د- عبدالله تركماني
أضحت التحليلات والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية تكتسب أهمية كبيرة، حيث باتت تشكل حقلاً معرفياً ومهنياً متمايزاً في مناهجه وطرق بحثه. إذ إنّ الاستراتيجية تعني ” اتّباع منهج علمي لتحليل المعطيات والعوامل، وتحديد الأهداف القريبة والبعيدة، ورسم المراحل، وتبيان الوسائل اللازمة والكافية لبلوغ الأهداف “. ويمكن تحديد مفهوم الاستراتيجية المعاصرة في أربعة عناصر (1): أولها، أنه يرتبط بأمن الدولة والمجتمع. وثانيها، يُعنى بتعبئة موارد المجتمع وتنظيمها وتوجيهها. وثالثها، متغيّر ومتطور بتغيّر الظروف والموارد والخيارات المتاحة. ورابعها، يتضمن في ثناياه عدداً من الاستراتيجيات المتخصصة، التي تترابط وتتكامل فيما بينها لتحقق، كلٌّ في مجالها، أغراض الاستراتيجية العامة، وصولاً إلى الأغراض التي حددتها السياسة.
كما يمكن أن نبرز أربع خصائص أساسية اتسمت بها الدراسات الاستراتيجية في مرحلة ما بعد الحربين:
(1) – لم يعد التفكير الاستراتيجي مقتصراً فقط على الإدارة الكفؤة للحرب، إذ انتقل الاهتمام إلى التهديد بالحرب ودراسة أحداث العنف الفعلية، وهو ما يعني الاهتمام بدراسات الردع وإدارة الأزمة ودفع المخاطر وما شاكل ذلك.
(2) – لم تعد الدراسات الاستراتيجية مقتصرة على جنرالات الحرب والعسكريين، بل أنّ الخبراء المدنيين والمفكرين الاستراتيجيين دخلوا إلى هذا المجال، حيث فاقوا من حيث الكم والكيف جنرالات الجيش. وعليه فقد سيطر هؤلاء الخبراء والمفكرون على مجال الدراسات الاستراتيجية بشكل واضح.
(3) – تتسم الدراسات الاستراتيجية، في حقبتنا المعاصرة، بصفة التجريد والتنظير والميل إلى التنبؤ بالمستقبل، وعليه اتجهت إلى وضع الخطط والسياسات والتنبؤ باحتمالات المستقبل.
(4) – اتجهت الدراسات الاستراتيجية الحديثة إلى التعقيد والتشابك وتبنّي طرائق منهجية علمية حديثة، مما أعطاها آفاقاً علمية وتحليلية أرحب، وأسهم في استخدام أدوات ونظريات تحليلية جديدة.
أما الدراسات المستقبلية فقد طرأت تغيّرات جذرية عديدة على النظرة إليها، حيث شملت المجال والمناهج وأساليب البحث ومضامين هذه الدراسات والأهداف التي ترمي إليها. وتظهر هذه التطورات مدى اتساع وتنوّع المجالات، إذ اتسمت هذه الدراسات بطابع الكلية والشمول، حتى وإن كانت تتناول موضوعاً واحداً جزئياً يبدو لأول وهلة أنّ مجاله ضيق ومحدود ومنفصل عن غيره من الموضوعات أو أنّ له استقلالاً ذاتياً.
وبداية من المهم فك الالتباس الذي يحيط بالدراسات المستقبلية، حيث تعني الدراسة المستقبلية القدرة على التحكم في المستقبل من خلال الاستعداد، بمجموعة من المبادرات والخطط، لمواجهة الاحتمالات المختلفة. ومن ثم فالعمل المستقبلي يستهدف إحداث نقلة نوعية متمايزة بين الحاضر والمستقبل. ويُعنى استشراف المستقبل بالتعرف على آليات الحركة ومحدداتها وسبل الربط بين هذه الآليات، بما يعنيه ذلك من وضع سيناريوهات ومشاهد بديلة. ومما يزيد من صعوبة الدراسات المستقبلية مسألة التغيّرات السريعة المصاحبة للثورة المعرفية والتكنولوجية، وهو ما يجعلنا نتجاوز ” صدمة المستقبل ” وتغيّراته اللاحقة من خلال إدراج جهودنا في سياق منظومة التفكير المستقبلي.
إنّ أهم عناصر النجاح النسبي لدراسات المستقبل هي (2):
(1) – توافر أقصى قدر ممكن من المعلومات الصحيحة والمتكاملة حول موضوع البحث.
(2) – توافر الحياد الموضوعي لدى الباحث، بعيداً عن مشاعر التفاؤل والتشاؤم.
(3) – توافر المناخ الملائم للبحث بعيداً عن الضغوط بمختلف أشكالها، وخاصة السياسية والدينية.
– ولكي نصل إلى تصوّر مستقبلي يجب أن نقوم بخطوات أساسية منها:
(1) – تحديد الموضوع المراد دراسة مستقبله جيداً، أو صياغة الإشكالية المراد دراستها صياغة واضحة ودقيقة.
(2) – تحديد الإطار الجغرافي للموضوع، والمدى الزمني المستقبلي المراد بحثه.
(3) – قراءة ماضي وحاضر هذا الموضوع جيداً، والربط بين الظواهر، واستخلاص نتائج ومؤشرات عامة، لأنّ المستقبل غير منفصل عن الماضي والحاضر.
(4) – الربط بين الموضوع المراد دراسة مستقبله والموضوعات الأخرى المؤثرة فيه، سواء داخلياً أو إقليمياً أو دولياً. خاصة على ضوء المتغيّرات العميقة في ثورة الاتصال والتكنولوجيا، والمتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسة والثقافية الكبرى في العالم.
(5) – الواقعية والموضوعية في الدراسة، بحيث يجب الابتعاد عن الآمال والأحلام والرغبات الشخصية، وتجنّب تأثير عوامل الحاضر الضاغطة المؤقتة.
(6) – التمتع، في الوقت نفسه، بالقدرة على التخيّل، خاصة طويل المدى. والتمتع بالبصيرة، بما تنطوي عليه من إمكانية توقّع ما سيأتي أو رؤيته أو الإحساس به.
(7) – المرونة في التفكير، وتصوّر بدائل أو احتمالات للمستقبل، مع تنظيمها في سلسلة أولويات.
(8) – إنّ دراسة المستقبل هي دراسة لما يمكن أن يطرأ على الموضوع تحت الدراسة من تغيّر، ومدى هذا التغيّر. إذ إنّ دراسة المستقبل، في وجه من أهم وجوهها، هي دراسة للمتغيّرات، وللعوامل التي تؤدي إلى التغيير، وكيفية هذا التغيير، وتأثيره على مستويات أو أوساط متعددة ومتنوعة أو مختلفة .
– وتكمن أهمية دراسات المستقبل في:
(1) – أنها تمنحنا الفرصة للحيطة ضد مخاطر المستقبل.
(2) – أنها تمنحنا الفرصة لمحاولة التأثير في مستقبلنا، أن نكون فاعلين لا مفعولاً بهم.
(3) – أنها تمنحنا الفرصة لفهم صحيح لما يجري حولنا، والفرصة لنحسّن من ظروف الحاضر أيضاً للوصول إلى مستقبل أفضل.
(4) – على المستوى العلمي وتطبيقاته، تحفّزنا من أجل مزيد من الاهتمام به والابتكار فيه، كما تساعدنا على تنمية ملكات الخيال.
وعلى أي حال فإنّ الدراسات المستقبلية تحتل الآن مكانة مرموقة في بحوث العلم الاجتماعي ويتسع نطاق بحوثها واهتماماتها، بحيث يشمل إمكانات المستقبل وتغيّراته المتوقعة في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية وتغيّرات البيئة وغيرها، ولذا يرى دارسو المستقبل، أو بعضهم على الأصح، أنّ دراساتهم، التي تقوم على أسس وقواعد منهجية سليمة، كفيلة بأن تزوّد أصحاب القرار وصنّاع السياسات بالمعلومات اللازمة عن احتمالات المستقبل، في ضوء ظروف تتميز بعدم اليقين وعدم الاستقرار، وهي الملامح المميزة للأوضاع السائدة في عالم اليوم.
وهناك في رأي عدد من الباحثين بعض صعوبات أو مشكلات تواجه الدراسات المستقبلية، باعتبارها مجالاً قائماً بذاته في منظومة التخصصات المتنوعة التي تؤلف العلم الاجتماعي، وهي صعوبات تتعلق في معظمها بتحديد المجال وقواعد المنهج وخصائص الأساليب والطرق التي يمكن الاستعانة بها في عمليات الرصد وتحديد التوقعات (3): وأول هذه الصعوبات أو المشاكل التي تواجه المستقبليين هي الاتساع الرهيب في المجال الذي تتحرك فيه تلك الدراسات، وتعدد وتنوّع الموضوعات التي تغطيها، بحيث تكاد تفقد هويتها. ثم هناك ثانياً المشكلة الناشئة عن عدم تطوير بحوث الدراسات المستقبلية ذاتها بالقدر الكافي الذي يتلاءم مع المستجدات العلمية والتكنولوجية، وحركة التغيّر السريع في تلك المجالات، وتأثيرها على تطور المجتمع الإنساني والتقدم نحو مستقبل مختلف كل الاختلاف عن كل ما عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل. فالأمر يحتاج إلى (اختراع) وسائل ومناهج جديدة تماماً تصدر عن رؤى مختلفة وتفكير مختلف، وتأخذ في الاعتبار مستجدات الحياة ومفردات الوضع العلمي والاجتماعي ومسيرة الإنسان بوجه عام، فضلاً عن الحاجة لبذل الجهد للتعريف بتلك الدراسات وأهميتها ومجالها على نطاق واسع يتجاوز حدود المتخصصين، لأنّ مشكلات وقضايا الدراسات المستقبلية لها صلة وثيقة بالوضع الإنساني ككل وليس بفئة أو صفوة صغيرة محدودة فحسب.
وليس من شك في أنّ الدراسات المستقبلية حققت كثيراً من النجاح والتطور والمكاسب بعد جدل طويل حول الأسس الفلسفية، التي تقوم عليها وحول مدى علميتها. فقد أمكن تحديد قاعدتها المعرفية، حتى وإن كانت على ذلك القدر الهائل من الاتساع والتنوع والتداخل مع تخصصات أخرى عدة.
فمثلاً إذا كان مصطلح التوازنات الاستراتيجية ينطوي على تقييم حالة القوى وعناصرها المكوّنة لها في منطقة معينة، فإنّ هذا التقييم يختلف في حالة الحرب عنه في حالة السلام، فمَن يمتلك خيارا الحرب والسلام معاً هو الذي يلعب الدور الأول في أية توازنات. كما أنّ العامل البشري والتطور الاقتصادي هما العاملان الأساسيان في موازين القوى والتوازنات الاستراتيجية، أما العامل العسكري، خاصة القوى التقليدية، فقد تضاءل دوره – نسبياً – في هذه الموازين وفي العلاقات الدولية عامة، فالأمن لم يعد يدار بالقوة العسكرية المجردة فقط، وإنما – أساساً – بالقوة الاقتصادية. وكثير من العلاقات بين الدول والأقاليم لم يعد يضمنها غير النفوذ الاقتصادي والمالي الذي عوّض، أو كاد أن يعوّض، النفوذ العسكري (4).
لقد أثبتت الأحداث أنّ القوة العسكرية عنصر من عناصر القوة الشاملة، وهي أقل فاعلية اليوم عما كان يحدث في الماضي، إذ أصبح الصراع بين الدول يعكس مجموع عناصر قوى الدولة في المجالات المختلفة. كما أظهرت السنوات الماضية أنّ ” القوة الصلبة ” لم تتمكن، كما أظهرت الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق وكذلك في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، من حسم المواقف في الميدان. وترتيباً على ذلك فإننا سوف نرى استخدام ” القوة الناعمة ” متمثلة في الردع دون استخدام القوة، بل بالتهديد بها وفي الإقناع والحوار والتفاوض.
وعليه، فإنّ الوضع الجيو- استراتيجي لدولة أو لمنطقة إقليمية معينة، يعني التفاعل بين مقوماتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية، وتأثير ذلك في سياستها الخارجية، ثم تأثيره على علاقاتها مع المناطق المجاورة لها.
وتتوقف مكانة القوى الإقليمية على وعي مراكز الثقل الإقليمية بالتحولات الاستراتيجية التي بدأت بالتشكل منذ بداية الألفية الثالثة، وعلى سعيها لتعزيز مصالحها بالشراكات الإقليمية، والأهم من هذا وذاك التوظيف العقلاني المجدي لمواردها الاقتصادية والبشرية ولموقعها الجغرا – سياسي، ويجدر بنا أن نلاحظ (5):
(1) – السياسة الدولية لا تعرف حدوداً لحركة الدول، المهم فيها هو الإرادة والتصميم والهدف الواضح، والرؤية الثاقبة والتوظيف الأمثل لعوامل القوة المتاحة.
(2) – على درجة المسؤولية التي تظهرها النخب الحاكمة، وعلى القدرة التي تبديها في جعل مصالح شعوبها في اتساق وتطابق مع مصالح المجموعة الدولية عموماً والشعوب المحيطة بها بشكل خاص، تتوقف فرصتها في الحصول على موقع في هذه الشراكة. وبقدر ما يكون للدولة من مشاركة إيجابية في بناء إطار فعّال وناجع للتعاون الإقليمي، وبالتالي بقدر ما تساهم في تحسين فرص التنمية عند المجتمعات المحيطة بها وليس فقط داخل حدودها، تحظى بقدر أكبر من المصداقية، وتزداد فرص حصولها على الشرعية العالمية.
أما القوة العسكرية فهي، إن لم تكن متوازنة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن تتحول إلى كارثة. وبالنسبة للموارد الاقتصادية فإذا لم يقترن وجودها بإدارة رشيدة، وقدرات تكنولوجية، وبنية مؤسساتية، فلن تكون لها صلة بتطوير إمكانات الدولة المعنية.
الهوامش
(1) – د. هيثم كيلاني: جولة في عالم الاستراتيجية – مجلة ” الوحدة “، العدد (69)، المجلس القومي للثقافة العربية – الرباط – يونيو/حزيران 1990.
(2) – د. عبدالله، تركماني: التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط وأبعادها في العالم العربي – مجلة ” دراسات دولية ” التونسية – العدد (77)، ديسمبر/كانون الأول 2000.
(3) – د. أحمد أبو زيد: الدراسات المستقبلية المتغيرة.. – مجلة ” العربي ” الكويتية: العدد (610) – سبتمبر/أيلول 2009.
من أهم الأعمال التي صدرت في هذا الشأن كتاب للأستاذة الإيطالية إليونورا باربييري ماسيني Eleonora Barbieri Masini بعنوان: ” الدراسات المستقبلية.. لماذا؟ ” أو Why Futures studies? الذي صدر عام 1993. وتشغل ماسيني منصب أستاذ ة القانون وعلم الاجتماع في جامعة روما، كما أنها رئيسة لجنة ” مشروع مستقبليات الثقافات “، الذي تشرف عليه اليونسكو. ويطلق الكثيرون – في أوربا على الأقل – على ماسيني لقب ” أم الدراسات المستقبلية “، نظراً لأنها أمضت كل حياتها المهنية في العمل على تطوير تلك الدراسات والدعوة إلى نشرها بين أوساط الشباب والدارسين في الجامعات بوجه خاص، وتنادي بضرورة النظر إلى المستقبل في ضوء التطورات الاقتصادية التي يشهدها العالم، كما تؤمن بأنّ من شأن التواصل الثقافي تغيير العالم نحو مستقبل أفضل، بالرغم من كل العوائق التي تعطل هذا التوجه وأهمها شعارات العولمة التي تخفي وراءها دعاوى الهيمنة الأمريكية، إلى جانب التراخي في استخدام الموارد البشرية والاعتماد الكلي على التكنولوجيا والإنجازات العلمية الحديثة.
(4) – د. عبدالله تركماني: حول التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط – صحيفة ” المستقبل ” اللبنانية – 23 أكتوبر/تشرين الأول 2009.
(5) – د. عبدالله، تركماني: التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط وأبعادها في العالم العربي – المرجع السابق.