وفيق نعيمي
ككل النساء أنا، حياتي تشبه خزانة قلبي المهترئة، ولدت وترعرعت في بيئة شعبية ديدنها القبول والرضا بالقليل، كما الإسفنجة عشت حياتي أمتص أحزاني، أترك بابي موارباً لشريكي كي لا يهرب قلبي مني، أشعر وكأن مخلوقات فضائية تختطفني كلما أدركت عجزي عن التصالح مع من وما حولي ، كأني أعدو خلف سراب أو أطارد شبحا ، فأغدو كمن انسربت سنيّ عمره من بين يديه وهو يبحث عن ذاته للملمتها، حولتني الهموم إلى امرأة مسكونة بأوجاعها وأحزانها.
شاءت الأقدار أن أخرج وابنتي مثل الكثير من الأمهات من مخيم اليرموك المحاصر، في أحد الصباحات الرمضانية الباكرة، لتأمين بعض الحاجيات الضرورية لأسرتي، عدت بعد ساعتين أو أكثر لأجد الحي قد أغلق تماما أمام حركتيّ الدخول والخروج، شعرت بأني أسقط مثل حصان من حافة جبل إلى الهاوية، وبأن قلبي قد توقف عن الخفقان،أمسكت بذراع ابنتي وشددت عليها بقوة خوفا من أن تضيع مني.
علّ وقوفنا أمام مدخل المخيم يدخل الشفقة إلى قلوب رجال الأمن فتدفعهم للسماح لنا بالدخول، انتظرت وابنتي كما الجميع لساعات طويلة ولكن دون جدوى.
رويدا رويدا ومع غروب الشمس بدأ الأمل يتلاشى ، وبدأت جموع الناس وأكثرهم من النساء بالرحيل علهم يتدبرون مبيت ليلتهم.
هائمة على وجهي لا أدري إلى أين، سرت وابنتي البالغة من العمر خمسة عشر عاما ككلبين شريدين، نندب حظنا العاثر مبتعدتين عن حينا، كتوأمين ملتصقين مشينا دون مقصد، لم أدرِ لكم من الوقت تسكعنا في شوارع وأزقة مدينة دمشق الخالية تماما إلا من العتمة والوحشة والسكون، كانت المدينة وكأن الله قد هجرها، بدأ الوهن يتسرب إلى جسدي النحيل وشعرت بأني في طريقي إلى الانهيار، أحسست بثقل وكأنّ جسدي قد تحول إلى كتلة من رصاص ولم يعد بمقدوري حمله، وبدأ الخواء ينهشني.
تلك اللحظة تمنيت لو أني لم أصطحب ابنتي معي ، وتضرعت للقدير لو يعيدها إلى رحمي فتحظى بالحماية والرعاية الإلهية ولا يمسها سوء.
جلّ اهتمامي انصبّ حينها على الاحتفاظ برباطة جأشي قدر استطاعتي، وعلى ألّا تلتقي عيناي بعيني ابنتي، كي لا تلحظ إحدانا قطرات الدمع المنسفح من عيون الأخرى فننهار سوية ونجهش بالبكاء،ولكن سرعان ما تحطمت قلاعي وانجرفت حصوني أمام سيل دموعي الجارف، أمسكت بيد ابنتي وجلسنا إلى جانب الطريق، أخذنا بالبكاء والعويل طويلا ثم غادرنا المكان بعد أن جفت دموعنا على حين غرة كما يجف المطر بعد أن تهب الرياح قوية، كانت رياح البحث عن مخرج مما نحن فيه.
على غير هدى، عاودنا المسير ثانية، كنا ندور وندور حول ذاتنا كجرذين بغيضين عالقين في متاهة ليس لها بداية ولا نهاية.
إلى أين نذهب؟ وأين نُمضي ليلتنا؟ سؤالين ألحا عليّ كما السوسة تنخر في الخشب.
لمع في ذهني ما كان يردده والدي حين كنت صغيرة، عندما كان يواجه الأزمات، حيث كان يقول بأن الرجال لا يبكون، بل هم يتصرفون يصيبون أحيانا وأحيانا يخطئون، ولكنهم دائما ما يتصرفون، ثم ألفيتني أردد بصوت عالٍ كاد يمزق عتم الليل (ومن قال بأن الرجال من الذكور فقط؟).
قلت في سرّي ثمة أمور يجب على المرء أن ينفذها فورا دون أن يفكر بها أو أن لا يفعلها أبدا، لذا ضممت ابنتي إلى صدري وهمست في أذنها: سأتدبر الأمر لا تخافي، تلك اللحظة شعرت لا بل أيقنت بأني أملك قوة نساء العالم جميعا، وأن ليس هناك من قوة ستهزمني.
كمركب أتعبه طول الإبحار رمى بمرساته عند أول شط صادفه، عدت باتجاه حينا بعد أن ابتعدت عنه لا أدري لكم من المسافة، أسرعت الخطى وكأن الأرض تحترق تحت قدمي، أخرجت جوالي من حقيبتي، هاتفت إحدى صديقاتي، قلت لها بأني قادمة إليها وقد تقصدت ألا أخبرها بأية تفاصيل كي أفوت عليها فرصة الاعتذار عن ملاقاتي، لدرايتي بأنها وزوجها وأولادها يقيمون في منزل صديق لزوجها في أحد الأحياء الشعبية القريبة من حينا وقد لا يتسع المكان لأي فرد آخر، تواعدنا في مكان محدد والتقينا بعد حوالي نصف ساعة، بعد أن تبادلنا القبلات اصطحبتني وابنتي إلى مكان إقامتها، كم كانت دهشتي عندما عاينت المكان ووجدت أنه عبارة عن منزل مكون من طبقتين مكدستين حتى الاختناق بالساكنين وبأكوام الأثاث المتواضع الرث، تتكون كل طبقة من غرفة ومطبخ وحمام، تقيم فيه عائلتين عائلة صديقتي المؤلفة من ستة أفراد وعائلة صاحب المنزل المؤلفة من خمسة أفراد ليصبح المجموع أحد عشر فردا يسكنون في منزل مكون من غرفتين.
منذ اللحظة الأولى لدخولي المنزل ، ألمحت بإلحاح بأني لن أغادر هذا المكان إلا إلى بيتي الذي كنت آمل أني سأعود إليه قريبا، كم كنت سعيدة عندما قوبلت بالترحيب من قبل صاحب البيت وزوجته، لم أدرِ سبب هذا الترحيب ولم يخطر ببالي وقتها التفكير به ، كان اهتمامي منصبا على تأمين المأوى لي ولابنتي التي كنت خائفة عليها، ولكي أبعد الهواجس عن رأسي، تواطأت مع عقلي واكتفيت بالقول (بأن ثمة ذئاب في هذا العالم ولكن دائما هناك أناس طيبون).
اتفق الجميع في ذلك اليوم على أن تبيت النساء والبنات إضافة إلى الأطفال صغار السن ممن يحتاجون الرعاية في الطابق السفلي بينما يبيت الرجال والأولاد الأكبر سنا في الطابق العلوي.
تلك الليلة لم أغف وكأن خصومة مفاجئة وقعت بيني وبين النوم، فما أن أمنت المأوى لي ولابنتي حتى بدأ عقلي يهجس بزوجي وأولادي الذين خلفتهم ورائي.
في الأسبوع الأول سارت الأمور على ما يرام، لكنها سرعان ما ساءت بسبب بدء مشاحنات خفية بيني وبين صديقتي حرت في تحديد مردها، أيكون بسبب غيرتها مني على صديق زوجها فبدأت بمضايقتي للاستحواذ به منفردة؟ أم لإدراكها بأن المكان قد صار أكثر ضيقا على ساكنيه ما يشكل خطرا يهدد برحيل عائلتها عن المنزل؟أم للسببين معا؟
كثيرا ما كنت اشفع لصديقتي قسوتها وغضبها وسوء معاملتها وأقول في سري: أتمنى لو أنها تتفهم بأن لجوئي إليها واستنجادي بها ما كان إلا الخيار الوحيد الذي لم أمتلك سواه فماذا أفعل؟.
كأنثى طائر البجع تضحي بحياتها لأجل صغارها، تسامحت عن كل الإساءات التي تعرضت لها وعن محاولات تحرش صاحب المنزل بي، مقابل تأمين قسط ولو ضئيل من الأمان والاستقرار لابنتي.
متشابهة وبطيئة كبطء سلحفاة عرجاء مضت أيامي ، رحلت صديقتي وعائلتها إلى منزلهم الجديد، بعد أن طلب منهم صاحب المنزل المغادرة لضيق المكان، رفضوا اصطحابي معهم، حرت في أمري هل أبقى؟ هل أغادر؟ إن بقيت فبأية حجة ؟ وإن غادرت فإلى أين؟.
مثل قبطان تمزقت أشرعته وتحطمت سفنه، تحولت إلى امرأة كبت جميع أحصنتها، وغدا قلبها وصبرها كعرجون بلح بدأت بلحاته تتساقط تترى، فصارت إلى كومة حطب يابس لا يصلح إلا للاحتراق، آثرت البقاء…..نعم آثرت البقاء ..