معقل زهور عدي
تعود أسس العهد الفيصلي مباشرة لثورة الشريف حسين والإتحاد الذي حدث خلال الفترة التاريخية ذاتها بين الحركات القومية في بلاد الشام وتلك الثورة.
وضمن الوقت المستقطع مابين انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وبين تفرغ الدولتين الإستعماريتين الكبيرتين بريطانيا وفرنسا للمباشرة بتطبيق اتفاق سايكس بيكو بعد حل خلافهم حول تلك المعاهدة السابقة على نهاية الحرب , وكذلك الإنتهاء من معاهدات الإستسلام لدول المحور المهزومة خاصة ألمانيا ( معاهدة فرساي ) والإمبراطورية النمساوية – المجرية ( معاهدة سان جرمان ) ثم الدولة العثمانية ( معاهدة سيفر ) , والتغلب على التدخل الأمريكي الخجول في السياسة الإستعمارية لبريطانيا وفرنسا , أقول ضمن ذلك الوقت المستقطع, تمكنت سورية من تقديم نموذج حي لدولة حديثة ديمقراطية رائدة , ستبقى في وجدان العرب والسوريين مصدر إلهام لوقت طويل.
لم يكن العهد الفيصلي طويلاً في عمره , فهو لم يعمر أكثر من اثنين وعشرين شهرا , لكن التجارب التاريخية لاتقاس بطول المدة التاريخية أو قصرها , فبينما بقيت أوربة غارقة في ظلام العصور الوسطى من القرن السادس الميلادي وحتى القرن السادس عشر كانت الحياة فيها تسير وفق نمط ثابت وأفكار لاتتغير , فإننا نجد بعد ذلك نهوضا متصاعدا في التجارة والإقتصاد والفكر خلال حوالي مئتي عام ثم جاءت الثورة الفرنسية لتقلب المفاهيم الاجتماعية والسياسية السائدة رأسا على عقب خلال عشر سنوات بدأ بالعام 1789 , وبالمثل كان العهد الفيصلي شديد الأهمية من حيث طبيعة الإنجازات التي شهدها ودلالات تلك الإنجازات , ويمكن اعتباره مهدا للوطنية السورية مثلما كان تجسيدا وتجليا ماديا للفكرة القومية العربية لأول مرة , ومختبرا لأول ديمقراطية حداثية عربية حقيقية .
مايعنيني أيضا هوالتركيز على ذلك التفاعل الخلاق بين العروبة والوطنية السورية والإسلام المستنير والحداثة , والذي يكفي للدلالة على أن اجتماع تلك العناصر ليس من قبيل اجتماع الأضداد , والشرط هنا هو توفر نخب كتلك التي شهدها العهد الفيصلي , أما حين لايتوفر تيار إسلامي مستنير , أو علماني مرن متلائم مع البيئة الإجتماعية والثقافية , أو قومي عربي ديمقراطي فمن الطبيعي أن لانتوقع وجود إمكانية لاستعادة تلك التجربة التاريخية.
في بدء العهد الفيصلي كانت الريادة السياسية للتيار القومي العربي الذي سبق أن تكون مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بصيغة الجمعيات العربية خاصة جمعية العربية الفتاة التي استطاعت تأسيس قاعدة لها في دمشق بعد أن نقلت مقرها من باريس عقب مؤتمر باريس عام 1913 والذي كان مرحلة فاصلة في صياغة المطالب القومية العربية وفق برنامج سياسي واضح المعالم أصبح فيما بعد البرنامج المشترك لكل القوى والتجمعات القومية العربية حتى العام 1916 حين خرجت للوجود فكرة الإستقلال التام عن الدولة العثمانية بفعل الحرب العالمية الأولى والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها جمال باشا خلال مدة حكمه لبلاد الشام بين 1915 – 1917 ببطشه بالمثقفين والناشطين السياسيين العرب وعوائلهم , ونقل وبعثرة الضباط العرب نحو الجبهات البعيدة , وفرض التتريك بالقوة , وكان يتم كل ذلك والدولة العثمانية بأضعف حالاتها , والحديث حول انهيارها وتركتها ملء المسامع والآذان , وخلال المقدمات لثورة الشريف حسين في الحجاز , وما قام بالتحضير له من الاتفاق مع الدولة البريطانية.
دفعت العوامل السابقة مجتمعة الجمعيات القومية العربية إلى طلب الإستقلال التام ووضع يدها في يد الشريف حسين , وبعد أن دخل جيش الشمال العربي دمشق عام 1918 برفقة جيش الحلفاء , تحولت جمعية العربية الفتاة فعليا لحزب حاكم , بالرغم من أن لجنتها الإدارية فضلت الإستمرار السري بالعمل وإنشاء واجهة حزبية تحت اسم حزب الإستقلال العربي.
لكن ذلك الحزب لم يحكم كحزب قائد للدولة والمجتمع كما فعل حزب البعث بعد العام 1964 مقصيا بذلك كل الأحزاب والقوى السياسية الأخرى , وعلى النقيض من ذلك فقد أطلق حياة سياسية نشطة وفعالة في البلاد , ولم يكن لديه أي مانع في رؤية رجل كمحمد فوزي باشا العظم عرف بمعارضته الشديدة لثورة الشريف حسين والدعاية ضدها رئيسا منتخبا لأول مؤتمر سوري عام اعتبر كجمعية وطنية تأسيسية مثلت السوريين تمثيلا حقيقيا ديمقراطيا.
في أيلول/ سبتمبر من العام 1919 ومع اتفاق بريطانيا وفرنسا على سحب الجيش البريطاني من سورية وإحلال الجيش الفرنسي مكانه في إشارة واضحة للعزم على تطبيق اتفاق سايكس بيكو , جاء لدمشق رشيد رضا الشيخ المعمم الطرابلسي تلميذ المصلح الإسلامي الكبير محمد عبده وأحد أقطاب حزب الإتحاد السوري ومقره مصر لينخرط في العمل السياسي بدمشق باسم حزبه وبتنسيق وتفاهم مع جمعية العربية الفتاة القومية , وسرعان ما دخل المؤتمر السوري ثم انتخب رئيسا للمؤتمرالسوري وشارك بفعالية في صياغة الدستور السوري . وقد لعب دورا رئيسيا في ايجاد توافق وطني بين التيار القومي العربي العلماني والتيار الإسلامي العربي , وفي حل الخلافات التي ظهرت أثناء مناقشة الدستور بطريقة توافقية بحيث يكون كل طرف مستعدا لشيء من التنازل للطرف الآخر بهدف الوصول لصيغة توافقية مشتركة.
ومن تلك المسائل التي شهدت تجاذبا مسألة طرحها النائب ابراهيم الخطيب النائب عن جبل لبنان بخصوص تضمين الدستور حق المرأة السورية بالتصويت , وفي ذلك النقاش برز بعض رجال الدين مؤيدين لذلك الحق من وجهة نظر إسلامية , بينما اعترض نواب آخرون باعتبار المجتمع السوري ليس مؤهلا لتقبل ذلك وأن وضع مثل تلك العبارة في الدستور يمكن أن يحدث فتنة نحن بغنى عنها في الوقت الراهن , وحسم رشيد رضا النقاش بترك تلك المسألة دون إنكارها , ربما على أمل العودة إليها في المستقبل بظروف مناسبة.
أما أكثر مايستدعي التوقف عنده فهو قبول التيار الإسلامي لعدم ذكر أن دين الدولة الإسلام رغم المطالبة بذلك أول الأمر , وجرى إرضاء التيار الاسلامي بعبارة تنص على أن دين الملك هو الإسلام , وواضح أن تلك العبارة لاتغير في شيء من علمانية الدولة.
في المقابل لم يرض الإسلاميون بالنص على العلمانية صراحة مما قد يفسر على أن الدولة دولة إلحاد من قبل جمهرة واسعة من الشعب فتراجع العلمانيون واكتفوا بوصف الدولة باعتبارها دولة مدنية بمعنى أنها ليست دولة دينية.
إذن فقد استطاع العهد الفيصلي تقديم نموذج حي لاحتواء المؤتمر السوري العام لتيار إسلامي معتدل وإصلاحي بل وانتخاب أبرز ممثليه رئيسا للمؤتمر , كما استطاع إنجاز دستور سوري مدني علماني ديمقراطي متقدم بتوافق وطني ضم أجنحة سياسية واجتماعية متعددة أبرزها التياران القومي العلماني والإسلامي الاصلاحي.
وعلى أية حال تكفي التجربة التاريخية للعهد الفيصلي لتوضح بما لايدع مجالا للشك أن توافقا بين ليبرالية إسلامية متنورة وعلمانية وطنية مرنة ليس أمرا مستحيلا بل هو ممكن ومطلوب أيضا.