ابراهيم حيدر
تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” بتدمير ممنهج للقطاع تحت عنوان إنهاء “حماس”، لكنها لم تتمكن حتى الآن من اقتلاع البنية العسكرية التحتية للحركة التي حققت إنجازاً كبيراً في العملية يمكن وضعه في خانة الانتصار، بصرف النظر عما ستؤول إليه الأوضاع في الداخل الفلسطيني وما ستكون عليه إسرائيل في المرحلة المقبلة، إن كان في تركيبتها السياسية أو إذا ما خاضت حرباً برية دموية في قطاع غزة وشملت لبنان الذي يقع في قلب العاصفة، انطلاقاً من دور “حزب الله” المتأهب تحت عنوان “وحدة الجبهات”، لكن حساباته مرتبطة بالإقليم وكلمة السر الإيرانية.
لم تباشر إسرائيل بالهجوم البري الذي يقال إن القصف التدميري يأتي تحضيراً له. ومع استمرار المعارك يشتد الصراع بعد الموقف الأميركي المعلن بالوقوف إلى جانب إسرائيل، لا بل توفير التغطية لها في الحرب على غزة وإرسال أسلحة، وصولاً إلى توجيه حاملة طائراتها إلى البحر المتوسط. الواضح أن الأميركيين والغرب عموماً يدعمون إسرائيل، ليس فقط لمحاربة حركة “حماس”، بل للتغطية ومنح إسرائيل الفرصة لاستعادة توازنها، وهم بذلك يقفون ضد الشعب الفلسطيني كله وضد الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية عبر الدولتين وتطبيق بنود مبادرة السلام العربية التي أعلنت من بيروت عام 2002.
لكن الانجراف الأميركي لدعم إسرائيل له استهدافات متعددة، فإرسال حاملة الطائرات يعني محاولة إبعاد إيران من هذا الصراع، ورسالة أيضاً لمنع “حزب الله” من فتح جبهة لبنان ضد إسرائيل، لكن أيضاً تسعى الإدارة الأميركية إلى تحشيد دول أخرى تحت عنوان حماية وجود إسرائيل، إلى حد تشبيه الرئيس جو بايدن “حماس” بتنظيم “داعش”، الأمر الذي يعني إطلاق يد إسرائيل بتغطية أميركية وتدخل مباشر لتدمير غزة وصولاً إلى القضاء على الحركة. ويبدو أن الرئيس الأميركي اتخذ أيضاً قرار دعم إسرائيل بكل الإمكانات المتاحة في لحظة حاسمة من أجواء التحضيرات لخوض الانتخابات الرئاسية، وبالتالي استقطاب مزاج الرأي العام في الولايات المتحدة عبر توثيق علاقته بحكومة بنيامين نتنياهو التي باتت حكومة طوارئ إسرائيلية.
غطى “طوفان الأقصى” على كل ما يحدث في المنطقة، إذ إنه للمرة الأولى يتمكن الفلسطينيون من التوغل في الأرض التاريخية أي داخل الكيان الإسرائيلي، لكنه قابل للاستثمار من أكثر من طرف، بغض النظر عما سيذهب إليه الداخل الفلسطيني، خصوصاً وضع السلطة الفلسطينية وما ستتركه الحرب على وضعها، وهي التي عانت كثيراً من الحصار الإسرائيلي ورفض حكومته اليمينية المتطرفة كل مبادرات السلام، لا سيما حل الدولتين، لا بل إنها أغرقت الضفة الغربية بالمستوطنات وسياسات الفصل العنصري، وهو ما وضع الفلسطينيين أمام خيارات مكنت “حماس” من تولي زمام الأمور وخوض معركة ستمنحها وزناً وموقعاً أساسياً في التفاوض للمرحلة المقبلة، خصوصاً أنها مدعومة من إيران مع “حركة الجهاد الإسلامي”.
وبينما تهدف إسرائيل بتغطية أميركية إلى إنهاء “حماس” عبر حربها المفتوحة على غزة، لتجاوز الصدمة التي أحدثها “طوفان الأقصى”، إلا أن هذا الهدف من المستحيل تحقيقه، وهذا ما أثبتته أيام المعركة المستمرة، على الرغم من حصار القطاع وضرب كل أشكال الحياة فيه، فلا هي دفعت الناس المحاصرين للنزوح ولا تمكنت رغم التدمير الهائل من ضرب القدرة الصاروخية ولا تفكيك البنية العسكرية للحركة، وهذا يعني أن إطلاق اليد العسكرية الإسرائيلية هو بمثابة فرصة، فإذا تمكنت عبر هجوم بري من تحقيق أهدافها، خصوصاً تهجير الفلسطينيين، وهو أمر مستبعد، إذ إن ذلك قد يدفع المنطقة كلها إلى حرب عبر فتح الجبهات كلها في مواجهة إسرائيل، يمكن حينئذ توظيفه أميركياً تحت عنوان هزيمة “حماس” المدعومة إيرانياً. وإذا سارت الأمور على غير هذا النحو، فإنها ستضطر إلى فتح المجال أمام التفاوض، الأمر الذي سيمكن إيران من أن تكون حاضرة فيه كما “حماس” و”حزب الله”. وقد جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لبيروت، لإعادة تنظيم وضع المحور في حال حدوث مواجهة، وليطلق رسائل بأن الدخول إلى غزة يفتح احتمالات الحرب في الجبهات الأخرى، ما يعني أن لا قرار إيرانياً بفتح الجبهات الأخرى، وترك الأمور لما يمكن أن تحققه الحركة الدبلوماسية الدولية نحو المفاوضات.
حتى الآن لم تشتعل الجبهات الأخرى خارج غزة، وإن كانت حدثت مواجهات على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، لكنها لا تزال ضمن قواعد الاشتباك. وإذا كان من الواضح أن التدخل الأميركي المباشر في الحرب عبر دعم إسرائيل وتغطية كل دعايتها لتبرير استهداف الحياة الإنسانية في غزة، فإن الولايات المتحدة لا تريد أن تخرج إيران بمكاسب من الحرب الدائرة، خصوصاً أن إرسال حاملة الطائرات الأميركية، ثم الإعلان البريطاني عن تعزيزات عسكرية إلى المتوسط، هو محاولة لردع إيران و”حزب الله” تحديداً، وهو اعتراف بقدرات هذا المحور، لكن تطورات الحرب التي لا يمكن أن تكون طويلة على هذا النهج من التدمير الإسرائيلي للقطاع، ستحدد خريطة توازنات جديدة، قد تخرج منها “حماس” الطرف الأقوى فلسطينياً رغم الضربات الموجهة لها، وهذا يعني مكسباً إيرانياً في التفاوض المقبل، وأيضاً تثبيت موقع “حزب الله” كطرف مقرر إقليمياً وفي لبنان نظراً لقدراته العسكرية التي يأخذها الجميع بالاعتبار.
سيكون للتطورات في غزة العامل المقرر في إشعال المنطقة كلها، فإذا تمكنت إسرائيل من الدخول إلى القطاع بعد التدمير، فستتوسع دائرة الحرب إلى جبهة لبنان، وقد تنخرط قوى محور الممانعة في المواجهة في أكثر من مكان وصولاً إلى الحرب الإقليمية. أما بالنسبة إلى لبنان، فسيكون للمعركة الكبرى حساباتها انتظاراً لما ستحسمه المرجعية الإقليمية لـ”حزب الله”، خصوصاً بعدما تمكنت طهران من وضع “حماس” والفصائل الأخرى في غزة تحت جناحيها وباتت اللاعب المقرر في الساحة الفلسطينية، وإن كان الأميركيون حتى الآن يتجنبون اتهام طهران بالمشاركة مباشرة في عملية “طوفان الأقصى”، فيما تولى الحزب تنسيق “وحدة الجبهات”، وهذا ما يمنحه موقعاً أساسياً أدى إلى حصول اتصالات إقليمية ودولية معه للتهدئة، وهو أمر سيستثمره في المعادلات الداخلية اللبنانية وأيضاً في ما يتعلق بالإقليم وصولاً إلى ما تهدف إليه إيران من محاولات لمنع التطبيع قبل أن تتقدم في ملفاتها مع الأميركيين، خصوصاً في النووي.
وينتظر “حزب الله” ما ستؤول إليه معركة الفلسطينيين في غزة، للانخراط في المواجهة وترجمة عنوان “وحدة الجبهات” فعلياً على الأرض. لكن دخوله سيعني أن ثمة قراراً إقليمياً بالحرب، وهو لم يُتخذ بعد لأسباب لها علاقة بالتطورات في المنطقة، وتهيئة المقومات اللوجستية لما يمكن أن يحدث على مختلف الجبهات. ويعني ذلك أنه رغم التوترات والقذائف المتفرقة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، لم تصل الأمور إلى خوض حرب قد تكون نتائجها مدمرة على لبنان خصوصاً، وهي حرب تختلف عن غزة والداخل الفلسطيني، كونها من بلدان الطوق وترتبط بحسابات في المنطقة، لكن يُحتمل في أي وقت أن يتم إدخال لبنان في الحرب عبر “حزب الله” ليس انطلاقاً من حسابات خاطئة، بل تبعاً لمسار التطورات ونتيجة قرار ضمن معادلة وحدة الجبهات بأهداف إقليمية، لا سيما إذا قررت دخلت إسرائيل على غزة. ويمكن أيضاً أن يستدرج الإسرائيليون الحزب إلى المعركة، والاستفادة من الدعم الدولي، لتوجيه ضربات له لكنهم لا يضمنون حجم المعركة ومستويات الرد، خصوصاً أن “حزب الله” متأهب وهو في الأساس صاحب السيناريو الذي نفذته “حماس” ولوّح أكثر من مرة بأنه قادر على الدخول إلى المستوطنات الإسرائيلية في منطقة الجليل.
لا شك في أن المعركة الدائرة ستفرض واقعاً جديداً في المنطقة وستحدد مصير القضية الفلسطينية التي تحاول إسرائيل دفنها مستغلة التأييد الغربي لعمليتها في غزة، لكن نتائجها أيضاً ستغيّر إسرائيل نفسها إضافة إلى موقع “حماس” و”حزب الله” في المعادلات الجديدة.
المصدر: النهار العربي