بكر صدقي
في ربيع العام 1982، مر عليّ قريب لي، في إجازة قصيرة من خدمته العسكرية الإلزامية، قبل أن يكمل طريقه إلى قريته. كان مجنداً في الوحدات الخاصة، وقد شارك في الحرب على مدينة حماة في شهر شباط من ذلك العام. والوحدات الخاصة بقيادة اللواء علي حيدر كانت من تلك الوحدات العسكرية عالية التدريب التي يعتمد عليها في حماية النظام، وتقع خارج ولاية قيادة الجيش، كحال الحرس الجمهوري اليوم.
حكى لي قريبي عن بعض ما شهده من فظاعات بحق السكان، وأراني مجموعة من الصور كان قد حصل عليها من أحد البيوت التي اقتحموها بعد خلوها من أهلها (قتلاً؟ اعتقالاً؟ هروباً؟..). صور عائلية عادية تظهر فيها فتاة شابة جميلة بوجه ضاحك. استغربت الأمر بشدة، وسألته لماذا يحتفظ بتلك الصور؟ فقال لي إنها الشيء الوحيد الذي «خرج به» من معركة حماة، في حين نهب زملاؤه المصاغ الذهبي وكل ما خف حمله وغلا ثمنه من البيوت التي استباحوها.
لم أسمع شهادات عن نقل أثاث البيوت المستباحة، كما يحدث اليوم، في سيارات شحن من مدينة حماة الجريحة في ذلك العصر البعيد. ربما حدث ذلك ولم يسمع به أحد بسبب التعتيم الشديد على كل ما حدث هناك من فظاعات، حيث تدور التقديرات حول عدد هائل من القتلى يعد بعشرات الآلاف، ودمار شمل نصف المدينة.
قد يمكننا القول، برغم ذلك، أنه كانت لتعفيش ذلك العصر «كرامته»! أعني أنه ربما لم يبلغ من الانحطاط والوضاعة ما بلغه على يد بشار الأسد، فكان لجندي من الوحدات الخاصة أن يكتفي مغنماً بصور فوتوغرافية لفتاة جميلة لا يعرفها، أو يتم التركيز على النقود والمجوهرات، مقابل تعفيش هذه الأيام الذي يعبر عن جوع وضيع لا يمكن إشباعه بكل غسالات سوريا وبراداتها وكابلات خطوط تليفونها وبلاطات مراحيض بيوتها. جوع موغل في التاريخ للطغمة التي استولت على السلطة في سوريا في الستينيات ولم تشبع من النهب والسلب، ولن تشبع.
نعم، لا يعبر التعفيش المباح في حروب النظام الكيماوي على سوريا، فقط، عن عمل ممنهج لمزيد من إذلال السوريين وتحطيمهم معنوياً بعد تحطيمهم الفيزيائي، بل يعبر أيضاً عن نزوع وضيع و«عين جوعانة» لدى الجنود الأفراد، كل بذاته. ربما لهذا السبب يمكن الافتراض أنه يتم اختيار «كتيبة التعفيش» بعد كل تدمير وترحيل للأهالي، اختياراً دقيقاً من أشد الجنود سفالة، ممن هم مستعدون لبيع أمهاتهم بارتياح، لكي تتم المهمة على أفضل ما يرام. يروي وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس في كتابه المخصص لتمرد رفعت الأسد على أخيه، في عام 1984، حين كان الأخير على فراش المرض، فيقول إن رفعت قد أمر جنوده في سرايا الدفاع باستباحة العاصمة دمشق لمدة ثلاثة أيام، بعد استيلائه المأمول على السلطة، فحلل لهم أموال الناس ونساءهم. وتوعد كل من يحتمل أن يطلب منه شيئاً، بعد انتهاء الفترة المذكورة، بأشد القصاص. إذلال سكان العاصمة و«كسر عينهم» بتلك الطريقة هي «البيان الحكومي» الخاص بالعهد الجديد وبرنامج عملها، فيما لو نجح تمرد رفعت. غير أن الرياح خذلت قائد سرايا الدفاع، وتمكن حافظ الأسد من استعادة السيطرة على الوضع. وتنازل رفعت عن طموحه السلطوي مقابل «تعفيش» المصرف المركزي الذي ستشكل الأموال التي نهبها منه رأس ماله في بلاد الاغتراب.
سبق لـ«الجيش العربي السوري» أن تدرب على التعفيش في لبنان، قبل نقل التجربة إلى الداخل السوري. هناك مرويات كثيرة عن الاستيلاء على بيوت في بيروت ونهب محتوياتها بما في ذلك صنابير الماء وبلاط الأرضيات وأسلاك الكهرباء. ولم يخرج الجيش الأسدي من لبنان، في عام 2005، مذلولاً مخذولاً، إلا وهو يحمل منهوباته في شاحنات مكشوفة.
هناك من يجادلون في موضوع التعفيش هذا بالقول إن الاستيلاء على الغنائم هو عمل مألوف في جميع الحروب، وليس مسلكاً يخص هذا الجيش. هذه الحجة فاسدة من أساسها، لأن الجيوش لا تحتل مدناً وأراضي في بلدها نفسه، ولا تقاتل شعبها، بل يتعلق الأمر عادةً بحروب بين بلدين، يسعى المنتصر فيها إلى إذلال المهزوم فيرتكب ما يرتكبه كجيش احتلال (هذا لا يعني أنني أبرر تلك الأعمال الشائنة حتى حين يتعلق الأمر بحرب بين بلدين). هذا ما يؤكد النتيجة المنطقية التي سبق ووصل إليها السوريون، ومفادها أن النظام الأسدي إدارة استعمارية أجنبية، وجيشه جيش احتلال أجنبي. ليترتب على هذا الحكم مقتضاه: يجب اقتلاع المحتل الغاصب. نقطة على السطر. هناك فيديو يتم تداوله يصور جنوداً من كتيبة التعفيش، في أحياء جنوب دمشق، ألقت عليهم القبض الشرطة العسكرية الروسية بالجرم المشهود. فبطحتهم أرضاً قبل اعتقالهم. لا شيء يدعو للافتراض أن الجنود الروس المحتلين هم أقل سفالة من جنود التعفيش «الوطني» المبطوحين على الأرض. ومع ذلك يثير المشهد الشماتة لدى السوريين، ولا أحد شعر بالتعاطف مع أولئك المجرمين، الأسود على أهل البلد ـ الجرذان تحت أقدام المحتل الروسي.
قريبي الذي ورد ذكره في مطلع المقالة، سيزورني مرةً أخرى، بعد عدة أشهر على زيارته الأولى. فبعدما استتب النصر للوحدات الخاصة على مدينة حماه، انتقل قريبي مع وحدته العسكرية إلى لبنان. لدى عودته الثانية بدا لي شخصاً آخر: مكسوراً منطفئ النظرات. سألته عن حرب لبنان (الاجتياح الإسرائيلي 1982). فقال لي: الطيران الإسرائيلي حطمنا. كنا نموت رعباً كلما سمعنا صوت الطائرات.
لقد اختفى ذلك الجندي الجسور القوي في حماة الذي كان سكان المدينة يرتعدون أمامه قبل أن يتم إعدامهم، وحل محله جندي مذعور ينبطح عند سماع أزيز الطائرات في الجو. لا يفصل بين الحالين أكثر من ثلاثة شهور.
لم يختلف الوضع كثيراً اليوم. جنود بواسل يقتلون المدنيين العزل بكل شجاعة، في المدن والبلدات والقرى السورية. ثم تأتيهم طائرات العدو الغاشم فيفعلونها في سراويلهم. هذه هي صورة النظام المطابقة لحقيقته.
٭ كاتب سوري
المصدر: القدس العربي