عبادة وحدة سورية
يظهر أنصار وحدة سوريا حين يرفضون أي نزعة للفيدرالية أو اللامركزية في السويداء، التي تشهد تظاهرات منذ أكثر من شهر، كمن يخوض معركة مريحة ليهرب من معارك صعبة. فالمحافظة ذات الغالبية الدرزية، ما تزال تشهد نقاشات، ويتداول أبناؤها أفكاراً حول مصيرهم، على وقع الانهيار العام في البلاد، أي أن «الإدارة الذاتية» مجرد فكرة من بين أفكار كثيرة، لا أكثر. وتصويب «الوحدويين» عليها يكشف عن هرولتهم نحو خصم وهمي، بدل العمل ضد خصوم فعليين. إذ إن البلاد حالياً مقسّمة بين السلطات في دمشق، وقوات «سوريا الديمقراطية»، وجبهة «النصرة»، و»الجيش الوطني»، وبالتالي، على «الوحدويين» أن ينطلقوا من المقسّم، وليس من الذي يفكر بالتقسيم أو يضعه من جملة أفكار يتداول بها.
ولعل، ترك الخصوم الفعليين والتركيز على الخصوم الوهمين، يبين أن «الوحدويين» لا يملكون برنامجاً لعملهم، برنامجا يحاول الإجابة على أسئلة من نوع، كيف يمكن إعادة توحيد البلاد المقسمة حالياً؟ هل مصلحة السوريين بالوحدة بعد معاناتهم مع تجربة فاشلة في ظل الحكم المركزي؟ كيف ستوزع الثروات؟ وكيف سنضمن عدالة تمثيل الجماعات؟ وكيف سيحصل الأكراد على حقوقهم؟ أي ضمانات للديمقراطية وتداول السلطة؟
وقد يحاجج «الوحدويون»، بأن هذه المناطق مقسّمة بواسطة قوى الأمر الواقع وليس بإرادة سكانها، والأمور سرعان ما ستعود إلى ما كانت عليه، لحظة ضعف هذه القوى وتراجع الدعم الخارجي لها، متغافلين بذلك، عن تمثيل فعلي تحظى به هذه القوى داخل المجتمعات التي تحكمها، بمزيج من أيديولوجيا معلنة دينية أو يسارية أو بعثية، وأدوات هيمنة وقمع. هذه القوى تخاطب مظلوميات كردية وسنية وغيرهما، وبالتالي، سكان المناطق المقسّمة يعيشون فيها ليس حبا بمن يحكمها، بل كرهاً بمن يحكم سواها، بمعنى أوضح قوى الأمر الواقع تمثل، خوف الجماعة من الجماعة الأخرى. واستناداً إلى ذلك، فإن عمل «الوحدويين» يجب أن يتركز على إقناع الجماعات بإمكانية التعايش بينها، وليس الاسترخاء على فرضية، أن ثمة من يجبر الناس على التقسيم، وهم عشاق للوحدة يسبّحون بحمدها ليلا ونهارا. إقناع الأكراد مثلا بأن العرب لن يحكموكم بعنصرية وتمييز وقهر، وإقناع العرب بأن الأكراد لن يثأروا كلما أتيحت لهم الفرصة. عمل من هذا النوع، فيما لو انتبه «الوحدويون» لأهميته، يبدو شاقا ومليئاً بالصعوبات والأفخاخ، لاسيما وأن البلد مرّ بحرب أهلية طاحنة، قضت على أي إمكانية لبناء الثقة بين جماعاته. إلا أن الصعوبة ليست العائق الوحيد الذي يحوّل دون تبني أنصار الوحدة، لهذه الأولوية، بل ثمة إنكارهم وجود الجماعات أصلاً، وقناعتهم الأيديولوجية بواحدية الشعب. وبما أن متظاهري السويداء تمثلوا بمتظاهري 2011، لناحية الهتافات واللافتات والمطالب وأشكال الاحتجاج (خلال الستة أشهر الأولى لتظاهرات 2011)، فقد شكلوا نموذجاً مطابقاً لما يدور في أذهان «الوحدويين» من تنميط أحادي للشعب.
وبدل الانتباه لمخاوف الجماعة الدرزية وهاجسها في البحث عن أمان في ظل انهيار شامل، جرى التركيز على ما تتمثله الجماعة في التظاهر لتحظى بتأييد عموم السوريين، وباتت معادلا لـ»شعب» 2011 الذي انتفض «دون انقسامات أو كراهيات»، وفقاً لسردية شائعة في بيئات المعارضة. لهذا السبب، كانت السويداء معركة سهلة بالنسبة لـ»الوحدويين»، فالجماعة فيها لا تظهر خوفها من الجماعات الأخرى بقبول قوى أمر واقع، على غرار بقية مناطق سوريا، بل تتمثل «الشعب» كله مستعيدة لحظة 2011، وبالتالي، لا حاجة لنقاش هواجس الجماعات وعلاجها، طالما أن ما يحصل في الجنوب «ثورة لكل السوريين»، حسب الشعار التي رُفع في الأسبوع الأول للاحتجاجات. والأرجح أن إنكار هواجس الجماعات واستسهال التعامل مع تمثلاتها بدل قضاياها، يتلازم لدى أنصار الوحدة مع انعدام البرنامج لإعادة توحيد البلد، فطالما نحن شعب واحد، وليس جماعات، فلا حاجة لبرامج للتوحيد، بل الأولوية لنسف أي طروحات مضادة كتلك التي تطرح، أي الفيدرالية أو اللامركزية.
وخلف الانكار والانعدام، ثمة مفهوم أيديولوجي للوحدة يتبناه أنصارها، مفهوم، يهتم بالجغرافيا أكثر من السيسيولوجيا، أي أن تظل المدن والمناطق والقرى متواصلة مع بعضها ضمن وحدة ترابية، بصرف النظر عن إرادات سكانها، وإمكانية تعايشهم مع بعضهم. الأرجح، أن جذر هذا المفهوم، تأتى من التراكم الأيديولوجي الذي طغى على المنطقة بعد حقبة الاستقلالات، حيث شاعت لغة الوحدة للملمة ما قسّمه الاستعمار واستعادة القوة القديمة لمواجهته. لقد كان هدف الوحدة، مواجهة الخارج وليس تحقيق مصالح الداخل والتوافق والسلام بين مكوناته. الحمولة الأيديولوجية ذاتها يستخدمها أنصار الوحدة، لكن هذه المرة، على مستوى سوريا، فالأولوية للبلد وصيغته «الجامعة» وليس لسكانه.
هناك ارتباط بين موضعة سوريا في أدبيات البعث، ضمن «الوطن العربي» ووحدة البلد الداخلية، الثانية تستقي معناها من الأولى. فلا تعرّف وحدة سوريا بدلالة السوريين ورغباتهم، بقدر ما تعرّف بدلالة الحمولة الأيديولوجية التي ألصقها البعث بالبلد خلال عقود طويلة. علما أن للوحدة حاملا إسلاميا سابقا على القومية العربية التي نبت البعث في تربتها وعليه، لا توجد أي قيمة إيجابية للمفهوم ينعكس على السوريين وحياتهم، قيمته تتبدى بجوهره وليس بما يحققه حال تنفيذه. الوحدة جيدة لأنها وحدة فقط، الأولوية للجوهر، وللمفهوم الذي يحمل قيمته انطلاقا من الأيديولوجية. ما يجب أن يشغل بال «الوحدويين» حالياً، سورنة مفهوم الوحدة، وإقناع الناس أن مصالحهم وحقوقهم، كجماعات وأفراد، مضمونة في إطار المركز، وفصل المفهوم عن حمولاته القومية والإسلامية، عندها تصبح طروحات الوحدة أكثر قابلية للنقاش العام، عبر مقارنتها، ولو نظريا، مع الطروحات الأخرى من فيدرالية ولا مركزية.. وسواها.
باختصار، أنصار الوحدة مدعوين للكف عن عبادتها انطلاقا من كونها «خيراً مطلقاً»، وإنزالها من عرشها لخدمة الناس، ليصبح المعيار هل ستصبح حياة السوريين أفضل إذا توحدت سوريا؟ أم أن الأفضل الطرح الفيدرالي؟ بمعنى أوضح، النظر لوحدة سوريا باعتبارها نظاما للحكم لا يحمل أي قيمة في جوهره، قيمته تتأتى بالقدر الذي ينعكس فيه إيجاباً على أوضاع الناس وحياتهم، وضمان السلام بينهم. علما أن، رفض «الوحدويين»، الفيدرالية وشيطنتها، طوال الوقت، يظهر أنهم غير معنيين بهذه الدعوة، إذ إن الفيدرالية تبدو، خصماً مناسباً لهم، يواصلون عبرها عبادة «آلهتهم»، مجنبين أنفسهم امتحان تقديم برنامج للسوريين يقنعهم بأن الوحدة لصالحهم. وليست تظاهرات السويداء، سوى مناسبة إضافية لاستئناف، طقوس العبادة.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي