمال اللجنة العسكرية 5+5. ولئن لم يُصرح الجانبان بمضمون المحادثات التي تمت بين الطرفين، إلا أن المعروف أن أمريكا تسعى لإخراج روسيا من المواقع التي استحوذت عليها في أفريقيا، أو في الأقل تطويقها والحد من انتشارها في القارة. لكن البيان الصحافي المشترك اكتفى بالحديث عن مساهمة الأمريكيين في «تدريب الجيش الليبي وتطويره».
ويمكن القول إن التقدم المسجل في الاجتماعات الأخيرة للجنة العسكرية 5+5 في تونس وبنغازي وطرابلس، هو الذي حفز الفرنسيين على الدعوة إلى قمة أمنية ليبية- ليبية في باريس، لم يُحدد ميقاتها بعدُ. وحسب مصادر إعلامية فرنسية، فإن مستشار الرئيس الفرنسي في شؤون ليبيا بول سولير، هو المكلف بإعداد القمة الأمنية الليبية، التي ستجمع قيادات أمنية من شرق البلاد وغربها. ويسعى الليبيون للحصول على تكنولوجيا الحدود الذكية، لاستخدامها في المعابر، إلى جانب مواكبة أحدث تقنيات المراقبة، في إطار الإدارة المتكاملة للحدود. ولا يُفوت المسؤولون الأوروبيون فرصة إلا واقتنصوها للتحذير من تداعيات افتقار حراس الحدود الليبيين للتجهيزات اللازمة لمراقبة الحدود البرية، إذ أكد رئيس وحدة إدارة الحدود في بعثة المساعدة الحدودية الأوروبية في ليبيا لويس بويغ، أن حراس الحدود الليبيين، لا يستطيعون تأمين الحدود البرية بشكل كامل، لافتقارهم للمعدات المناسبة والموظفين الكافين لتأمينها.
محاولة فرنسية ثالثة
ومن المتوقع أن يحضر المبعوث الأممي عبدالله باتيلي اجتماع باريس، إلى جانب القائد الأعلى للجيش الليبي، وهو المنصب الذي يتقاسمه كلٌ من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبيه عبد الله اللافي وموسى الكوني. لكن من المستبعد أن يحضر الثلاثة في وقت واحد الاجتماع المرتقب في باريس. كما يُتوقع أن يحضره رئيس الأركان العامة الفريق أول محمد الحداد، الموالي لحكومة الوحدة، ورئيس الأركان بالمنطقة الشرقية الفريق أول عبد الرازق الناظوري، المؤيد لخليفة حفتر، بالإضافة لأعضاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5. ويؤكد الفرنسيون أن هذه الجهود المبذولة على الصعيد الأمني ترمي إلى تأمين الاستقرار، قبل الانتخابات المُزمع إجراؤها مع نهاية العام الجاري. وتدلُ المساعي الفرنسية الحالية على رغبة باريس بالعودة إلى الملعب الليبي، بعدما أخفقت مساعيها الرامية لجمع طرفي النزاع حول مائدة الحوار، من أجل التوصل إلى اتفاق سياسي.
لكن التطور الأكثر إيلاما للفرنسيين تمثل باضطرارهم لسحب قواتهم من منطقة الساحل والصحراء، حيث كانت باريس تبسط سيطرتها على مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا، ومن ثم إنهاء عملية «برخان» التي انطلقت في العام 2013. ويسعى القادة العسكريون الليبيون، في اجتماعهم المُقرر عقده في سبها (جنوب) إلى توحيد المواقف، قبل الذهاب إلى اجتماع باريس، الذي سيبحث إذا ما عُقد فعلا، في توحيد المؤسسة العسكرية، وتشكيل قوة مشتركة للمرة الأولى، بالإضافة إلى إجلاء المرتزقة والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية. وتهدف الأمم المتحدة من خلال إنشاء هذه القوة، إلى التحقُق من مغادرة القوات الأجنبية، من روس وأتراك وسودانيين وتشاديين وسوريين، ليبيا، إلى جانب مكافحة التهريب عبر الحدود الجنوبية للبلد.
تراجع النفوذ العسكري والثقافي
وتُعتبر هذه المبادرة الفرنسية، الثالثة التي يقوم بها الرئيس إيمانويل ماكرون لجمع الفرقاء الليبين، وكانت محاولته الأخيرة في 29 مايو/أيار 2018 عندما دعا القادة الأربعة السراج وحفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي خالد المشري، إلى قمة رباعية في العاصمة الفرنسية، لم تُحقق الأهداف التي كانت منتظرة منها. وتسعى فرنسا إلى المحافظة على ما تبقى لها من حلفاء في المنطقة، بعدما خسرت كثيرا من نفوذها السياسي والعسكري والثقافي، في ظل حملات مركزة على معاقلها التاريخية في غرب أفريقيا. لكن الدعوة إلى عقد الاجتماع العسكري في باريس لا تحظى على ما يبدو بإجماع القيادات العسكرية الليبية، إذ نفى عضو لجنة «5+5» عن المنطقة الغربية مصطفى يحيى وجود مساع لعقد هكذا اجتماع في فرنسا، مؤكدا في تصريحات نقلتها بوابة «ليبيا المستقبل» أن اللجنة العسكرية المشتركة «تُفضّل عقد جميع اجتماعاتها داخل ليبيا». مع ذلك تؤكد باريس أنها «تعتزم لعب دور إيجابي في استقرار ليبيا» عبر السعي لإيجاد حل سياسي، ينتهي بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية متزامنة، بناء على إطار دستوري توافقي.
من جهة أخرى، يُلاحظ أن زيارة الوفد الأمريكي إلى طرابلس، تزامنت مع زيارة وفد عسكري فرنسي لبنغازي، حيث اجتمع مع الفريق أول عبدالرازق الناظوري، رئيس أركان القوات الموالية لخليفة حفتر، والمسيطرة على المنطقة الشرقية. وتؤكد الزيارة انحياز باريس الواضح لأحد طرفي الصراع، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد عُثر عديد المرات على أسلحة فرنسية في مناطق القتال، بالإضافة إلى هروب خبراء عسكريين فرنسيين نحو تونس، من منطقة غريان (شمال غرب) لدى سيطرة قوات الحكومة عليها. وتشترك فرنسا مع مصر في دعم حفتر سياسيا وعسكريا، غير أن الموقف المصري اتسم هذه المرة بكثير من القلق، بسبب تداعيات الحرب الدائرة في السودان، وهو ما يُفسر مهمة الوفد الأمني المصري الذي زار ليبيا أخيرا واجتمع مع خليفة حفتر، أهم حليف للقاهرة في ليبيا. والأرجح أن الوفد أتى لتحذير حفتر من تقديم العون لقائد قوات الدعم السريع حميدتي، أو لعناصر «فاغنر». إلا أن حفتر أنكر مسؤوليته عن أي دعم تقدمه مجموعة «فاغنر» لحميدتي، نافيا أن تكون له أي ولاية على المقاتلين التابعين للشركة الروسية في ليبيا.
قُصارى القول إن إحراز تقدم في تشكيل القوة المشتركة المقترح إنشاؤها، ربما يُساعد في تأمين الاستقرار، تمهيدا للانتخابات، المزمع إجراؤها قبل نهاية العام الجاري، مثلما هو مخطط في خريطة طريق المبعوث الأممي عبد الله باتيلي. لكن لا شيء يضمن أن شرار الحريق المشتعل في السودان لن يصل إلى ليبيا ويُعطل كافة المسارات السياسية، بما فيها مغادرة القوات الأجنبية.
المصدر: القدس العربي