حسن النيفي
لا يمكن التغاضي عن الأيام الحرجة التي أمضاها اللاجئون السوريون في تركيا، وهي الأيام الواقعة ما بين الرابع عشر من أيار الجاري الذي شهد الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والثامن والعشرين من الشهر ذاته، موعد الجولة الثانية التي حُسم فيها المشهد الانتخابي بفوز مرشح حزب العدالة والتنمية السيد رجب طيب أردوغان كرئيس للبلاد لخمس سنوات قادمة. ولعل مبعث الحرج لدى السوري يكمن في الأجندة الانتخابية التي عملت أحزاب المعارضة التركية عليها طيلة سنوات، وقد تمحورت تلك الأجندة حول موضوع ترحيل اللاجئين السوريين باعتبارهم مصدر إفقار لاقتصاد البلاد، بل ربما غدا اللاجئون السوريون شماعة تُعلق عليها جميع المشاكل وفقاً للمعارضة التركية، ولكن يبدو أن الخطاب الانتخابي للمعارضة التركية بعد الجولة الانتخابية الأولى انفلت من معظم ضوابط المنطق وأعراف السياسة، وأخذ منحًى عنصرياً لا يليق ببلد كبير وديمقراطي مثل تركيا، الأمر الذي زاد من مخاوف السوريين على العموم، أضف إلى ذلك الوعود التي أطلقها مرشح المعارضة (كمال كوليتشدار أوغلو) بسحب الجيش التركي من مناطق الشمال السوري وتسليم تلك المدن والبلدات لنظام الأسد، الأمر الذي يحمل في طياته خطراً وجوديا على حياة ما يقارب أربعة ملايين مواطن سوري في تلك المناطق. اليوم، وبعد أن عادت الأمور من جديد إلى حزب العدالة والتنمية بفوز الرئيس أردوغان، وبعد أن هدأت النفوس بزوال كابوس الترحيل المباشر للسوريين نسبياً، أو على الأقل ربما تأجلت تلك المخاوف، حريٌّ بالسوريين، وأعني القوى السياسية وجميع الأطر العسكرية والمدنية التي تنضوي تحت مظلة الثورة، ألّا يركنوا للاسترخاء والاستمرار في سياسة انتظار ما سيفضي إليه صراع المصالح الدولية في سورية، ذلك أن أصل المشكلة السورية أو جزءًا كبيراً منها إنما يكمن فيما تعزز في النفوس ووقر في الأذهان من أن المصير السوري بات بيد الدول، ولم يعد بحول السوريين فعلُ أي شيء، وليس أمامهم سوى الانتظار والمراهنة على انتصار هذه الجهة أو الدولة وهزيمة تلك، ولعل المشكلة تزداد سوءًا وتفاقماً حين ندرك أن من يسعى لتعزيز هذا الضرب من التفكير هي النخب والعديد من القوى السياسية والعسكرية وليس العوام، ولعل هذا ما أفضى إلى حالة واسعة من العطالة في العمل الوطني، فضلاً عن شيوع شعور واسع بالإحباط والقنوط في أوساط الشارع السوري المناهض لنظام الإبادة الأسدي.
ولئن كان ارتياح اللاجئين السوريين في تركيا وسكان الشمال السوري لفوز السيد أردوغان أمراً في غاية المشروعية، كونه مرتبطاً بمخاوف وجودية، إلّا أن فوز حزب العدالة والتنمية ينبغي ألّا يكون باعثاً حقيقياً للاطمئنان على المصير السوري والقضية السورية عموماً، ذلك أن تركيا بلد له مصالحه، والقيادة التي تحظى برضى شعبها هي التي تسعى لتحقيق مصالحه وليست التي تعمل لمصالح الغير وفقاً لاعتبارات أخرى، وعلى جميع الذين يراهنون على الاعتبارات القيمية في السياسية كالدين والأخلاق والمبادئ عليهم أن يتخلّوا عن هذا الوهم، ذلك أن اختيار الشعب التركي لحزب العدالة والتنمية إنما جاء استجابة لإرادة الشعب الذي ينحاز للحكومة التي تعمل على تحقيق مصالحه الاقتصادية والخدمية والأمنية إلخ، قبل أن يكون اختياره مبنياً على اعتبارات إيديولوجية أخرى، وإن كانت المسألة الإيديولوجية حاضرة على مستوى الدعاية الانتخابية إلّا أن أثرها الفعلي لا يُقارن بالجوانب الحياتية الأخرى للمواطن، ولهذا وجب على السوريين الذين ما يزالون مشدودين للخطاب الديني أن يدركوا أن من أولويات حزب العدالة والتنمية في المرحلة القادمة هي المصلحة الوطنية التركية من اقتصاد وأمن بالدرجة الأولى، وليس تحرير القدس أو إعادة فتح القسطنطينية أو فتح روما. كما ينبغي علينا جميعاً – كسوريين – معرفة أن مسألة ترحيل السوريين موجودة وبقوّة على مسارات السياسة التركية بشقيها: الحكومي والمعارض معاً، ولكن الاختلاف بين الطرفين هو في طريقة الترحيل وليس في المبدأ، إذ ليس بخافٍ على أحد أن الحكومة التركية تخوض مفاوضات مع نظام الأسد منذ شهر آب الماضي، وفقاً لتفاهمات تركية روسية إيرانية، وأن إعادة اللاجئين السوريين هي الورقة الأكثر حضوراً في تلك التفاهمات، وربما كان من الصحيح أن الحكومة التركية تدعو إلى إعادة اللاجئين موازاةً مع ضمانات أمنية ووفقاً لشروط تتوافر فيها الحدود المعقولة للحفاظ على حياة اللاجئين وفقاً لتصريحات المسؤولين الأتراك، ولكن من الصحيح أيضاً أنه لا يوجد ثمة ما يبعث الاطمئنان من أية ضمانة مصحوبة باستمرار نظام الأسد في السلطة، ربما كان السوريون وحدهم من يدرك أكثر من سواهم أن النظام الذي لم يدّخر وسيلة من وسائل القتل إلّا وجرّبها على رقاب شعبه، بما فيها الغازات السامة والبراميل، لن تردعه عن استمرار توحّشه وإجرامه أية التزامات أو وعود يقطعها على نفسه أمام الدول أو الجهات الخارجية، فضلاً عن وجود أكثر من (135 ألف معتقل ومعتقلة) ما يزالون في سجونه بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ولو كان لديه أي بوادر حسن نيّة بخصوص الجوانب الإنسانية لبادر إلى الإفراج عن المعتقلين أولاً، ولكنه لم ولن يفعلها، ليس إيغالاً في التشاؤم وليس ضرباً من التنبؤ الغيبي، ولكن هي طبيعة نظام الأسد التي لم تعد خافية على السوريين، فهو ليس معنياً باللاجئين السوريين الذين هجّرتهم وشرّدتهم آلة قتله إلّا بمقدار قدرته على استثمار تشرّدهم وتهجيرهم من جديد، وأعني بذلك ابتزاز الدول الأخرى، ألم يطالب جهاراً وزير خارجية النظام فيصل المقداد في لقاء عمان الوزاري الدول العربية أن تكون إعادة اللاجئين مقرونة بدفع أموال لنظام دمشق حتى يتمكن من تأمين البنى التحتية التي يحتاجها اللاجئون؟ وهل تبلغ الوقاحة درجة أكثر من أن يطلب المجرم مكافأة على إجرامه؟
ما يمكن تأكيده أن مجرّد التفكير في إيجاد حلول للتداعيات الإنسانية للقضية السورية كعودة اللاجئين وسوى ذلك، بمعزل عن البحث في المشكلة الأم التي تتمثل باستمرار نظام الأسد، لهو تفكير يهدف إلى الالتفاف على قضية السوريين وتعزيز مأساتهم، وعلى من يفكر بجدية بمصير اللاجئين السوريين سواء أكانوا في تركيا أم من النازحين في الداخل السوري أم في أي مكان آخر، ألّا تفارق تفكيره الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى لجوئهم أو نزوحهم أو تشرّدهم، بل إن تجريد القضية السورية من إطارها السياسي واختزالها بتداعياتها الإنسانية فقط ، ما هو إلّا تجاهل صارخ لتضحيات السوريين وتَنكُّرٌ لعدالة ومشروعية ثورتهم.