على الرغم من مرور اثنتي عشرة سنة كاملة على إنطلاقة ثورة الشعب السوري ضد نظام القهر والإستبداد؛ إلا أن تقييمات موضوعية من قبل الأطراف والقوى والشخصيات الوطنية التي حرضت على الثورة أو شاركت فيها سواء بالكلام والتوعية أو بالاتصالات الخارجية والنشاط الخارجي أو بالمساهمات النضالية الميدانية وما فيها من تضحيات وأثمان ؛ لم تحدث حتى الآن ..إن تقييمًا موضوعيًا لكل مراحل الثورة ومآلاتها ومواطن الضعف والخلل والقصور فيها لم يحدث حتى الآن ..تقييمًا موضوعيًا مترافقًا بنقد ذاتي يتجاوز الأنانيات والولاءات الحزبية والخلفيات المصلحية والارتباطات الفئوية بكل أنواعها ..تقييمًا من شأنه أن يساهم بجدية وفعالية في تصويب المسار وحمايته وفي تصحيح أي خطأ أو انفعال أو تعصب فئوي أو طائفي أو مذهبي وفي وقف الهدر الهائل في التضحيات والإمكانيات والطاقات البشرية تحديدًا…وهي طاقات وتضحيات كان من الممكن والمأمول أن تثمر نتائج تغييرية أفضل بكثير تحمي الشعب والأرض والوطن فيما لو كانت وظفت بشكل منظم منهجي سليم..
لماذا لم تحدث مثل تلك التقييمات الموضوعية حتى الآن ؟؟ أليس هذا بحد ذاته نوعًا من التلكؤ أو التخلي أو ربما اليأس والإحباط وانقطاع الأمل رغم إرتفاع أصوات كثيرة ما تزال تتحدث عن الثورة وكأنها قاب قوسين أو أدنى من الإنتصار وتحقيق الأمنيات والآمال الكبيرة المعلقة حتى الآن ؟؟
أليست التطورات الميدانية المخيفة والسلبيات الكثيرة المحيطة داعيًا لشيء من إعلان حالة طوارىء وطنية تستجمع كل الطاقات الوطنية التي ما تزال متمسكة بالدعوة إلى الثورة والحديث عنها رغم كل الظروف المحبطة ؟؟
أليس من الأفضل بذل الجهود كافة في الأهتمام بالداخل السوري لاستثمار وتوظيف ما فيه من إيجابيات وطاقات شبابية وشعبية واجتماعية مبشرة أو واعدة؛ لمزيد من الإلتحام ومناصرة قضية الثورة حتى التغيير المنشود؟؟
ألم تتضح بعد صورة وخريطة الخارج سواء العربي أو الإقليمي أو الدولي فيما يتعلق بالمواقف الحقيقية وليس المواقف المخادعة المتلاعبة؛ من قضية الشعب السوري وثورته؟؟ وهل نحتاج إلى مزيد من الوقت والتضحية والجهود الضائعة لإدراك حقيقة تلك المواقف وتخلي النظام الرسمي العربي والقوى الدولية كافة عن الشعب السوري ومطالبه العادلة المحقة في الوصول إلى دولة العدالة والمساواة والمواطنة والحرية ؟؟
وهل يليق بوعينا الوطني أن نبقى نلهث وراء انتظار تأييد لن يأتي من هذا النظام الرسمي العربي أو من النظام العالمي الفاسد المتآمر المتواطىء على شعبنا ومطالبه الحرة العادلة؟؟
أليس معيبًا بحقنا أن يبقى البعض منا حتى الآن ينتظر دعمًا لثورتنا من دولة كالولايات المتحدة الأميركية مثلاً أو من يقف في صفها أو يتخذ موقفًا مشابهًا لها بالتواطؤ على شعبنا العربي في سورية؟؟
كان من الأجدر بنا أن ندرك هذا منذ اليوم الأول لقيام الثورة لنعرف أن الغرب الإستعماري لا يمكن أن يؤيد شعبنا في مطالبه في مواجهة النظام الذي يرعاه هو وما يزال يحميه ويحفظه فوق رقبة الشعب السوري كأداة لقمعه ومصادرة تضحياته واستخدامها في غير موضعها تمكينًا له من تحقيق مشاريعه العدائية ضد كل حكم وطني حر شريف؟؟ ألم يكن ضروريًا أن نعي منذ البداية خديعة الشعارات الغربية المتحدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ورفض القمع والإستبداد فيما الوقائع كلها تفيد عكس ذلك تمامًا؟؟ فكم من الجهود التي بذلها وطنيون وناشطون سوريون مخلصون لشعبهم ومطالبه لتغيير موقف هذه الدولة الغربية أو تلك لتحصيل دعمها لثورة الشعب السوري؛ ذهبت سدى فيما كان من الممكن أن تعطي نتائج إيجابية مرضية لو بذلت بالتواصل مع الداخل السوري لإنتاج ظروفه الثورية وتجميع وتأطير وتنظيم طاقاته الفاعلة والإيجابية لمصلحة العمل الوطني التغييري الهادف؟؟
لم يعد مقبولًا استمرار تشتت الطاقات الوطنية وهي كثيرة جدًا وكبيرة الإمكانيات ومتنوعة التواجد في ساحات العالم المختلفة؛ فقد وصلت الوقائع الميدانية في الداخل حدًا لا يمكن السكوت عنه أو الإنصراف عن الإهتمام به إلى اهتمامات أخرى غير مجدية أبدًا..
إن قيمة أية ثورة شعبية تحدد بمقدار ما لها من تأثير في داخل البلد التي تعنى بتغيير نظام الحكم فيه ليكون حكمًا وطنيًا ومقبولاً شعبيًا.. وبدون هذا البعد الشعبي الداخلي لا تنجح ثورة ولا تتحقق لها أية أهداف أو مطالب ذات شأن..
إن التغيير المنشود لا يأتي ولن يأتي إلا عبر الحركات الشعبية في داخل الوطن وهو لن يأتي قطعًا بالجهود التي يبذلها المخلصون مهما كانت كبيرة ومتواصلة.
وفيما ما تزال سورية تعاني أخطار الإحتلالات الأجنبية المتعددة الجنسية واستمرار نظام القمع والإستبداد والفساد؛ فإن أخطارًا أخرى أضيفت تتمثل في العبث بالنسيج الإجتماعي الوطني والشعبي وتصاعد وتيرة التغييرات السكانية الديمغرافية وما تحمله من أخبار وعدوان جدي متواصل ومتكرر على هوية سورية الوطنية واستقرارها الإجتماعي ..حروب مدنية تتواصل لإفساد المجتمع وتفكيكه وتخريب بنائه التاريخي الحضاري عدا عن حروب الأمن والإحتلالات وإشاعة التحلل والتفكك بإستغلال الحاجة الحياتية والضائقة المعيشية وتدهور العملة الوطنية ذاتها..
مع ازدياد الأخطار على وحدة سورية أرضًا وشعبًا..وانغماس أعداد كبيرة من المؤسسات الإغاثية والأممية في تحويل المواطن السوري إلى كائن سلبي عديم الإرادة ينتظر سلة الإغاثة كل شهر تعطى له مرة تلو مرة دون إمكانية الإنتفاع بحقوقه وحريته وإمكانية الحياة الحرة الكريمة..
وإذا كانت كل تلك الأخطار على الشعب السوري؛ سواء القديمة منها أو تلك التي استجدت عقب الثورة والتدخلات الخارجية المتشابكة مع الأطراف المحلية؛ لم تنتج حتى اليوم تنظيمًا للطاقات الوطنية وضبطًا لإطارها الوطني الجامع لبلورة مؤسسات تعبر عن الثورة وتدير شؤونها وتستثمر تضحياتها لإحداث تغيير إيجابي لمصلحة الشعب؛ فإن هذا يدل على وجود خلل كبير في منهجية العمل الوطني وفي أدائه العملاني؛ الأمر الذي ينذر بالتشاؤم ويثير كثيرًا من الإحباط في نفوس الكثيرين من أبناء الشعب بما يشكل عائقًا جديًا أمام أية دعوة مقبلة للإنخراط في حقبة ثورية جديدة..
إن الإهتمام بالداخل السوري بات مطلبًا ثوريًا ملحًا جدًا عوضًا عن تضييع الجهود والوقت في استجداء الحل يأتي من الخارج..وأي حل يفرض من القوى الخارجية لن يكون محققًا لآمال وتطلعات الشعب السوري… بل سيكون على حسابها ونقيضًا لها..
إن كثيرين من الناشطين الوطنيين ينصرفون إلى إثارة قضايا فكرية أو ثقافية هامشية بالنسبة إلى قضية الشعب السوري الأساسية..قضايا تثير الانقسام أو تستنزف الطاقات والتفكير الوطني وتأخذه إلى غير مواقعه ومطالبه الملحة..فيما يبدو آخرون وكأنهم انصرفوا عن قضية الثورة إلى إهتمامات أخرى بعيدة عنها..وهو الأمر الذي يلفت النظر ويثير التساؤلات عن مدى صدقية هؤلاء وأؤلئك في تبني الثورة فكرة ورسالة ودعوة وعملاً ميدانيًا أيضًا.. من الطبيعي أن يتعب بعض الناشئين أو يصيبهم الكسل والتراخي بعد طول المعاناة وكثرة التضحيات وانسداد الأفق أمام مطالب التغيير – كما يرونه هم – فإنه من غير الطبيعي وغير المقبول بقاء وضع القوى الوطنية على ما هي عليه من تشتت وإسترخاء..إن الكلام النظري والحوارات النظرية والنضال من خلال صفحات التواصل الإجتماعي لن يجدي أو يجني شيئا ..فيما المطلوب الملح من جميع الناشطين المخلصين لرسالة الثورة وقضيتها أمران أساسيان:
– الأول : تشكيل أداة وطنية واحدة تقود وتوجه العمل الوطني وتعبر عن الشعب السوري وتتحدث باسمه وتستبعد أؤلئك الذي يجنون الأرباح الشخصية أو الفئوية على حساب الثورة والشعب؛ منصاعين بذلك لتعليمات جهات خارجية لا تريد إنتصارًا للشعب السوري بل عكس ذلك..
– الثاني : إعطاء أولوية العمل وبذل الجهود لتنظيم شؤون الثورة في الداخل والإهتمام بإنسان الداخل والتصدي لكشف الأخطار الطارئة والمستجدة على حياته ووجوده وإعانته ورعايته في مواجهتها والتصدي لها..
وما لم يتحقق هذان الأمران فإن الوضع سيزداد تدهورًا ويستمر اختلاف تمثيل الثورة والشعب من قبل أدوات باتت مكشوفة تمامًا بإرتهانها للقوى الخارجية التي تمولها ثم تتلاعب بها وتسخرها لتمرير مصالحها الخاصة ومشاريعها المشبوهة..
وما لم يترفع جميع الناشطين والوطنيين عن خلفياتهم الفئوية والحزبية وعن عنادهم وتشبثهم بالذاتية المفرطة وينخرطوا في جبهة موحدة فاعلة لتمثيل حقيقي للشعب وثورته؛ فإن آمال التغيير تتناقص بالسرعة المدهشة ..المطلوب منا جميعًا الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الوطنية بجدية وإخلاص وسرعة والعودة إلى الإهتمام بالأولوية القصوى لشعبنا في الداخل؛ حوارًا وتفاعلاً ورعاية وتأطيرًا؛ حتى لا نندم على ما فات ولا تتهمنا الأجيال المقبلة بالعجز والتقصير والانصراف عن تحمل تبعات الثورة بعد أن كنا نحرض الشعب عليها..
إن النخب الناشطة من مثقفين وطلاب وتنظيمات وتنسيقيات ومنظمات ومنصات إعلامية وهيئات إغاثية وقدرات وطاقات علمية وفنية ومهنية ومالية؛ تتحمل جميعًا مسؤولية إيجاد إطار جبهوي منظم لإدارة شؤون ومتطلبات العمل الوطني في المرحلة الراهنة التي تواجه فيها بلادنا مخاطر التقسيم والتفكك الجغرافي والاجتماعي وضياع الهوية وبقاء القهر والظلم والإحتلال وضياع الموارد الطبيعية والبشرية لسنوات وسنوات.. وإن لم نفعل فلن ترحمنا الأيام والأجيال والتاريخ .. إن حركة الأحداث لا تتوقف بانتظار تخلي الكثيرين منا عن ذاتياتهم أو فئوياتهم أو مناكفاتهم الحزبية أوخلفياتهم المصلحية أوتطلعاتهم الوجاهية أو استعراضاتهم الخطابية والكلامية.. حرام ثم حرام ثم حرام بل جريمة خطيرة بحق شعبنا وشهدائه ومعتقليه وثورته أن يبقى الوطنيون على ما هم عليه من تعثر وتلكؤ وتشتت.. مطلوب منا جميعًا أن نكون فاعلين في الأحداث وليس منتظرين لنتائجها تأتي إلينا على غير ما نرغب ونريد..ولا أن نتساءل عن موقف فلان أو علان ونحن نكتفي بتتبع أخبار القوى الخارجية وهي تعبث ببلادنا وتخربها وتسرق مواردها وتتقاسمها..
المصدر: موقع ملتقى العروبيين