حسن النيفي
ما تزال القضية الفلسطينية تحتفظ بالدور الأكبر في صياغة الوعي السياسي العربي وتوجيهه منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر، سواء على مستوى السياسات الرسمية أو على المستوى الشعبي العام، بل يمكن التأكيد على أن تداعيات نكبة فلسطين سواء في عام 1948 أو 1967 كان لها أثر مباشر على نشأة وتكوين الإيديولوجيا القومية بشتى أشكالها وتجلياتها، إذ إن احتلال فلسطين من جانب الصهاينة ومهمّة التصدّي للمشروع الصهيوني وتحرير دولة فلسطين شكّلت – وما تزال – أبرز ركائز الخطاب السياسي لمجمل التنظيمات والقوى القومية، وربما يرى البعض أن حضور قضية فلسطين تجاوز التخوم القومية، وبدا له أثر واضح حتى في نشأة وبلورة الرؤى الفكرية لدى بعض التيارات الإسلامية التي تشكّلت في بدايات القرن الماضي وعلى أعقاب فشل تيار الإصلاح الديني أو ما سُمّي بتيار النهضة في أواخر القرن التاسع عشر.
لم تؤثر عمليات الصلح المنفردة التي أبرمتها بعض الدول العربية مع إسرائيل على حضور القضية الفلسطينية في الوعي والوجدان العربي، بل يمكن التأكيد على أن أشدّ حالات العداء الشعبي لإسرائيل ربما كانت لدى شعوب الدول التي بادرت بالتطبيع، الأمر الذي يؤكد أن مناهضة الكيان الصهيوني لم تعد، كما لم تكن من قبل، قراراً سياسياً يقرّه أو يزيله حاكمٌ ما، أو جماعة أو فرد، بل هي ثقافة متجذّرة في الوجدان الشعبي للعرب والمسلمين، وهذه الثقافة تأسست على قضية عادلة، وقد تعززت عدالتها – مع مرور الزمن – بتضحيات هائلة وكفاح مشروع، لم تواجهه إسرائيل إلا بالمزيد من التوحّش والإجرام، وبالتالي إن أُريد لهذه الثقافة أن تتغيّر، فذلك لن يكون إلّا برجوع الحقوق إلى أصحابها أولاً، وهذا ما لم تبدُ علائمه حتى الوقت الراهن، بل مما هو شديد العيان، استمرار إسرائيل في سياستها الاستيطانية، واستمرارها في اغتصاب الحقوق، وقمع أصحابها وقتلهم واعتقالهم، فهل سيتحوّل الكيان الغاصب المحتل إلى فاعل خير ليتامى القمع والإرهاب؟
تجاوزُ القضية الفلسطينية لوقائعها المادية وتحوُّلها إلى قيمة رمزية في الوجدان العربي والإسلامي جعلها عُرضةً للاستثمار وشعاراً مُغرياً وجاذباً للسياسات الشمولية، وفي طليعتها السياسات الإيرانية التي تفوقت على الأنظمة العربية في قدرتها على الاستثمار في الإرث الرمزي والنضالي للمقاومة الوطنية الفلسطينية، وعلى الرغم من انقسام المواقف العربية الرسمية والشعبية حيال سياسات إيران ومصداقيتها حيال قضية فلسطين طيلة ثلاثة عقود مضت، فإن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، جسدت منعطفاً حاسماً في كشف زيف المسعى الإيراني ليس حيال فلسطين فحسب، بل حيال المنطقة العربية برمتها.
لعل الكشوفات المعرفية للثورة السورية، قدّمت فهماً جديداً لتعاطي جيل الثورات مع قضاياهم المصيرية ومن ضمنها القضية الفلسطينية، ولعل أبرز علائم هذا الفهم الجديد هو تحطيم الوهم المتراكم الذي كان يقيم التخوم بين عدو خارجي وعدو داخلي، ذلك أن هذه الثنائية، قد فقدت معظم أسسها، بل أثبتت أنها مجرّد وهم حاول الطغاة تأبيده، ومن ثم اتخاذه ذريعة لممارسة طغيانهم وفجورهم بحق شعوبهم، فاضطهاد إسرائيل لشعب فلسطين واضطهاد نظام الأسد للسوريين يتناسلان من رحم الظلم ذاته، وحرية الشعوب جماعات وأفراداً هي كلٌّ واحد لا يتجزأ، أضف إلى ذلك، أن أي مسعى لتحرير فلسطين أو أي بقعة أرض محتلة، يقتضي أولاً استعادة الشعوب إرادتها المكبّلة، واسترجاعها لحريتها وكرامتها، لتتمكّن من استعادة المبادرة، وإعادة السلطة من أيدي جلّاديها إلى الشعوب. وبناءً على هذا الفهم يدرك السوريون قبل سواهم أن إيران التي توغلّت ميليشياتها الطائفية في معظم الجغرافيا السورية، وقد بادرت قبل غيرها إلى قتل السوريين منذ العام 2012 بالسواطير وارتكاب أفظع المجازر بحق المدنيين نصرةً لحاكم جلّاد، لا يمكن أن يحظى خطابها بأدنى درجات المصداقية، إلّا إذا استطاعت أن تقنع العالم أن تحرير القدس مقرون بقتل السوريين والتنكيل بهم، علماً أن خطر السياسات الإيرانية لم يعد قائماً على ثورة السوريين فحسب بل بات مصدر خوف وعدم استقرار لمعظم دول المنطقة.
العامل الأهم والرابط المشترك الذي جسّدته قضية فلسطين، والأكثر تجذّراً في وجدان العرب، بين بعضهم البعض، وبين العرب والمسلمين، يتعرّض لحالة من التشويه بل ربما حالة من التصدّع نتيجة لاستثمار إيران في القضية الفلسطينية وقدرتها طيلة سنوات خلت، على تجييش وشراء ولاءات بعض الفصائل الفلسطينية التي وجدت ضالتها في طهران، سواء بدوافع إيديولوجية أو مالية، فمنذ أن انطلقت عملية (طوفان الأقصى) في السابع من الشهر الجاري يُثار الحديث مُجدّداً بل يتنامى لغطٌ كبير يمكن أن يتحول إلى مستنقع آسن ليصطاد فيه أعداء الحرية والمشككون بنضال الشعوب وتضحياتها تحت ذريعة أن من بادر بالعملية العسكرية هي حركة حماس المعروفة بعلاقاتها لإيران، ما يعني أن قرار عملية طوفان الأقصى كان إيرانياً، وبهذا ينحرف الحديث نحو الدور الإيراني الآثم بحق الثورة السورية من أجل تنحية الاهتمام بجرائم الاحتلال الصهيوني بحق أهل فلسطين، في مسعى واضح يهدف إلى تشويه الوعي والتهليل لمنطق التضليل والتجييش القائم على الإثارة دون استبصار لسيرورة ما يجري بحق الشعب الفلسطيني على أيدي الصهاينة.
ما ينبغي أن يدركه أصحاب منطق الإرجاف والتشكيك والإثارة أن قضية فلسطين هي أكثر أصالةً وتجذّراً في الوجدان العربي والإسلامي من أي مسار، إذ لقد شهد مسار القضية الفلسطينية على مدى أكثر من سبعة عقود توافد المزيد من القوى والشخصيات والفصائل والتيارات الإيديولوجية بمختلف أشكالها على قيادة منظمة التحرير وسواها من التجمعات الأخرى، وربما اختلف العرب والمسلمون كثيراً حول تلك القوى والشخصيات ولكنهم لم يختلفوا أبداً حول حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه والنضال من أجل تحرير أرضه واستعادة كرامته، ثم إن الموقف من فصيل أو حركة أو من طرف إقليمي معادٍ للثورة السورية، كإيران مثلاً، ينبغي ألّا يؤدي إلى فقدان البوصلة واتخاذ موقف لا ينسجم مع المبادئ الأساسية للثورات، ثم إن التسليم بمنطق النأي عن قضية فلسطين بحجة تحكّم إيران بقرار حماس ألا يعني التسليم لإيران بهذا التسلّط والركون إلى مصادرتها لحق الشعوب العربية في الاهتمام بمصير فلسطين؟
لقد جسّدت قضية فلسطين على مدى خمسة وسبعين عاماً، إرثاً نضالياً ليس لقضايا التحرر العربية فحسب، بل لمجمل حركات التحرر في العالم، كما أن الثورة السورية، بثرائها المعرفي والثقافي، قد عزّزت لدى الجميع مفهوم وحدة الحق الإنساني ووحدة المبادئ، وبالتالي وحدة النضال الإنساني المشروع في سبيل التحرر من العبودية واسترجاع الحقوق، ولعل الدفاع عن القضية الفلسطينية من بوابة الدفاع عن الكرامة والعدالة والمبادئ الإنسانية، ورفض الطغيان والإذلال، لهو السبيل الأكثر تماهياً مع نبل القضية الفلسطينية وعدالتها، فضلاً عن أن صلابة الموقف الشعبي العربي والإسلامي حيال قضية فلسطين ينبغي أن يكون صلباً أيضاً أمام المسعى الإيراني الرامي إلى اختراق الموقف العربي والتسلّط على الإرادة الفلسطينية، فكما كانت وما تزال قضية فلسطين عاملاً جامعاً لمشاعر العرب والمسلمين، فينبغي ألّا تتحوّل بفعل المسعى الإيراني إلى عامل انقسام وتشتت، وهذا لن يتحقق بإدارة الظهر والركون لمنطق التشكيك والاستخفاف بتضحيات الشعب الفلسطيني، بل بمزيد من الوعي الفاضح لقذارة المنهج الإجرامي بوجهيه الإسرائيلي والإيراني معاً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا