د.عبد الله التركماني
منذ تسعينيات القرن الماضي يشهد العالم مناقشات خصبة وجادة حول الطريقة الأمثل للتعامل مع ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشّر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي . وكان من نتيجة تلك التطورات أن انتشرت مصطلحات جديدة: ” مجتمع المعرفة ” و ” مجتمع المعلومات ” و ” مجتمع الاستهلاك ” و ” ما بعد الحداثـة ” و ” ما بعد المجتمع الصناعي “.
إنّ ثورة المعلومات، التي أصبحت هي الميزة الرئيسية للقرن الحادي والعشرين، تأثرت أو تداخلت مع ثورة أخرى وهي ثورة وسائل الاتصال الحديثة، وكل هذا أدى إلى انفجار معلوماتي كبير جداً بحيث أصبح من العسير على الإنسان استيعاب كل المعلومات المتوفرة ودراستها واستغلالها كما ينبغي. وهذه الصعوبة تحتم على الأفراد والمجتمعات تطوير تقنيات وأساليب تجميع وتخزين ومعالجة المعلومات بطريقة رشيدة وذكية وعقلانية.
ولأنّ مجتمع المعرفة مرتبط أشد الارتبـــــاط بـ ” اقتصاديات المعرفة ” كمصدر هام لثروات الأمم اليوم، فإنّ تنمية الرأسمال البشري يعتبر مطمح الأمم الحية. لذلك تعد رعاية الإبداع وترقيته من بين المتطلبات الحالية للمجتمعات المتطورة، نظراً لما لهذا الأمر من أثر إيجابي على المستويين الاقتصادي – الاجتماعي والثقافي – الحضاري.
ما هو مجتمع المعرفة؟
أصبح مصطلح ثورة المعلومات وغيره من المفاهيم، كالمجتمع المعلوماتي ومجتمع المعرفة ومجتمع الحاسوب ومجتمع ما بعد الصناعة ومجتمع ما بعد الحداثة، ومجتمع اقتصاد المعرفة والمجتمع الرقمي وغيرها من المصطلحات، المميز الرئيسي لحقبة تاريخية هامة من تاريخ البشرية. ومجتمع المعرفة هو ذلك المجتمع الذي يحسن استعمال المعرفة في تسيير أموره وفي اتخاذ القرارات السليمة والرشيدة، وكذلك هو ذلك المجتمع الذي ينتج المعلومة لمعرفة خلفيات وأبعاد الأمور بمختلف أنواعها، ليس في بلده فقط بل في أرجاء العالم كله. لقد أفضت الثورة المعرفية إلى مجتمع المعرفة الذي أصبح يعتمد – أساساً – على المعارف كثروة أساسية، أي على خبرة الموارد البشرية وكفاءتها ومعارفها ومهاراتها كأساس للتنمية البشرية الشاملة، أي أنّ من هذه الموارد المعرفية يمكن إنتاج الكسب واستغلال الطاقات الإنتاجية بصفة أفضل من ذي قبل.
إنّ مجتمع المعرفة، بوضعه المعرفة في قلب المعادلات على اختلاف أنواعها ” يشكل فرصة تاريخية نادرة ونقلة نوعية فريدة تجعل من المعرفة أساس السلطان والكسب والجاه “، كما أنّ مجتمع المعرفة ” يضع الإنسان كفاعل أساسي، إذ هو معين الإبداع الفكري والمعرفي والمادي، كما أنه الغاية المرجوة من التنمية البشرية كعضو فاعل يؤثر ويتأثر ويبدع لنفسه ولغيره ” من خلال شبكات التبادل والتخاطب والتفاعل. وهكذا يتبين أنّ المعادلة الاقتصادية الجديدة ” لا تعتمد أساساً على وفرة الموارد الطبيعية ولا على وفرة الموارد المالية ، بل على المعرفة والكفاءات والمهارات، أي على العلم والابتكار والتجديد ” .
الأبعاد المختلفة لمجتمع المعرفة في العالم العربي
أصبح لمجتمع المعرفة أبعاد مختلفة ومتشابكة يجب استغلالها كما ينبغي حتى لا نبقى نعيش على هامش المجتمع الدولي، ومن أهم هذه الأبعاد ما يلي:
(1) – البعد الاقتصادي، إذ تعتبر المعلومة في مجتمع المعرفة هي السلعة أو الخدمة الرئيسية والمصدر الأساسي للقيمة المضافة وخلق فرص العمل وترشيد الاقتصاد، وهذا يعني أنّ المجتمع الذي ينتج المعلومة ويستعملها في مختلف شرايين اقتصاده ونشاطاته المختلفة هو المجتمع الذي يستطيع أن ينافس ويفرض نفسه.
(2) – البعد التكنولوجي، إذ إنّ مجتمع المعرفة يعني انتشار وسيادة تكنولوجيا المعلومات وتطبيقها في مختلف مجالات الحياة في المصنع أو المزرعة والمكتب والمدرسة والبيت… الـخ. وهذا يعني كذلك ضرورة الاهتمام بالوسائط الإعلامية والمعلوماتية وتكييفها وتطويعها حسب الظروف الموضوعية لكل مجتمع سواء فيما يتعلق بالعتاد أو البرمجيات. كما يعني البعد التكنولوجي لثورة المعلومات توفير البنية اللازمة من وسائل اتصال وتكنولوجيا الاتصالات وجعلها في متناول الجميع.
(3) – البعد الاجتماعي، إذ يعني مجتمع المعرفة سيادة درجة معينة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع وزيادة مستوى الوعي بتكنولوجيا المعلومات وأهمية المعلومة ودورها في الحياة اليومية للإنسان. والمجتمع هنا مطالب بتوفير الوسائط والمعلومات الضرورية من حيث الكم والكيف ومعدل التجدد وسرعة التطوير للفرد، خاصة إذا علمنا أنّ التغيير سيطال أسس العمل نفسها، ذلك أنّ العمل في أي حقل كان سيتوقف على إدارة المعلومات والتصرف بها عبر الأدمغة الاصطناعية ووسائل الإعلامية. ولذا سنشهد ولادة فاعل بشري جديد هو الإنسان العددي الذي ينتمي إلى عمال المعرفة (ذوي الياقات البيضاء) الذين يردمون الهوة بين العمل الذهني والعمل اليدوي، إذ لا فاعلية في العمل من غير معرفة قوامها الاختصاص والقدرة على قراءة رموز الشاشات، مما سيطرح إطاراً مفهومياً جديداً هو ” العمالة المعرفيــة “.
(4) – البعد الثقافي، إذ يعني مجتمع المعرفة إعطاء أهمية معتبرة للمعلومة والمعرفة والاهتمام بالقدرات الإبداعية للأشخاص وتوفير إمكانية حرية التفكير والإبداع والعدالة في توزيع العلم والمعرفة والخدمات بين الطبقات المختلفة في المجتمع، كما يعني نشر الوعي والثقافة في الحياة اليومية للفرد والمؤسسة والمجتمع ككل.
(5) – البعد السياسي، إذ يعني مجتمع المعرفة إشراك الجماهير في اتخاذ القرارات بطريقة رشيدة وعقلانية أي مبنية على استعمال المعلومة، وهذا بطبيعة الحال لا يحدث إلا بتوسيع حرية تداول المعلومات وتوفير مناخ سياسي مبني على الديمقراطية والعدالة والمساواة وإقحام الجماهير في عملية اتخاذ القرار والمشاركة السياسية الفعالة.
إنّ مجتمع المعرفة لا يقتصر على إنتاج المعلومة وتداولها، وإنما يحتاج إلى ثقافة تقيّم وتحترم من ينتج هذه المعلومة ويستغلها في المجال الصحيح، مما يتطلب إيجاد محيط ثقافي واجتماعي وسياسي يؤمن بالمعرفة ودورها في الحياة اليومية للمجتمع.
ومهما كان أمر الحركات الفكرية المختلفة، بما فيها حركة ما بعد الحداثة التي قد لا تعنينا كثيرا في العالم العربي على اعتبار أننا لم ننخرط في عمق الحداثة أصلاً، فمن المؤكد أنّ تنمية منظومة تكنولوجيا المعلومات ودمجها العضوي في مؤسساتنا التعليمية ومجتمعاتنا تشكل حاجة ملحة في عصر مجتمع المعرفة. مع العلم أنّ هذه المنظومة تحمل في طياتها قيما معرفية وثقافية هامة، إنها القيم المتصلة بالحاضر والمستقبل، إنها الروح الوثابة والمنهج النقدي الذي يستفز ركوننا إلى المسلمات الموجودة، ويحثنا على مراجعتها وإعادة النظر فيها.
ومن جهة أخرى، يكاد سؤال الهوية يكون الهاجس الوحيد الثابت في أية مقاربة لسيرورة مجتمع المعرفة، خاصة أنها أدخلت العالم في تفاعلات لم يعرفها من قبل، بسبب إسقاطها المستمر لحدود الزمان والمكان. لذلك أصبحت الشعوب والدول والثقافات أكثر حاجة للبحث عن شروط ومواصفات تؤكد اختلافها وتمايزها ووحدتها في آن واحد، بقصد تكوين علاقة واضحة بين الأنا والآخر.
إنّ أشدَّ ما يقلق البعض في القضايا التي يثيرها مجتمع المعرفة هو ما لها من آثار على الهوية والخصوصيات الثقافية، وهو قلق له ما يبرره في ظل ما نراه من محاولات قوى الهيمنة الاقتصادية تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات كافة وإخضاعها لنظام قيم وأنماط سلوك سائدة في مجتمعات استهلاكية، إذ يحمل فيض الأفكار والمعلومات والصور والقيم القادمة إلى كثير من المجتمعات إمكانية تفجّر أزمة الهوية، التي أصبحت من المسائل الرئيسية التي تواجه التفكير الإنساني على المستوى العالمي. وفي سياق هذه الأزمة تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية.
ويبدو أنّ هاجس الخصوصية الثقافية هو نفسه هاجس الأصالة والمعاصرة معاً، إذ يخطئ من يعتقد أنّ حماية الذات الثقافية تكمن في عزلها عن العالم الخارجي وحمايتها من مؤثرات الثقافة الكونية. فغني عن التوكيد أنّ الذات الثقافية المطلوب حمايتها من الاغتراب هي ثقافة التغيير الشامل وليست ثقافة الجمود والاحتماء بالسلف الصالح.
على أنّ بعض الدراسات تحاول التركيز على تاريخية ونسبية الهوية وعدم الإقرار بثباتها، مما يجعلها مرنة قد تتعايش أو تقتبس من ثقافات أخرى، بل قد تساعدها عوامل التقارب وسقوط الحواجز على تفاعل إيجابي وخلاق مع مجتمع المعرفة. لذلك، قد يكون السؤال ليس كيف نقاوم ثقافة مجتمع المعرفة ونحمي أنفسنا منها، ولكن كيف نعيش عالمنا الراهن بواقعية ودون تناقضات وتأزم وبلا إحساس بعقدة نقص أو خوف؟ كما أنّ بعض المقاربات ترى أنّ هذه الثقافة لا تهدد الهوية بالفناء أو التذويب، بل تعيد تشكيلها أو حتى تطويرها لتتكيّف مع الحاضر، فالإنسان يتجه نحو إمكانية أن يعيش بهويات متعددة، دون أن يفقد أصالته القومية.
إنّ الثقافات الإنسانية، مهما أغرقت في تفرّدها وأصالتها، هي ثقافات مولَّدة، وهي حصيلة تلاقح وتفاعل مع الآخر أكثر مما هي ناجمة عن عبقرية خالصة صافية. ومعنى هذا أنّ أحداً لا يستطيع أن يزعم اليوم أنّ ثقافة ما، مهما كانت منزلتها في نظر أصحابها، تستطيع أن تدّعي لنفسها مكانة متميزة تستأثر بها دون سائر الثقافات، أو أن تنظر إلى نفسها نظرة السيد وتنظر إلى غيرها نظرة العبد.
وعلى هذا الأساس، علينا أن ندعو إلى شراكة معرفية بين منتجي المعرفة والعلم في الشرق والغرب معاً، في الجنوب والشمال معاً، وفي كل أرجاء العالم، وأن ندعو بالمقدار نفسه إلى توظيف حصيلة هذه الشراكة وما تنتجه من معرفة وعلم في خدمة الإنسان، بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته ودينه، وأن نرفض مبدأ احتكار المعرفة تحت أية مظلة يحتمي.
ولا يفارق الوعي بهذه النزعة منطق المساءلة الذي يضع لوازم ثقافة مجتمع المعرفة موضع البحث، كاشفاً عن إمكاناتها واحتمالاتها المتعارضة، لا من المنظور الذي يرى بعداً واحداً من الظاهرة، وإنما من المنظور الذي يلمح التناقض داخل الظاهرة نفسها، ومن ثم يكشف عن إمكانات أن تنقلب بعض الوسائل على غاياتها الأولية، فتؤدي وظائف مغايرة ومناقضة في حالات دالة. فلا شك في أنّ ثورة المعلومات وتقدم تقنيات الاتصال، الملازمة لمجتمع المعرفة، يمكن أن تؤدي إلى نقيض الهيمنة لو تمَّ توظيفها بعيداً عن الاستغلال، ومن ثم إدراكها وإخضاعها لشروط مغايرة من علاقات الاعتماد المتبادل للتنوع البشري الخلاق.
إنّ الثقافة المواكبة لمجتمع المعرفة هي تلك التي تجعل من نفسها صدى للثورة المعرفية والتكنولوجية واستجابة لمتطلباتها، مما يفتح لها أفقاً لتركب مركبة التاريخ ولا تتقهقر أو تُهمّش، ولتستوعب قيم التجديد الحضاري، ولتبلور حداثة حقيقية.
ففي اقتصاد ومجتمع المعرفة سيكون المحتوى هو الأساس، فهو أهم المقوّمات بلا منازع، وذلك نظراً للأسباب الرئيسية التالية:
(1) – التنوع الواسع لمحتوى المعلومات، فهو يشمل نتاج صناعات النشر الورقي والنشر الإلكتروني والبرمجيات على اختلاف أنواعها ومستوياتها ومجالاتها.
(2) - حدة التشعب والتداخل، نتيجة للاندماج الشديد بين العوامل العلمية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، علاوة على الجوانب التشريعية والتنظيمية والقانونية.
(3) - الدينامية الهادرة، نتيجة لتسارع المتغيّرات التكنولوجية ونقلاتها النوعية، وقد تشابكت هذه المتغيّرات مع متغيّرات عديدة أخرى لا تقل عنها حدة، على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
(4) - جدة المشاكل وابتكارية حلولها، إذ إنّ معظم القضايا التي تطرحها إشكالية المحتوى هي من قبيل الأمور المستحدثة التي لم يعهدها العالم العربي من قبل، والتي تتطلب رؤى وحلولاً مبتكرة لم يتطرق لها الفكر الإنساني بعد.
وأمام الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة التي تصاحب مجتمع المعرفة لابدَّ من توفّر نظام تعليمي يحقق الجودة ويمنح الفرصة للحصول علي خبرات تعليمية تلبي الاحتياجات الآنية والمستقبلية لدفع عجلة التنمية الشاملة في العالم العربي. فلم يعد كافياً أن يعتمد التعليم على نقل الخبرة من المعلمين إلى الأجيال القادمة لأنّ المستقبل يحمل الكثير من التحديات، لذلك من الضروري أن نسلح أبناءنا بالقدرات التي تمكنهم من التعامل مع مشاكل وسيناريوهات لم نعاصرها ولم نتعامل معها ولم نتخيل إمكانية حدوثها.
لقد تغيّر مفهوم التعليم تغيّراً جذرياً وشاملاً في هذه الحقبة الزمنية التي تظللها ثقافة مجتمع المعرفة وتسيطر عليها آثار الثورة التكنولوجية والمعلوماتية. حيث أصبحت المعرفة الكلية بديلاً عن الاختزال، وأصبح التعليم لا يرتبط بالمدرسة وفترة التلمذة فحسب، ولكنه تعليم مستمر يسمح بحق الاختيار وحرية الاختلاف. وحيث أصبح التعليم هو المحرك الأساسي لمنظومة التنمية الاجتماعية الشاملة، وهو الوسيلة الفاعلة لتمكين الإنسان من الخبرات والقدرات ولإيجاد فرص العمل المتاحة في الإنتاج كثيف المعرفة.
كما تسببت ثورة المعلومات في تضاعف المعرفة الإنسانية وفي مقدمتها المعرفة العلمية والتكنولوجية، وكان من نتيجة ذلك تحوّل الاقتصاد العالمي إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة العلمية، وأصبحت قدرة أية دولة تتمثل في رصيدها المعرفي، حيث تقدر المعرفة العلمية والتكنولوجية في بعض الدول بنحو80% من اقتصادها. وإن كان هذا يعني شيئاً فإنه يعني أنّ مجتمع المعرفة يرتبط بمفهوم مجتمع التعليم الذي يتيح كل شيء فيه فرصاً للفرد ليتعلم كي يعرف، ويتعلم كي يعمل، ويتعلم كي يعيش مع الآخرين، ويتعلم كي يحقق ذاته. وكل ذلك يتطلب ضرورة وجود شريحة عريضة من المجتمع من قوى عاملة على مستوى تعليمي عالٍ ومتطور وقادر على الإبداع والابتكار، وهذا يمثل تحدياً لنظم التعليم في العالم العربي، ويلقي عليها مسؤولية سرعة تطوير نفسها بحيث تصبح مجتمعات منتجة للمعرفة.