د_ عبدالله تركماني
ثمة قضايا ومشكلات وتعقيدات كثيرة اعترضت ثورة السوريين، وأعاقت طلبهم الحرية والكرامة والتغيير السياسي، وساهمت في كل الخراب والتشقق في أحوالهم، والغدر بطموحاتهم. فقد أصبحت المقتلة السورية حرباً بالوكالة، إذ كانت الدول الإقليمية والدولية تتجنب خطر الصدام المباشر فيما بينها، وبالتالي كانت تدفع ميليشيات متنوعة متجنبة الدخول مباشرة في هذه المقتلة.
ومهما كان أمر توصيف الثورة السورية، فإنّ بدايتها كانت سلمية، تنطوي على جهد إنساني جبار، وتحمل مطالب الحرية والكرامة للشعب السوري، إلا إنّ الخيار الأمني للنظام منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي السلمي دفع هذا الحراك نحو اتجاهات لم تكن في حسابه. إذ إنّ النظام رفد الكتائب الإسلامية المسلحة بالعديد من الجهاديين الذين كانوا في سجونه، كي يشغلوا قيادة بعض هذه الكتائب، ويطبقوا وصفات غسيل الدماغ التي أجرتها أجهزته الأمنية المختصة.
وفي هذا السياق يبدو وجود مشروعين معلنين ومتناقضين للثورة على النظام: أولهما، مشروع الثورة المدنية السلمية الذي سعى النظام، بكل قوته، إلى تدمير أسسه، وتشريد حاضنته الشعبية وحوامله من النخب المدنية ونخب الطبقة الوسطى، تنفيذاً لخطته في تصوير الثورة على أنها حركة تمرد طائفية، لعزلها ونزع الشرعية عنها. وثانيهما، مشروع الحركة الجهادية الذي تعزَّز، مع مرور الوقت، وتوافد المجاهدين الأجانب وتوسُّع انتشار الثورة داخل الأرياف والمدن الصغيرة، وتلقِّيها المزيد من المعونات والدعم من المحيط العربي والإسلامي.
ومن جهة أخرى، أدى ارتهان المعارضة السورية الرسمية للقوى الإقليمية والدولية إلى القبول بمناقشة الدستور السوري الدائم، بمعزل عن إنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، لإنجاز عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الديمقراطية. وأيضاً يأتي ضمن المخاطر ضعف قدرة السوريين – حسب تعبير الدكتور برهان غليون – على توليد آلية مناسبة لإنتاج طبقة سياسية، أو مرجعية سياسية، تتولى إدارة أية عملية سياسية انتقالية في البلد. كما عجزت المؤسسات الرسمية للمعارضة عن بناء قنوات تفاعل مع الحراك الشعبي، ومده بأسباب الدعم والاستمرار. ليس ذلك فحسب، وإنما افتقد خطابها إلى القدرة على تحديد مشكلات الواقع وصياغة الحلول المجدية لها، ومتابعة آلياتها التنفيذية. كما اتضح منذ بداية الثورة عدم وجود برنامج متكامل لفعاليات الثورة، وأنّ أغلبها كانت تسيّره دينامية الزخم الشعبي، ولم يكن يصدر عن برنامج موحد يستفيد من هذه الفعاليات ويوظفها لصالح الثورة، أي التأخر في الاستجابة، ونقص المبادرة، والركون للسهل والمعروف، مما دفع الدكتور برهان غليون للحديث عن ” عطب الذات “. ومن بين العوامل الذاتية، ضربٌ من اللاعقلانية، أصاب ممثلي المعارضة الرسمية، أو لعلَّه غلب على جزء غير يسير منهم، تجلَّى في الرغبوية والإرادوية والنزعات التبريرية.
وهكذا، نفرَ السوريون من مؤسسات معارضة تعلن أنها تسعى إلى تحقيق طموحات الشعب السوري في الحرية والكرامة، وبناء دولة المواطنين الأحرار المتساويين في الحقوق والواجبات، بينما هي تصرُّ على توزيع المناصب والامتيازات على أساس المحاصصات القومية والطائفية، وليس على أساس القدرات والكفاءات، وأيضاً تبعاً لتعليمات مشغليها من القوى الإقليمية والدولية.
على أية حال ترتبت على وحشية النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وسلبية المجتمع الدولي، والتدخلات الخارجية المضرة، وعطب المعارضة الرسمية إلى: انحسار الثورة السورية، وخروج الوضع من تحت سيطرتها، وتحوُّل سورية إلى ساحة مفتوحة، للصراعات الدولية والإقليمية والعربية على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين. بحيث لم يعد الصراع داخل سورية، وإنما على سورية، بين القوى الإقليمية والدولية لتقاسم النفوذ والمصالح، كما أصبحت الحرب السورية حرباً بالوكالة تقوم بها ميليشيات تابعة للدول المتصارعة على تقاسم المصالح في سورية.
ويبدو أنّ النظام الدولي قد تخلّى عن شعاراته الكبيرة التي رفعها غداة الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد نهاية الحرب الباردة، والحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا، فإنّ الكل يبحث عن مصلحته السياسية في هذه الكارثة وغير مستعد لإيقافها إلا بعد أن يضمن نصيبه من الكعكة.
ولم يؤدِ إعلان كل الأطراف، المنخرطة في المقتلة السورية، أنه لا يوجد حل عسكري للصراع، على مدى أكثر من اثني عشر عاماً، إلى الحل السياسي الذي تعترضه عدة معوّقات، إذ مازالت المقتلة قائمة في إدلب ومحيطها، كما أنّ تشكيل اللجنة الدستورية تكتنفه الكثير من الخلافات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين. كما يبدو واضحاً أنّ المجتمع الدولي مازال يتعامل مع المقتلة السورية بعقلية ” إدارة الأزمة “، وليس البحث عن حلول سياسية لها. بل تحولت المسألة إلى تقاسم النفوذ بين الأطراف الإقليمية والدولية، مما يشير إلى عدم توفّر الظروف الملائمة لوضع عربة السياسة على سكة الحل.
ولعلَّ الانعطافة التركية نحو الغرب، والحراك الشعبي السلمي في السويداء وإرهاصاته في المحافظات السورية الأخرى وخاصة في الساحل، ومؤشرات تحرك دولي وإقليمي للتعاطي مع المسألة السورية، تشكل فرصة لإمكانية إطلاق ديناميكية جديدة، بما يفرض على السوريين محاولة استرداد دورهم المفقود، وبالتالي القيام بدور فاعل لتحديد مصيرهم.